يوميات “زيارة السودان عام 1958م” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Diary: “Sudan Visit, 1958”
سير أيفور جينيقزSir Ivor Jennings
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما ورد في الجزء الخاص بالسودان بالعدد السادس والأربعين من مجلة "الجمعية التاريخية الملكية، مجموعة كامدن الخامسة “Royal Historical Society, Camden 5th Series، الصادرة عام 2014م، والذي تناول زيارة سير أيفور جينيقزSir Ivor Jennings (1903 – 1965م)، بروفيسور القانون بجامعة كمبردج، وأحد أهم خبراء القوانين الدستورية في القرن العشرين، للسودان في يوليو من عام 1958في مهمة تتعلق بصياغة دستور للبلاد. وكان ذلك البروفيسور قد زار دولا عديدة استعمرتها بريطانيا من قبل (مثل السودان ومالطا والهند ونيوزيلندا وسيلان) في مهام تتعلق بتخصصه الدستوري، ونشر الكثير عن تأثير بريطانيا في كتابة دساتير الدول الأجنبية، مما دعا البعض ليصفه بأنه "صانع الدساتير Constitution maker".
ولعل هذه اليوميات تكشف عن توجهات وآمال ساسة شمال وجنوب السودان في أول عهد ديمقراطي لطريقة حكم البلاد، وعن "أشواق" الجنوبيين وإحساسهم الباكر بأحقيتهم في الانفصال.
المترجم
******** ****** *********
ظلت بريطانيا ومصر تحكمان السودان بصورة مشتركة بموجب المعاهدة البريطانية – المصرية التي أبرمت في 1899م، حتى غادر الطرف الأقوى في ذلك الحكم الثنائي (بريطانيا) البلاد في ديسمبر من عام 1955م. وأعلن بعد ذلك عن قيام جمهورية السودان المستقلة في الأول من يناير عام 1956م. وتولت حكم البلاد إدارة مدنية (منتخبة)، قام الجيش بالإطاحة بها في 17 نوفمبر من عام 1958م، قبل شهور قليلة من زيارة السير أيفور جينيقز لها.
1/ مذكرات "زيارة السودان عام 1958م"
18 يوليو 1958، الخرطوم.
وصلنا إلى الخرطوم عند مطلع فجر يوم 12 يوليو قادمين من مالطا عبر بنغازي. واستقبلنا في المطار نائب المدعي (النائب) العام. وتمكنا في ذات اليوم من مقابلة وزير العدل (لعله زيادة عثمان أرباب. المترجم) في معية نائب المدعي (النائب) العام. وخرجنا من تلك الزيارة بنسخ من مسودة الدستور الذي أعدته اللجنة الدستورية، وبنسخ من المسودة التي أعدتها الحكومة. ونسخة الدستور الحكومية هذه هي نسخة معدلة من نسخة الدستور الذي أعدته اللجنة الدستورية، إلا أن كثيرا من الحريات الأساسية كانت قد حذفت منها، وخففت فيها أيضا كثير من الحقوق الأساسية التي كانت مضمنة في ما اقترحته اللجنة الدستورية.
قمت على الفور بكتابة العديد من التعليقات والتعديلات على كثير من الجوانب الفنية في النسختين وفي صياغتهما، خاصة في الجوانب التي قد تفضي إلى مشاكل سياسية. وأكملت عملي في الرابع عشر من يوليو، غير أن عملية إعادة الطباعة لم تنته إلا في السادس عشر من يوليو. وأرسلنا نسخة من النسختين المعدلتين إلى وزير العدل، غير أني طلبت أن تعاد إلى النسخ المعدلة لمزيد من التصحيح. وبالفعل قمت بذلك التصحيح (في يوم رأس السنة الهجرية).
