السودان ومصر: عبد الله بيه خليل .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
السودان ومصر
The Sudan and Egypt
Abdulla Bey Khalil عبد الله بيه خليل
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة - ببعض التصرف - لمقال نشره السيد عبد الله خليل (1892 – 1970م) رئيس وزراء السودان الأسبق (بين يوليو 1956 ونوفمبر 1958م) وسكرتير حزب الأمة، في المجلة البريطانية The Spectator ، وذلك في عددها الصادر في يوم 22/11/ 1946م.
عرفت المجلة المحافظة التي بدأت في الصدور عام 1828م الكاتب بأنه "سكرتير حزب الأمة، الذي ينادي باستقلال السودان، مع الإبقاء على علاقة وثيقة ببريطانيا".
المترجم.
***** *****
أصيب السودانيون بخيبة أمل عظيمة عندما سمعوا بأن قضية سيادة السودان قد تم تقريرها، كما يبدو، على يد البريطانيين والمصريين دون أي أعتبار لرغبات السودانيين.
لقد ظل السودان، عبر القرون الماضية، قطرا مستقلا منذ أن دخله العرب في القرن الثاني عشر، ومنذ أن أقيمت على أرضة سلطنة الفونج في سنار. وبقيت تلك السلطنة تحكم السودان حتى غزاه محمد علي باشا خديوي مصر في عام 1820م.
وقام محمد علي باشا بغزو السودان باسم خليفة المسلمين العثماني. ورغم أن حملة محمد علي كانت تمثل خليفة المسلمين (وهو تمثيل له وزنه الديني المقدر)، إلا أن ذلك لم يجعل السودانيين يترددون أو يحجمون عن مقاومة جيشه إلى أن هزمتهم آلته الحربية المتقدمة، مقارنة بما كان عند السودانيين آنذاك. ورفع محمد علي العلم التركي، إلا أنه حكمه كان حكما ظلوما غشوما، فثار عليه السودانيون بعد سنة واحدة من غزوه لبلادهم، وأحرقوا ابنه إسماعيل قائد ذلك الجيش الغازي. وبقي الحكم التركي – المصري لستين عاما في السودان، مثالا لا نظير له في تاريخ الفساد وسوء الحكم. وفي هذا الأمر لا أراني بحاجة لأذكر القراء بأمثلة لسوء حكم ذلك النظام، فيكفي ما كتبه الجنرال غردون وآخرون عن سوء حكم السودان إبان ذلك العهد.
ومن المعلوم أن الحكم التركي قد سقط في عام 1885م بثورة قادها المهدي، وبتلك الثورة استعاد السودان استقلاله الكامل لفترة امتدت إلى ستة عشر عاما، وأعلنت الحكومة المصرية رسميا إخلاء جميع رعاياها من السودان. ثم أعادت قوات بريطانية – مصرية غزو السودان تَارَةً أخرى في عام 1898م. ودافع السودانيون بشجاعة منقطعة النظير عن استقلالهم، وهزمتهم – هذه المرة أيضا- آلة الغزاة الحربية المتقدمة بقيادة كتشنر لورد الخرطوم في معركة أم درمان عام 1898م. وأسست الحقوق الإدارية للبلدين (بريطانيا ومصر) على أساس ذلك الانتصار. غير أنه يجب تذكر أنه لم يكن لأي من بريطانيا أو مصر أي سلطة على السودان قبل عام 1898م، ولم يرد أي ذكر في الاتفاقية التي أبرمت بينهما لسيادة مصر على السودان. وكذلك كان الحال عند إثارة مصر لأمر "السيادة على السودان" مرة أخرى في الاتفاقية التي أبرماها في عام 1936م. وفي الاتفاقيتين نجد أن سلطتي الحكم الثنائي كانتا تعدان "وصيتان trustees" وليستا "صاحبتا سيادة sovereigns" على السودان.
