مشروع الجزيرة بالسودان والمزارع الجماعية (الكولخوزات) بروسيا: مقارنة تجربتين .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
The Gezria Scheme in the Sudan and the Russian Kolkhoz: A Comparison of Two Experiments
T. D. N. Versluys ت. د. فيرسيلوسد
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في مقال طويل (من 28 صفحة) نشر في العدد الثاني من مجلة "Economic Development and Cultural Change النمو الاقتصادي والتغير الثقافي" الصادرة عن دار نشر جامعة شيكاغو في عام 1953م.
وكاتب المقال رجل هندي من نيودلهي، إلا أنني لم أجد أي معلومات عنه في الشابكة العالمية.
المترجم
**** **** ****
هل هنالك أي مبرر حقيقي وواقعي لمقارنة مشروع الري في السودان بالمزارع الجماعية في روسيا؟ ألن يصاب المدير الروسي بكثير من الامتعاض لمقارنة مزارعه (الشعبية) الجماعية بمشروع يحمل كل صفات الرأسمالية؟ وألن يشعر المسئولون البريطانيون والسودانيون بالفخر من إنجازهم الضخم في قلب أفريقيا، ويستغربون من مجرد مقارنة مشروعهم العظيم بذلك المشروع السوفيتي؟ ربما. ولكنا إن أمعنا النظر في المشروعين، فسنجد فيهما تشابها كثيرا، يؤكد أن للمقارنة أسبابها ودواعيها.
وأول وجوه ذلك الشبه هو أن المشروعين كانا قد أقيما في وقت واحد تقريبا، واستخدمت في كليهما آلالات وجررات، وحاول كليهما تحسين الإنتاج الزراعي، وكان ذلك يد أمرا مستحيلا قبل قيامهما. وتميز كلا المشروعين بعدم المرونة وبفرض قواعد إجبارية على المزارع، الذي لا تتاح له إلا فرصة محدودة جدا للقيام بعمله الزراعي كما يريد. أي أن المزارع في كلي المشروعين ما هو إلا في حقيقة الأمر سوى عامل مزرعة (farmhand).
ويزعم القائمون على أمر المشروعين السوداني والروسي أنهما قد رفعا من مستوى معيشة العاملين بهما، وأن لهما أهمية قصوى في مجمل الاقتصاد القومي بالبلدين، وأهدافا اجتماعية وسياسية تتعدى مجرد الأهداف الاقتصادية التي دعت لقيامهما، إذ أنهما جعلتا العاملين بهما من المواطنين أكثر وعيا بذواتهم، وأكثر انغماسا في حياة بلادهما وشئونها العامة.
إذن هنالك كثير من الأسباب والمبررات لمقارنة تشابه المشروعين، وهذا ما يدعونا للنظر ببعض التعمق في تفاصيل ذلك التشابه الأساس (رغم وجود بعض الاختلافات أيضا). ويجب أن ندرك أنه في التحليل النهائي، سنصل إلى أنه من ناحية عملية فقد كانت أهداف المشروعين الرئيسة واحدة، رغم اختلاف مواقف (وايديلوجيات) من أقاموهما.