وكانت الحكومة قد طلبت مني عقد لقاء مع بعض المسئولين اليوم لمناقشة مشروع إقامة دستور فيدرالي بالبلاد. إلا أن ذلك الاجتماع تأجل لليوم التالي. وتغيب في اليوم المضروب للاجتماع ست أعضاء (قالوا بأنهم لم يخطروا بموعد الاجتماع!)، فلم يتم الاجتماع رسميا، بل تحول لمناقشة مفتوحة وغير رسمية عن الفيدرالية. كان كل الحضور من (الجنوبيين؟ المترجم) الزنوج طوال القامة (6' إلى "6 6'). وعرضوا قضيتهم التي كانت تتلخص في أنهم شعب مختلف تماما، أغلبيتهم وثنيون (pagans)، وبعضهم مسيحيون، ولا يتحدثون العربية الفصيحة (إلا أن بعضهم يتحدثون بدارجتها المبسطة). وهم يرفضون كذلك أن يكون الاسلام هو دين الدولة. ولما شددنا عليهم في دفع ما ذكروه من حجج أقروا بأن ليس بإمكانهم إدارة دولة فيدرالية فورا / في الحال، غير أنهم يرغبون أن يضمن ما ذكروه في صلب الدستور، وأن يبدأ تطبيقه بالتدريج. إنهم – كما قالوا – لا يريدون دولة واحدة، بل دولتين: شمال السودان، وجنوب السودان. وطالب أحدهم بالفيدرالية في غضون عقد من الزمان. غير أنه تنازل قليلا بعد بعض الضغط منا فقال: "تقريبا بين 10 إلى 15 سنة". ومن جانبي اقترحت 25 عاما بحسبان تلك الفترة الزمنية كافية لتأهيل كادر مؤهل ومدرب على إدارة الدولة. وربما كان من الممكن إدراج أحكام فيدرالية (في الدستور المقترح)، وتطبيقها بالتدريج بعد عام 1964م، عقب الحصول على موافقة ثلاثة أرباع عدد الأعضاء الجنوبيين في الجمعية التأسيسية / التشريعية.
وقررنا أن نجتمع في اليوم التالي، رغم أني بدأت أشك في قدرتي على إنهاء مهمتي بالسودان قبل انتهاء شهر يوليو.
19 يوليو 1958.
حضر للاجتماع هذا الصباح تسعة عشر من الجنوبيين. وكان من المفروض أن يحضروا عند العاشرة صباحا، غير أنهم بدأوا في التقاطر على مكان الاجتماع منذ التاسعة وعشر دقائق، وشرعوا على الفور في استجوابي. وبذلت ما في وسعي لأشرح لهم بأنه ليس من مهامي التقرير أو الحكم على القضايا السياسية، أو حتى أن أمحض أي فرد أو جماعة النصح في أمر سياسي، وأن مهمتي هي مهمة فنية محضة. ويبدو أنهم كانوا يحسبون أن لجنتي هذه هي "لجنة الرجل الواحد"!
وعند الساعة الحادية عشر والربع سألني أحدهم إن كان بإمكاني مساعدتهم في صياغة دستور فيدرالي. أجبت السائل بأن ذلك ليس في إمكاني، إذ أنني قدمت للسودان مكلفا لعمل مهمة محددة من قبل حكومة السودان، وأن المسألة التي يثيرها ستحسم سياسيا، وأنني على استعداد للإجابة على أسئلتهم، غير أن مهمتى (الوحيدة) هي مساعدة اللجنة الدستورية. وهنا وقف واحد منهم وألقى خطبة قصيرة ومهذبة قال فيها إنهم لن يأخذوا من وقتي أكثر مما أخذوه. وبدأوا في الخروج، وتمنى بعضهم لي، وهم خروج، حظا سعيدا في نصح الشماليين! وبقي منهم رجلان سألاني عن مقصدي بقولي إن هنالك درجات مختلفة تقع بين "الدستور الوحدوي" و"الدستور الفيدرالي". وكنت قد ضربت لهم أمثلة بأسكوتلندا وإيرلندا الشمالية ومديريات جنوب أفريقيا (بحسبانها مناطق يحكمها دستور وحدوي، ولكن لديها سلطات غير متكافئة مقارنة مع المناطق الأخرى بالبلاد).
19 يوليو 1958.
أقام لنا رئيس الجمعية في ليلة الأمس مأدبة عشاء جلست فيها بينه وبين وزير العدل. واقترحت لوزير العدل في حديثي ضرورة أن أقوم بكتابة مسودة دستور فيدرالي للجنوبيين حتى أريهم (إن كان ذلك) ما يريدونه بالفعل. وأبدى وزير العدل لي الموافقة على الاقتراح، رغم أنني أعتقد أنه كان يرغب أولا في مقابلة الوفد الجنوبي معي. وعلى كل حال اقترحت عليه أن أبدأ في تجربة كتابة تلك المسودة.