إننا نضع ثقتنا الكاملة في الحكومة البريطانية والشعب البريطاني الديمقراطي، ونؤمن بأن حكومة العهد الثنائي موجودة من أجل رفاهية السودان وشعبه. ونؤمن كذلك بأن مصر ليس لها حق قانوني للسيادة على السودان، إذ أنها عند غزوها له في عام 1820م كانت هي نفسها ولاية من ولايات تركيا، وقد غزت السودان باسم الخليفة العثماني (والخلافة العثمانية بتركيا). ويمكن القول على وجه الدقة بأن مصر والسودان كانتا (معا) تحت السيادة التركية حتى ذلك اليوم الذي استسلمت فيه تركيا، بموجب معاهدة لوزان، وتخلت فيه عن مستعمراتها، والتي شملت مصر والسودان (وقعت معاهدة سلام بلوزان السويسرية في 24 يوليو 1923م، أدت إلى اعتراف دولي بجمهورية تركيا التي ورثت محل الخلافة / الإمبراطورية العثمانية، وحددت حدود تركيا مع عدد من دول جوارها، وتنازلت فيه تركيا عن البلاد التي كانت تسيطر عليها ومنها مصر والسودان. المترجم). وحتى إن كان يعتقد بعض الناس أن لمصر حق السيادة على السودان، فقد سقط ذلك الحق نتيجة لاستقلال السودان التام لستة عشر عاما متصلة. وكان هذا مما صدقت عليه بوضوح تام الحكومة البريطانية في اتفاقيتي 1899م و1936م، أي أن بريطانيا لم تعترف قط بسيادة مصر على السودان.
وظل العلم التركي يرفرف جنبا إلى جنب العلم البريطاني في السودان إلى أن أعلن أن مصر قد غدت محمية بريطانية في غضون سنوات الحرب العالمية الأولى. ومعلوم أنه منذ سنوات الإمبراطورية اليونانية، لم تنعم مصر قط بالحرية حتى خلصها البريطانيون من نير العثمانيين، ومنحتها تاجا واستقلالا. ويلاحظ أنه في ذلك الوقت لم تحتفظ بريطانيا بأي سيادة لمصر على السودان. وإضافة لذلك فإنه من المعلوم أنه عقب نشر مصر لدعاياتها في عام 1924م لم تتردد بريطانيا في طرد المسئولين المصريين والجيش المصري من السودان في غضون 48 ساعة (ورد في موسوعة الويكبيديا أن عبد الله خليل "كان من أعضاء جمعية اللواء الأبيض منفذة ثورة 1924م، التي كان المثقفون (الأفندية) في طليعتها، ثم تحول عبد الله خليل للفكرة الاستقلالية بعد فشل الثورة". المترجم). ولم يحدث أن إدعت بريطانيا العظمى قط منذ استعادتها للسودان أنه جزء من الإمبراطورية البريطانية، ولم يحدث كذلك أن عاملت مصر السودان بحسبانه جزءً من مملكتها. بل على العكس تماما، فقد كان البريطانيون يرفضون على الدوام أي اقترح يشير إلى ضرورة معاملة السودان وكأنه واحد من المستعمرات ضمن امبراطوريتهم. وذهبت الحكومة المصرية من جانبها أمام المحاكم المختلطة في عام 1910م إلى القول بأنه "بحسب اتفاقية 1899م فإن حكومة السودان قد كونت باعتبارها حكومة مستقلة بذاتها (autonomous)، متمايزة ومنفصلة تماما عن الحكومة المصرية". وأيدت المحكمة تلك الحجة، ووجدت بأنه بحسب اتفاقية 1898م فأن "دولة جديدة قد أقيمت بالسودان، متمايزة ومستقلة عن مصر" (انظر كتاب ماكمايل المعنون "السودان الإنجليزي المصري"، صفحة 66).
ولا حاجة لي هنا بأن اسجل أن السودانيين كانوا هم أول من تطوعوا وانضموا للشعوب الديقراطية المحاربة من أجل الحرية. ولما أعلن السودان الحرب في عام 1940م احتجت مصر بشدة على ذلك. ووقفت قوة دفاع السودان بمفردها وأوقفت القوات الإيطالية الغازية حتى وصلت التعزيزات من الشرق الأوسط، بينما بقي الجيش المصري بالسودان في ثكناته دون أن يقدم أي مساعدة. إن الدور النشط الذي لعبته قوة دفاع السودان في تحرير الحبشة، وفي دحر الإيطاليين في إريتريا، وما قامت به لاحقا من عمليات في شمال أفريقيا يسوغ حق السودانيين في نيل حريتهم. وأعلن حاكم عام السودان في إبريل (من عام 1946م) أنه لن يتخذ أي قرار بشأن مستقبل السودان دون مشاورة السودانيين. وجاء بيان الحاكم العام هذا بناءً على بيان أصدره من قبل السيد بيفين (رئيس الوزراء) في مجلس العموم يقول بذات القول. إننا نضع ثقتنا الكاملة في هذا الوعد، الذي يعد أول وعد رسمي يعطي للسودانيين، وهو وعد أزال كثيرا من القلق الذي ساورهم بخصوص مستقبل السودان. لقد أنشأت حكومة السودان هيئات تمثيلية في طول البلاد وعرضها يمكن (لممثلي الشعب) من خلالها عرض وجهات نظر السودانيين والاستيثاق منها. غير أنه رغم ذلك، فلم تتم أي مشورة مع هؤلاء الممثلين.