وسأقوم في هذا المقال بوصف المشروعين الزراعيين، وأتناول بعض أوجه الشبه بينهما (يتعلق كل ما ورد في بقية هذا المقال بمشروع الجزيرة دون أي إشارة للمزارع الجماعية الروسية، إذ أن ذلك ورد في مقالين نشرا لاحقا في ذات المجلة عامي 1953 و1954م. المترجم)
1. مشروع الجزيرة
بعيد قيام الحكم الثنائي (البريطاني – المصري) في السودان عام 1898م، قام اللورد كتشنر، أول حكام السودان في عهده الجديد، بالتخطيط لتنمية اقتصادية واجتماعية بالبلاد. ولا يمكن إنكار أن أفكاره كانت تقدمية، وأنه كان يهدف لإعطاء السودانيين فرصة عادلة للمشاركة في التنمية المتوقعة، ولمنعهم من الوقوع ضحايا للمقرضين عديمي الضمير، ولمُلاَّك الأراضي الزراعية الذين كانوا لا يزورونها أبدا إلا لجمع غلتها. وكان كتشنر يهدف لإنشاء مشروع يدار بصورة مشتركة بواسطة الحكومة والمزارعين حتى يعطي الجانبين كل ما يمكن الحصول عليه من جهدهما المشترك. وسجل السير وليام قارستن في عام 1904م في تقرير له عن حوض أعالي النيل أن هنالك أراض خصبة واسعة وأعداد كافية من السكان تسمح بإقامة مشروع زراعي كبير في وسط شرق الجزيرة، أي بين النيلين الأبيض والأزرق (وليام قارستن هو مهندس بريطاني مولود بالهند، عمل مديرا لمصلحة الري ثم مصلحة الأشغال العامة بالحكومة المصرية، ثم مديرا لشركة قناة السويس. المترجم). وكانت خطة قارستن هي إنشاء سد على النيل الأزرق لرفع مستوى المياه بما يكفي لري أراض في الجزيرة الخصبة قدرها بنحو مئة ألف فدان، وزراعة القمح فيها.
وفي ذات تلك السنوات، كانت هنالك تجربة لزراعة القطن طويل التيلة في الزيداب يقوم بها الأمريكي لي هنت، والذي كان – بعد زيارة له إلى لندن – قد أنشأ في عام 1904م ما سماه "رابطة (أو اتحاد) مزارع السودان التجريبية Sudan Experimental Plantations Syndicate "، وبعد سنوات من نجاح تلك التجربة، أزيلت من اسم المشروع كلمة "التجريبية" وكان ذلك في عام 1911م، عندما أدخلت الحكومة بالنيل الأزرق طريقة الري بالمضخات (الطلمبات)، ودعت "رابطة (أو اتحاد) مزارع السودان" لإدارة المشروع. وهذا ما حدث بداية من يوم 17 أكتوبر 1919م. وكانت تلك هي بداية تعاون طويل ومثمر اِسْتَمَرّ حتى عام 1950م.
وتواصل العمل ببطء في خطة قارستن حتى قامت الحرب العالمية الأولى. وفي غضون تلك السنوات تقرر أن تزاد عدد الأفدنة التي ستروى من ذلك المشروع إلى ما لا يقل عن 300000 من الأفدنة. وقامت الحكومة البريطانية بعد إنتهاء الحرب بإقتراض مبلغ 3 ملايين من الجنيهات الإسترلينية من "رابطة زراع القطن البريطانية British Cotton Growing Association" لتمنحها لحكومة السودان، إضافة لقرض سابق قدره 3 ملايين من الجنيهات الإسترلينية. ثم زيد القرض لاحقا إلى 13 مليون نظرا لارتفاع قيمة المواد وأجور العمالة.
وكان العمل الرئيس هو تشييد سد على النيل الأزرق بالقرب من سنار يبلغ طوله 3026 مترا، وسعته 681 مليون مترا مكعبا، وبلغ طول القناة الرئيسة والقنوات المتفرعة منها 323 كيلومترا. واكتمل العمل بالسد في 1925م وصار بإمكانه ري 240 ألفا من الأفدنة، وكانت كلفته الإجمالية 11 مليون جنيه استرلينيا. ثم تتطلبت زيادة الفدادين المروية إلى 900 ألفا ارتفاع الكلفة الإجمالية للسد إلى مبلغ 13 مليون جنيها استرلينيا.
ولم يكن كل ذلك ممكنا دون عمل تسوية مع مصر لتنظيم استخدام مياه النيل. وبالفعل أبرمت اتفاقية في 7/5/1929م سمح بموجبها للسودان استخدام 922 مليون متر مكعب من مياه النيل سنويا. وكان هذا يعني تقليل الأراضي التي يمكن ريها بالسودان إلى 300 الف فدان. غير أن تربة الجزيرة، لحسن الحظ، كانت من النوع الذي لا تنفذ منه المياه (impervious) بسهولة، وبذا لم تكن تفقد فيها كمية كبيرة من المياه. وأمكن ري الفدان الواحد في الجزيرة بكمية مياه أقل مما قدر له عند بدء التفكير في قيام المشروع وبناء السد.