24 يوليو 1958.
قمت بصياغة بعض التنازلات الممكنة في مسودة قصيرة، وطلبت طباعتها. وتلقيت عددا من التعديلات في المسودة (الثالثة / ج) التي سلمتها لوزير العدل. وكانوا قد حسنوا قليلا من المسودة، غير أنهم قاموا بتلك التعديلات والاصلاحات قبل الاطلاع على مذكرتي (الأخيرة). وفي الواقع كان الكل قد انشغل عني، وبقيت دون عمل تقريبا خلا ساعة واحدة كل يوم. وكان البرلمان يواصل جلساته، ولا علم لي إن كان سيؤجل جلساته اليوم كما كان مقررا. وكان يدور حديث عن قرب تغيير الحكومة. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فسأقترح "تغيير الجو" فقد أصابني الضجر.
06 أغسطس 1958.
لم تؤجل جلسات البرلمان في الرابع والعشرين من يوم 24 يوليو، وقابلني وزير العدل في اليوم التالي (25/7). وانشغلت الحكومة والبرلمان عن أمر الدستور وصياغة مسودته بسبب مشاكل الشرق الأوسط كان منها دخول القوات الأمريكية في لبنان، ودخول القوات البريطانية للأردن. (شرح المؤلف في الهامش أن شهر يوليو من عام 1958م كان شهرا عسيرا على المنطقة، فقد أطاح انقلاب عسكري في العراق بالملكية، مما دعا الأمريكيين والبريطانيين للتدخل في لبنان والأردن، على التوالي، لحماية النظامين في البلدين من الوقوع في ذات المصير. المترجم).
واستنتجت من حديثي مع وزير العدل بأن الحكومة لم تعد راغبة في مقابلة لجنة صياغة الدستور (رغم أنه لم يقل ذلك صراحة)، لأن غالب أعضاء تلك اللجنة كانوا قد غادروا الخرطوم أو سيغادرونها للزراعة في مناطقهم بالأقاليم، إذ أن فصل الأمطار كان قد بدأ. وطلب مني وزير العدل أن أقوم بإعادة صياغة مسودة الدستور، وأن أعد مذكرة (تفسيرية) عنها.
وأقام لنا وزير العمل مأدبة غداء في الثلاثين من يوليو. وكنت حينها قد قمت بإكمال إعادة صياغة المسودة، وبدأت في العمل في المذكرة التفسيرية. وبما أنني كنت أعلم أني سأكمل عملي يوم 31 يوليو، وستستغرق الطباعة عدة أيام، اقترحت على وزير العدل أن نقضي عطلة نهاية الأسبوع في جوبا، فوافق وأجرى كل ما يلزم من ترتيبات لإتمام تلك الرحلة.
وقبل أن نغادر الخرطوم لجوبا تناولنا الشاي مع قس إيطالي وآخر فرنسي. وكان القسيسان قد دعيا أيضا ثلاثة من الجنوبيين الكاثوليك (ربما كانت دعوتهما لأولئك الجنوبيين بقصد إرسال رسالة ما لنا). وتحدثنا طويلا عن الفيدرالية، وتولد لي شك عظيم ما أن يريده الجنوبيون هو التفويض الإداري devolution administrative وليس الفيدراليةfederation . ما كانوا يريدونه حقا هو منحهم السلطة لإدارة شئون التعليم والأمن (الشرطة) والتنمية الزراعية في بلادهم. وكانوا يشددون بصورة خاصة على إحلال الجنوبيين محل السودانيين (الشماليين) في مناطقهم. وهذا – كما أسلفت – هو ما يحدث بالفعل في أسكوتلندا. ومضوا في القول إلى أنه يجب عليهم أن يسجلوا مطالبهم بتفصيل دقيق، وألا يكتفوا بالدعوة بعمومية فضفاضة للفيدرالية في الجنوب.
وكانوا يعترضون بصورة خاصة على أشياء حددوها وهي استخدام اللغة العربية بحسبانها لغة قومية، واعتبار الإسلام هو الدين القومي للبلاد. وكانوا يعترضون كذلك على عضوية السودان في الجامعة العربية، وعلى عدم إمكانية تعديل أي من البنود الواردة في مسودة الدستور. أوضحت للجنوبيين أن الفيدرالية لن توقف عضوية السودان في الجامعة العربية، إذ أن السياسة الخارجية شأن فيدرالي.