وما أن سرت أنباء ما قيل أنه اعتراف بسيادة مصرية على السودان حتى بدأ الاضطراب يعم البلاد. وكان الحاكم العام، بعد عودته للبلاد قبل وقت قصير، قد آب للندن مرة أخرى. ولا ريب عندي بأنه سيكون خير شاهد على الأوضاع في السودان الآن. ولعل معاهدة 1936م كانت قد مهدت الطريق لسيل من الدعاية المصرية النشطة التي لا بد أنها وجدت لها بعض التأثير عند العناصر الناقمة وغير المسئولة. ولا أشك كذلك في أنها قد شجعت طماح البعض، وأثارت شهية آخرين ممن وعدوا بمكافآت، على بلوغ أهدافهم (المعلومة). ستكون خيبة الأمل عظيمة إن اختتم نصف قرن من الإدارة الثنائية بحرب أهلية.
إن السودانيين يدركون جيدا ما يدور في مصر، وقد سبق لهم أن جربوا الحكم المصري قبل المهدي، وفي السنوات الباكرة من حكم هذه الحكومة أيضا. إن الرأسمالية وملكية الأرض هي الأسوأ في مصر المستقلة. وتتباين مُثْل وأفكار السودانيين عن المُثْل والأفكار السائدة في مصر. وكذلك تختلف كثيرا أوضاعنا الجغرافية والاجتماعية، وملكية الأرض وتوزيع الثروة عندنا عنها في مصر. ونتمنى أن يبقى البريطانيون في سوداننا المستقل برضائنا، وسيكونون قادتنا ومستشارينا الودودين لحكومتنا الجديدة (ورد في أحد المصادر المنشورة أن عبد الله خليل نصح إبان رئاسته لمجلس الوزراء رئيس دولة أفريقية حديثة الاستقلال (لعلها غانا) عدم التعجل في الاستغناء عن الموظفين البريطانيين عقب نيل الاستقلال. المترجم).
لا ريب عندي أن المصريين لن يقنعوا بسيادة إسمية على السودان، فهم في الحقيقة يريدون مياه النيل، وإقامة المزيد من السدود، وحيازة أراض زراعية شاسعة، أو بعبارة أخرى، يريدون استغلال السودان كمستودع يخزنون فيه أكبر كمية ممكنة من المياه لري أراضيهم، وللتوسع في الزراعة فيها. إننا نقر بحقوق المصريين في نصيب عادل من المياه، ربما تحت إشراف جهة رقابية دولية. غير أن للسودان حقوقا مائية أيضا، وينبغي له كذلك أن يحافظ على حقه في نيل نصيب عادل من مياه النيل لشعبه الآخذ في النمو والزيادة.
لقد نشرت مسودة المعاهدة البريطانية – المصرية، وفيها ورد أن الحكومتين ستعملان على "رفاهية السودانيين، وتهيئتهم من أجل تقرير مصيرهم"، وهذا لا يتوافق مع ما يبدو أنه إقرار بسيادة مصر على السودان، والذي ما يزال أمرا من الأمور الخلافية التي لم تحسم بعد.
ويعتقد السودانيون بأنهم (الآن) مغيبيين تماما عما يجري بشأن مصيرهم، إذ أنهم لا يستطيعون فهم الطريقة البريطانية في شأن التعامل مع السودان ومصر. فقد منحت بريطانيا العظمى من قبل الاستقلال لمصر، وها هي الآن – فيما يبدو – ستعطيها إمبراطورية، وستفقد بذلك السودان استقلاله بتدخلها (في تقرير مصيره)، وستقدم السودان المنكود غنيمة باردة لمصر مكآفاة له على مساهماته وتضحياته الجسام!
لعله من الأنسب لبريطانيا أن تدع السودانيين ليحسموا قضيتهم مع المصريين، فهذا أفضل من أن تبقى في السودان وتمهد لضمه / لوحدته مع مصر، إذ أن هذا أمر غير عملي ويخالف تماما رغبات السودانيين.
لا ولن يقبل السودانيون بغير الاستقلال التام، ونتمنى أن يعلن ذلك بأعجل ما يتيسر.
alibadreldin@hotmail.com