وكان المشروع شراكة بين أطرف ثلاثة: حكومة السودان، ورابطة (أو اتحاد) مزارع السودان، والمزارعين المستأجرين (tenants). وكانت تلك الشراكة فريدة في نوعها، ميزت مشروع الجزيرة عن غيره من المشاريع. فالمزارعين فيه لا يعملون نظير أجر معلوم، ولكنهم يتقاسمون أرباح المشروع عند نهاية موسم الزراعة. وكانت تلك الأرباح تقسم للحكومة بنسبة 38 - 40%، ومثلها للمزارعين، بينما تأخذ الرابطة 20 – 22%. ثم دخلت "شركة كسلا للأقطان" كشريك لتلك الرابطة في 1928م، وتقاسمت معها نسبتها المقررة من أرباح المشروع.
وفي الأول من يوليومن عام 1950م انتهى عقد الشركتين مع الحكومة، وحل محلهما مجلس إدارة حكومي سمى "مجلس إدارة مشروع الجزيرة Sudan Gezira Board".
2. تنظيم مشروع الجزيرة قبل 1950م
كانت منطقة الجزيرة قبل إنشاء المشروع من أهم مناطق زراعة الذرة مطريا، حيث كانت تنتج منها نحو 130000 طن. وبذا فقد كان هنالك ملاك شرعيون لأرض المشروع. وقد تم بالفعل احترام حقوقهم، وتم تسجيل أراضيهم رسميا، وسنت قوانين تم بموجبها فرض شرط على هؤلاء الملاك بأن يقوموا بتأجير أرضهم للحكومة لمدة 40 عاما بسعر عشرة قروش للفدان، وهو سعر مرتفع بمقياس أسعار تلك الأراضي قبل ريها. وحظرت تلك القوانين على الملاك بيع أراضيهم دون موافقة الحكومة. ولم تكن الحكومة لتوافق على البيع إلا إذا كان لمزارعين آخرين (أو شيوخ) بالمشروع، أو لأحد أقرباء المزارع الذي يرغب في بيع أرضه. ويمكن للمزارع (بالطبع) بيع أرضه للحكومة بسعر ثابت قدره 80 قرشا للفدان.
ويتضح من ذلك أن الحكومة كانت تسعى لتقييد الملكية الخاصة للأرض. ولم يكن للمالك أن يهب أرضه إلا في الحواشات التي تبلغ مساحتها 10 أفدنة، إذ أن الحكومة كانت قد قسمت المشروع لحواشات تبلغ الواحدة منها 10 أفدنة، ولم تكن ترغب في تقسيم مساحة الحواشة الواحدة لأكثر من مرة واحدة دون تحديد.
أما توزيع الحواشات على المزارعين فقد نظم بناءً على لوائح محلية صدرت في عام 1921م، وتم تعديلها لاحقا في عامي 1923 و1927م. فقد سمت تلك اللوائح كل من كان يحوز على 40 فدانا أو أكثر (4 حواشات أو أكثر) بـ "أصحاب الحقوق right holders" وأعطتهم الأولوية، ثم المرشحين "nominees" )الذين يرشحهم من يمتلكون 80 فدانا أو أكثر من المزارعين)، ثم يأتي أخيرا من يسمون " التفضيليون preferential "، وهم من يمتلكون أكثر من 20 وأقل من 40 فدانا. وسموا بالتفضيلين لأنهم كانوا "يفضلون" عند توزيع الحواشات على من لم يكن يمتلكون أي أراضي. وكان توزيع الحواشات يتم بواسطة لجان مكونة من ممثلين للحكومة وللشركتين والمزارعين، إلا أن الشركتين كانت لهما الكلمة الأخيرة في أمر التوزيع.