لا ريب أن صياغة تلك المسودة كانت سيئة جدا، فقد كانت مليئة بالغموض والالتباس، وبالثغرات والتناقضات والتضاربات. وحاولت قدر جهدي أن أزيل عنها تلك العيوب، وفي ذات الوقت أن أجعلها أكثر مرونة. ولا شك عندي أن من عملوا على تلك الصياغة لا بد أنهم كانوا مجموعة من ناشئة الهواة very amateurish amateurs، الذين قاموا بانتشال شذرات من دساتير سابقة دون أي محاولة لرؤية المسودة ككل. ونسبة لأن معظم مواد ذلك الدستور لا يمكن تعديلها، فإن النتيجة ستكون في الغالب دستورا مكتوبا ليس بينه وبين الدستور عند الممارسة أدنى علاقة.
وفي جوبا تناولنا الشاي مع نائب مدير المديرية، الذي أتاح لنا فرصة التجول بين السيدات، والتحدث مع الجميع (بحرية). بينما قام مفتشا منطقتي توريت وياي بتحضير اجتماعات رسمية اضطرت فيها (محرجا بعض الشيء) للتحدث. لم يكن الاجتماع في توريت سيئا جدا، فلم يكن فيه إلا ثلاث من الساسة. أما اجتماع ياي فقد أمه نحو 300 – 400 كان كثير منهم يعدون أنفسهم من النشطاء السياسيين. حاولت قدر جهدي أن أبتعد عن الخلاف وألا أثير الجدل وسط ذلك التجمع، إلا أن أحدهم سألني عن الفيدرالية، وتحتم علي أن أقول شيئا بشأنها. وقام أحدهم بترجمة كلامي لهم للغتهم المحلية (مما يعني أن الثلاثة آلاف كلمة التي نطقت بها قد اختصرت لستمائة كلمة). وبدا لي أن ما قلته لم يرق دائما لمستمعي من النشطاء السياسيين، رغم أني كررت أكثر من مرة أن الفصل في أمر الفدرالية ليس لي، بل هو من شأن البرلمان، والبرلمان وحده. وقال أحد النواب المحليين صراحة إن ما يتوقون إليه هو نظام فيدرالي على غرار ما هو معمول به في الولايات المتحدة الأمريكية. ومرت النقطة التي كررتها مرارا، وهي أن الأموال funds يجب أن تأتي من الحكومة الفيدرالية، دون أن ينتبه لها – فيما بدا لي – أحد من الحضور.
بدت لي حقيقة أن الجنوبيين لا يريدون أن يحكمهم الشماليون واضحة جلية. غير أن الأكثر تعليما من بينهم كانوا يدركون أنه ليس بمقدورهم حكم أنفسهم، وذلك لافتقارهم للمال وللكوادر المؤهلة المدربة. ورد بعضهم على تلك النقطة بالقول إنهم سيتلقون عونا أجنبيا، ولكنهم غضبوا حينما قلت لهم بأن ذلك "العون الأجنبي" سيذهب للسودان، وليس للجنوب (الخط تحت كلمة السودان موجود في أصل الوثيقة. المترجم)، وأن غياب الفيدرالية في السودان لم يمنعه من نيل الاستقلال. والنقطة الأخيرة هذه على قدر كبير من الأهمية. ولا يمكن للمرء التصريح (علانية) بأنه حدث تَرَدٍّ وتدهور شديد في الكفاءة عقب الاستقلال (وسمعت ذلك من أحاديث خاصة مع بعض متعلمي السودان)، وأن قيام حكومة مستقلة، أو فيدرالية، أو حتى تفويض إداري في الجنوب سيفضي إلى مزيد من تدني الكفاءة. إن الخط الفاصل بين الاستقرار والفوضى جد رفيع. غير أن الانزلاق من حالة الكفاءة إلى حالة من الاستقرار في حدوده الدنيا عادة ما يكون بطيئا، ويمكن أن يتدهور الحال أكثر دون أن يبلغ حالة الفوضى.