أما المهام المسندة للشركاء الثلاثة فكانت كالآتي: تمنح الحكومة الأرض وتوفر المياه، وهي مسئولة كذلك عن كل ما يتعلق بالري والأبحاث الزراعية. وتقوم الشركتان بتنظيف الأرض وتحضيرها للزراعة بالحراثة الميكانكية (خصما من حساب المزارع)، وبالاشراف على قنوات المياة الصغيرة. أما مهام المزراعين فكانت هي العمل في الزراعة في الحواشات وتنظيف قنوات المياة الصغيرة. وكانت الشركتان تقومان بإدارة المشروع عن طريق 100 من المفتشين البريطانيين (من خريحي كليات العلوم الزراعية)، الذين كانوا مكلفين بمتابعة أداء وتوقيت كل العمليات الزراعية. وكانت مسئولة أيضا عن صيانة الجرارات والآلات الأخرى وحلج القطن وتسويقه. ويحصل المزارعون على سلفية مقدما من الشركتين لمقابلة تكاليف البذر وإزالة الأعشاب الضارة ولقط القطن. وتخصم تلك السلفيات من نصيب المزارعين عقب انتهاء الموسم الزراعي، إضافة لتكاليف زراعة القطن وحلجه وتعبئته في جوالات وبالات، ونقله والتأمين عليه وترحيله وتسويقه.
وكان على المزارعين زراعة 10 فدادين (على الأقل) قطنا تحت إشراف المفتشين الزراعيين. أما الإشراف اليومي على المزارعين فقد كان من مهام "الصمدة" (والصمد هو شيخ سوداني يمثل القرى في أي مفاوضات مع مفتشي الشركات، وينقل تعليماتهم ونصائحهم للمزارعين).
وبما أن الحواشة تتكون من 40 فدانا، فيمكن للمزارع زراعة محاصيل أخرى غير القطن. غير أن التجربة أثبتت أنه من الأفضل ترك نصف مساحة الحواشة دون زراعة (بورا)، والتناوب على زراعتها بين كل موسمين. ويحصل المزارع أيضا على الماء مجانا لزراعة محاصيل غذائية لاستخدامه الخاص، ولا يدفع على تلك المحاصيل أي ضرائب.
3. ظروف عمل المزارعين
يتضح مما سبق ذكره أن مزارع مشروع الجزيرة لم يكن مزارعا عاديا، بل شريك في الانتاج، يعمل في "أرضه" التي يستأجرها من الحكومة (نظير 10 قروش للفدان). وهذا وضع غريب بعض الشئ، إلا أنه ليس فريدا. ففي يافا (Java) مثلا يقوم الرجل بتأجير أرضه الزراعية لجاره الثري، الذي يقوم بدفع الإيجار مقدما، ثم يرجع ذلك الجار الثري الأرض له ليزرعها عن طريق المشاركة. وفي حالة مشروع الجزيرة فإن المزارع يسـتأجر الأرض (40 فدان)، وله الحق في زراعتها، أو ترشيح أحد أقربائه أو مزارع آخر لزراعتها.
وعند مقارنة نصيب مزارع مشروع الجزيرة بما كان يحصل له المزارع السوداني في غيره نجد أن مالك الأرض يحصل على 10% من المحصول، ويحصل صاحب الساقية على 10% كذلك، بينما يحصل مالك ثور الساقية على 20% من المحصول. وتكلف عمليات شراء البذور وأدوات الزراعة نحو 13% من قيمة المحصول، بينما يكلف علف ثور الساقية نحو 7%، ولا يتبقى للمزارع غير نحو 40% من قيمه محصوله. وبذا يتضح أن نسبة الـ 40% التي كانت تعطى لمزارع مشروع الجزيرة تماثل ما كان سائدا عند المزارعين في بقية أنحاء السودان. غير أن مزارع مشروع الجزيرة يحصل – في غالب الأحوال- على كمية من محصول القطن تفوق تلك التي يحصل عليها المزارع في غيره. ويضاف إلى ذلك أن القطن ليس هو المحصول الوحيد الذي يزرعه مزارع مشروع الجزيرة.
وعند المقارنة بما تجنيه الحكومة من دخل من المشروع، نجد أن استفادة الشركتين تفوق مكاسب الحكومة. فهما لم تتعرضا لأي خسارة مالية غير خسارتهما في سنة 1932م، والتي بلغت 14584 من الجنيهات المصرية (ج م)، بينما كانت جملة ما جنياه في الأعوام 1926 – 1949م نحو 560000 ج م. وكانت جملة دخل الحكومة السودانية في ذات الفترة 430000ج م. غير أنه من الواجب ذكر أنه لولا خبرة الشركتين في انتاج القطن لأخفق المشروع تماما منذ البداية.
أما المزارعين فقد بلغ ما استلموه من استحقاقات بين عامي 1929 – 1949م نحو 600000 ج م (أي 235 ج م للمزارع الواحد سنويا). غير أنهم كانوا يرون دوما أن دخلهم من الزراعة في المشروع أقل مما يستحقونه. بينما تزعم الحكومة أنها توفر لهم الأرض والمياه مجانا لزراعة اللوبيا والذرة، والتي يملكون محصولهما دون أي مشاركة لأحد. غير أنه يصعب تحديد قيمة هذين المحصولين سنويا. ويجب أن نذكر هنا أنه ليس بمقدور المزراع أن يقوم بمفرده بكل الأعمال الزراعية، مما يستلزم استئجار عدد من العمال الزارعين. بينما تقول الشركتان أن دخل مزارع المشروع كان سيزيد زيادة كبيرة لو عمل المزارع مع عائلته في المشروع دون الحاجة لعمل هؤلاء العمال الزراعيين. فهما يقدران أن المزارع (حتى دون القيام بأي عمل زراعي بيديه) يمكنه الحصول، زيادة على الـ 235 ج م سنويا، على عشرين من الجنيهات المصرية من بيع الخضروات التي يزرعها بحواشته، وعلى 15 ج م من بيع أنعامه التي يسمنها بالمشروع، وعلى 4.5 ج م من تأجير جمله للنقل، أي أن جملة ما يمكنه تحصيله زيادة على نصيبه من زراعة القطن يصل إلى 275 ج م. بل قد يصل إلى 335 ج م إن عمل المزارع (مع أفراد عائلته) دون الاستعانة بعمال زارعيين. ولكن من ناحية عملية فإن ذلك لم يكن يحدث أبدا، فالمزارع بمشروع الجزيرة يترك عادة كل أعمال الزراعة اليدوية للعمال المستأجرين.
غير أن المزارعين ظلوا يرسمون صورة متشائمة عن وضعهم المالي في الشراكة مع الحكومة والشركتين حتى تم تأميم (وسودنة) المشروع في يوليو من عام 1950م.