لقد كان تمرد عام 1955م إنذرا (بما سيحدث لاحقا)، غير أني غير ملم بطبيعة ذلك الحدث على وجه التفصيل. ولم أجرؤ على السؤال عن تقرير لجنة التحقيق الذي جرى بشأنه. ويؤمن الشماليون، بالطبع، بأن الجنوبيين لا قدرة لهم على حكم أنفسهم. وأرى أنهم ربما كانوا يبالغون في قولهم هذا. فهم يتحدثون عن عري الجنوبيين، وكأن الملابس هي الحل. وأنا أؤمن بأن ليس هنالك من سبب لافتراض أن الجنوبيين العراة الأميين هم أقل قدرة على حكم أنفسهم بأنفسهم من الأميين الشماليين. وأرى أيضا أن الضعف في شطري البلاد يكمن – كما هو معتاد - في الطبقة الوسطى. فالطبقة الوسطى في الشمال طبقة صغيرة وغير كُفُؤة. غير أن الطبقة الوسطي في الجنوب طبقة بالغة الصغر. ورغم هذا فالساسة الجنوبيين يزعمون بأن بمقدورهم حكم أنفسهم بنفس السهولة التي يحكم بها الساسة في الشمال، وأنهم (وأصدقاؤهم من الذين تلقوا تعليما إنجليزيا) قد حرموا من تولي الوظائف اللائقة بهم.
ويقول بعض الجنوبيين إن البريطانيين كانوا يحكمونهم بطريقة عادلة، وأن لهم تعاطفا خاصا مع اللوغاندا Luganda (بحسب شرح الكاتب لهذه الكلمة في الهامش، فهذه مجموعة لغوية في شرق أفريقيا البريطانية تجاور جنوب السودان) غير أني لم أسمع قط أحدا من البريطانيين يتحدث بجدية عن أن اللوغاندا والمديريات الجنوبية في السودان يجب أن تكَوَّنَ دولة واحدة تحكم نفسها بنفسها. ومن جهة أخرى، هنالك من الشماليين السودانيين (من بينهم وزير العدل) من يقولون بأنهم يؤثرون منح الجنوب الاستقلال التام على الموافقة على فيدرالية في البلاد. ولعلهم يقصدون بذلك القول (دون أن يصرحوا به) أنهم حلوا محل الرجل الأبيض في تحمل عبء الجنوبيين. وبفهمهم هذا يمكن القول أن حكم البريطانيين للسودان كان "استعمارا"، وحكم الشماليين للجنوب هو من باب "الانسانية أو الإحسان philanthropy"! وفي الواقع كان هنالك ذات الخليط من الدوافع (عند الشماليين) كما كانت عند الاستعمار البريطاني.
09 أغسطس 1958.
بعثت صباح اليوم بمسودتي المعدلة والمذكرة التفسيرية بعد تصحيحها إلى وزارة العدل. وكانت رسالتي لوزير العدل بخصوص الإجراءات قد أرسلت له يوم 6 أغسطس. وأرفقت مع الرسالة خطابا مختصرا للوزير أخبره فيه بأني قد أنجزت ما كلفت به، وأني سأعود لبلادي يوم 11/8. غير أني لم أتلق منه ردا مكتوبا على أي من الخطابين، ولكني علمت أنه أتصل بي هاتفيا بينما كنت أقدم محاضرة في جامعة الخرطوم في يوم 7 أغسطس. ثم أتصل بي هاتفيا مرة أخرى بينما كنت في النادي مساء الأمس. وأتصل بي هذا الصباح، وتحدثت معه، ولكنه لم يأت لخطابي على ذكر. لقد أسند إلى مهمة ثانوية – رغم أن الوثائق لم تصل بعد. ولم أتبين إن كان الوزير قد استلم رسالتي أم لا، أم أنه كان يماطل ويتعمد تأخير الرد عليها. وكان الاحتمال الثاني هو الأقرب إذ أنني سمعت بعض القصص (الشائعات) عن قرب تغيير الوزارة، وتكوين "حكومة قومية"، أو "تقوية / دعم" الحكومة الحالية. ولعل ذلك كان مصدر قلق "الحزب الوطني الاتحادي" على عدد المقاعد التي ستخصص له في الوزارة (هو الحزب الذي فاز في أول انتخابات برلمانية عام 1953م، بقيادة إسماعيل الزهري، الذي غدا أول رئيس وزراء للسودان). ولكن السيد عبد الرحمن المهدي (الزعيم الديني والسياسي وراعي حزب الأمة) كان قد أبل من مرضه، وهو يجري هذه الأيام محادثات مع السيد علي الميرغني (الزعيم الديني والسياسي الآخر، وراعي حزب الشعب الديمقراطي، المنشق عن الحزب الوطني الاتحادي). سأحاول مقابلة النائب العام يوم الاثنين إن لم التق بالوزير قبل ذلك.