(أورد الكاتب فقرة من خطاب شخصي أرسله له السيد آرثر قيتاسكل (1900 – 1985م) رئيس مجلس إدارة مشروع الجزيرة، الذي عمل بالمشروع من عام 1923 إلى 1952م. جاء في ذلك الخطاب التالي:
**** **** ****
" قبل إنشاء المشروع كان الأثرياء في تلك المنطقة يعتمدون على المسترقين في أداء الأعمال الزراعية، بينما كان فقراء الناس يعملون بأيديهم مع عائلاتهم في الزراعة المطرية. أما في مشروع الجزيرة المروي، فالعمل يتطلب مزيدا من الاهتمام وحثا متواصلا من قبل المراقبين. غير أن المزارع يسارع بتحاشي أي عمل يدوي بمجرد حصوله على مبلغ من المال، ويهرع لإستئجار واحد أو أكثر للعمل في حواشته. ويكون هذا العمل هو أول بند يصرف عليه ما تحته من مال. ورغم أنهم يحتجون عندما نقول لهم هذا الكلام في أيام يسرهم، فهم في الواقع لا يقومون بأي عمل يذكر إن وجدوا لهم عملا آخر. وربما يكون مرد ذلك هو ترفع الواحد منهم عن الأعمال اليدوية، أو تقليد من يعتقد أنهم أعلى مقاما منه (snobbery)، وهذا شعور متأصل عند كثير من العائلات هنا. وفي هذا الصدد أذكر لك أن بعض الأعمال عندهم أشد وضاعة من غيرها. فالأعمال التقليدية مثل بذر البذور وإزالة الحشائش الضارة عندهم مقبولة بعض الشيء، أما أعمال الزراعة الشاقة التي تتطلب القلع أو الحفر فهي أعمال في نظرهم لا تليق بالرجل الجنتلمان (gentleman)، ويريد كل واحد منهم أن يعد "جنتلمانا"! ويتراوح ذلك الشعور صعودا وهبوطا بحسب إزدهار وضعهم المالي. ففي أيام المشروع الأولى في سنوات الكساد الاقتصادي بين عامي 1923 – 1934م كان المزارعون يعملون بأيديهم مع أفراد عائلاتهم في كل الأعمال الزراعية دون استثاء. أما الآن فإنهم لا يأدون إلا أقل القليل من يسير الأعمال. وهذا دليل قوي على أن مستويات معيشتهم لا يمكن أن تكون سيئة").
**** **** ****
ولا بد من التأكيد على أن "مستويات المعيشة" لا ينبغي أن تقوم بصورة مطلقة. فمقارنة استهلاك مزارع مشروع الجزيرة باستهلاك المزارع الأمريكي سيعطي بالطبع نتائجا غير واقعية. فينبغي مقارنة مستوى معيشة مزارع مشروع الجزيرة بمستوى معيشة بقية السودانيين. حين ذلك فقط نتمكن من معرفة هل لمزارع الجزيرة أسبابا للرضا والقناعة بأوضاعه. ولا يخفى أن ممثلي المزراعين ليسوا راضين عن تلك الأوضاع. غير أن الدراسات والاحصائيات والاستبيانات التي أجريت عن مصاريفهم اليومية أثبتت أن قُوتهم أفضل بكثير مما يستطيع السوداني (العادي) الحصول عليه (ذكر الكاتب أن باحثا غربيا أشار (قبل زيادة أسعار القطن العالمية) إلى أن الناس في قرية ما بدارفور أو البونقا بجنوب السودان قد يكونون أفضل حالا من حال الناس بأوروبا، فلا شئ من أساسيات الحياة المادية ينقصهم). وعند مقارنه ما يأكله الفرد في بونقا (أو العالياب) نجده أنه يعادل نصف ما يأكله المزارع في الجزيرة عادة، مما يؤكد أن أوضاع مزارع مشروع الجزيرة ليست سيئة أبدا. وهذه قائمة بما يصرفه المزارع بمشروع الجزيرة يوميا على عائلته المكونة من 6 أفراد في عام 1949م، كما وردت من ممثلي المزارعين أنفسهم (أورد الكاتب خطأ أن المجموع هو 440، بينما هو 425 م. المترجم)
المواد المبلغ المنفق (بالمليم)
نصف كيلة ذرة وطحنها 140
لحم (نصف وقة، (0.63 كجم) 70
بصل، بهارات، ويكة، فحم 60
سكر وشاي وقهوة 80
بارفاين وحطب وماء ولبن 70
المجموع 440
وقدر ممثلو المزارعين أن المزراع الذي يعول عائلة مكونة من 6 أفراد يحتاج إلى 15 ج م شهريا.
ويتضح عند المقارنة أن مزارع مشروع الجزيرة يعيش في مستوى جيد. فما يأكله من لحم يوميا يفوق حصة اللحم الأسبوعية الممنوحة للإنجليزي في فبراير من عام 1951م. وما يمتلكه مزارع المشروع يفوق ما عند السوداني (العادي) في مناطق أخرى. فقد لاحظ بعض زوار المشروع وجود بيوت مبنية بالحجر بها ثلاجات، ويسمع صوت الراديو منبعثا من كثير من بيوت المزارعين. ولا بد أن ذلك كان ملاحظا في السنوات التي ارتفعت فيها أسعار القطن.
4. أوضاع العمالة المستأجرة
لقد كان هنالك كما ذكرنا آنفا جماعة كثيرة العدد من "المزارعين" الذين لا يقومون بأي عمل. ومن المهم أن نعلم من هم الذين يقومون لأمثال هؤلاء بأعمالهم. واضح أن هنالك عمالة قدمت للمشروع (غالبا من غرب السودان) لتقوم بما لا يقوم به "المزارعون" في حواشاتهم (مثل عمليات البذر وتنظيف الأرض من الحشائش ولقط القطن) نظير عائد مادي. ويكثر وجود هؤلاء العمال في موسم لقط القطن (بين يناير وأبريل من كل عام). وكانت هنالك جهات منظمة تتولى جلب هؤلاء العمال للمشروع، والذين غدوا، مع مرور السنوات جزءً من الحياة الاقتصادية في المناطق التي قدموا إليها.
وقدر أن ما بين 110000 إلى 145000 قدموا للمشروع (خاصة في موسم لقط القطن) للعمل بين عامي 1939 و1942م. وكانت تكلفة ذلك العامل على المزارع (بحسب ما زعمه المزارعون) في عام 1949م تبلغ 6 ج م (كانت تكاليف كل عمليات الانتاج تبلغ في ذلك العام 106 ج م). بينما تزعم الشركتان أن ما ينفقه المزارع من أجور للعمالة بلغ 65 ج م في عام 1949م (دون احتساب قيمة عمل المزارع نفسه) وإن كان بالمشروع نحو 20700 مزارع، فسيكون مجموع المبالغ التي أنفقت علي العمالة المستأجرة هو 1345500 ج م.
ويصعب تصنيف هذه العمالة. فقد كان بعضها من المقيمين في قرى المشروع (دون أن يكون لهم حواشات خاصة بهم). وكان بعضهم من "العرب" المهاجرين، وكانت أعداد هؤلاء في تزايد مستمر. ويعيش هؤلاء على زراعة الذرة مطريا، ولا يقدمون على المشروع إلا في موسم لقط القطن. وهنالك أخيرا المهاجرين من غرب السودان وغرب أفريقيا الذين لا تربطهم صلات قبلية بالسكان المحليين. وأقام هؤلاء إقامة دائمة بالمنطقة.
ومع ارتفاع أسعار القطن عالميا وازدهار أحوال مزارعي المشروع وضحت الفروقات الاجتماعية بينهم وبين العمال الزراعيين الذين يعملون معهم، خلافا لما كان عليه الحال في أيام الكساد الاقتصادي، حين لم تكن هنالك فوارق اقتصادية أو اجتماعية كبيرة بينهما.
ولا بد من تذكر أن مسألة استيعاب هؤلاء المهاجرين في المشروع ضرورة هامة، إذ سيكون لها أهمية عظيمة في مستقبل الجزيرة السياسي والاقتصادي.
5. قضايا وطنية وسياسية
لم يكن من المستغرب أن يؤدي التضخم المصحوب بارتفاع كبير ومستمر في تكلفة العمالة إلى حدوث قلاقل في المشروع. فقد قللت القروض (السلفيات) التي كانت تعطي للمزراعين في عام 1946م بنحو 20% عن العام الذي سبقه. وكان ذلك في غضون أيام صحوة واهتمام بالسياسة. وكان رأي الحكومة هو أن "سكان الريف لا يفقهون قليلا أو كثيرا فيما يجري (في المدن؟) ...ولكنهم يقعون بسهولة ضحايا للتأثيرات والدعايات السياسية". وفي ذلك العام كان محصول القطن مخيبا للآمال (انتج الفدان 3.352 قنطار، بينما كان ينتج عادة نحو 4 قناطير). وأدت تلك الظروف لقيام المزارعين بإضراب في يونيو 1946م، بعد أخفقت الحكومة في تنفيذ مطالب تقدموا بها، شملت تقسيم الأموال المودعة في "صندوق المزارعين الاحتياطي Tenants' reserve Funds" عليهم لقلة معرفتهم بخبايا طريقة إدارة ذلك الصندوق. ووافق الحاكم العام نتيجة لذلك الاضراب على ذلك المطلب (ووصفه في تقرير لاحق له بـ "المعقولية"). وبالفعل تم توزيع أموال ذلك الصندوق ونال كل مزارع عشرين جنيها منه. ويعد ذلك الإضراب هو أول إضراب مهم في السودان الحديث، وأعقبه في ذات العام إضراب عمال السكة حديد. وعزا الحاكم العام في تقريره السنوي عام 1947م حركة الإضرابات إلى إرتفاع تكاليف المعيشة. وينبغي توخيا للدقة أن نضيف سببا آخر لتلك الإضرابات وهو تزايد وعي اليقظة / الصحوة السياسية المناهضة للاستعمار التي سادت في البلاد. ومن تراجيديات الوضع الاستعماري أن "الصحوة السياسية" تكون عادة بسبب (أو من تحضير) السلطات الإستعمارية نفسها، رغم أن تلك السلطات تصاب بالدهشة عند حدوث تلك الصحوة، وأن تلك الحركة تكون دوما (ودون استثناء) معارضة للحكومة الاستعمارية التي صنعتها.
لقد ظلت السياسة البريطانية في السودان تسعى، منذ الحرب العالمية الأولى، لنقل بعض سلطاتها للسودانيين (devolution ). وتمثل ذلك في أعداد السودانيين العاملين في الوظائف الحكومية (37% في عام 1920م، 51% في عام 1930م، و85% في عام 1947م)، ولكن عين منهم نحو 112 فقط في وظائف كبيرة (يمثلون نحو 20% من مجموع كبار الموظفين). وتحقق كل ذلك بسبب انتشار التعليم، رغم ما شاب توسعه من بطء بسبب الأوضاع الاقتصادية (أورد الكاتب هنا احصائيات كثيرة عن أعداد الطلاب في كل المراحل الدراسية في عام 1947م، وخلص إلى أن مجمل أعداد الطلاب في السودان في ذلك العام بلغ 85000، أي ما يعادل نحو 1% فقط من عدد السكان الكلي، وهو عدد أقل من معدل كثير من أقطار العالم. المترجم).
ورافق التوسع في التعليم وعي مجتمعي متزايد في منطقة الجزيرة فأفتتحت في مدينة وادي مدني عام 1947م مدرستان أوليتان ومكتبة عامة ومسرح ونادي، وتم التخطيط لتشييد مزيد من المدارس واستاد لكرة القدم وغرفة تجارية ودار عرض (سينما). وعم المدينة والمنطقة حراك اجتماعي وسياسي نشط. وبدأت فيها تحركات سياسية وطنية مناهضة لقيام الجمعية التشريعية في عام 1948م.
إن نقل السلطات (للسودانيين)، وتعيين وزراء سودانيين (لوزارات الزراعة والصحة والتعليم)، وفتح بعض الفنادق المختارة للملونين لم يكن ليحدث بمثل تلك السرعة التي تم بها إن لم تكن صادرات القطن وفيرة (!؟ المترجم). فقد مثل القطن وبذوره في عام 1939م ما يعادل 68% من جملة صادرات السودان. وارتفعت تلك النسبة إلى 75% و76% في عامي 1948م و1949م، على التوالي. وأتى من مشروع الجزيرة ما يعادل ثلاثة أرباع كمية القطن السوداني المصدرة، ومنه أتى أكثر من نصف جملة الصادرات السودانية.
alibadreldin@hotmail.com