17 أغسطس 1958.
قررت الاتصال هاتفيا بوزير العدل هذا الصباح نسبة لأني لم أستلم منه ردا على ما أرسلته له. ولم يتيسر لي الوصول إليه عبر الهاتف فاتصلت بالنائب العام، وشرحت له ما أريد. وبعد ذلك أتصل بي الوزير نفسه. سيقيم لنا المهدي حفل عشاء في العشرين من هذا الشهر، أي قبل رجوعنا. وذكر لي وزير العدل أنه سيقابلني غدا.
ولم أفعل في هذا الأثناء غير كتابة مذكرة قصيرة عن مسألة اللجنة القومية للدستور، التي اكتشفت أن مجلس الوزراء هو من قام بتعيين أعضائها. وقمت أيضا بمقابلة ثلاثة من الأعضاء الجنوبيين (يوم 11/8). أكد لي هؤلاء الرجال أنهم يؤيدون استمرار العمل بالدستور المؤقت حتى يحين يوم يكونون فيه مستعدين لدستور فيدرالي، وجددوا لي رفضهم رفضا باتا أي مسودة لدستور لدولة موحدة، أو أي دستور ينص على أن الإسلام هو دين الدولة، أو أي دستور ينص على أن اللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية.
حاولت قدر جهدي أن أقنعهم بالتالي:
1/ الدستور الفيدرالي، في وضع السودان الحالي، لن يحررهم من سيطرة الشمال، إذ أن موارد البلاد الرئيسة (الضرائب المفروضة على الصادرات والواردات) ستكون فيدرالية.
2/ النص على أن الإسلام هو دين الدولة لن يضيرهم في شيء، إذا تضمن الدستور نصوصا تضمن حقوق أصحاب الديانات الأخرى.
3/ يمكن أن ينص الدستور على أن اللغة العربية هي اللغة القومية إذا تضمن الدستور نصوصا تذكر أن بالبلاد لغات أخرى.
لم أحاول اقناعهم بآرائي، وخشيت أن يقاطعوا اجتماعات لجنة الدستور القومية إن أبقينا الفصل الأول من مسودة الدستور كما هي. وسيكون من الغباوة على كل حال إن احتفظت اللجنة بذلك الفصل بصيغته الراهنة. وكنت أتمنى أن يزال ذلك الفصل، وأن يستبدل بما قمت بتعديله في المسودة الحكومية، التي أرسلت مباشرة للبرلمان. غير أني لم اتلق أي رد على مقترحات تعديلاتي، ولا دعوتي لأن تقوم الحكومة بتقرير إن كان للبرلمان حق تعديل الدستور بغالبية لا تقل عن ثلاثة أرباع عدد الأعضاء، أو أن تنشأ جمعية تأسيسية تقرر في هذا الأمر بالأغلبية.
2/ مشكلة المديريات الجنوبية – بعض الحلول الممكنة
(في هذا الجزء تعرض بروفيسور جينيقز إلى بعض الحلول التي يقترحها لحل المشاكل التشريعية / القضائية بالجنوب. وقسمها لحلول مقترحة في الإطار التشريعي/ القانوني الموجود، وأخرى لحلول في خارج ذلك الإطار. وشمل النوع الأول فصل السلطات القضائية ولجان الخدمة العامة والإدارة في الجنوب عن تلك الموجودة في الشمال، وإقامة لجنة إجراءات تشريعية منفصلة في الجنوب. أما النوع الثاني من المقترحات فشملت إقامة نظام تفويض إداري دون أن يكون فيه حق فرض ضرائب، وإقامة مجلس نواب منفصل في الجنوب يأتي أعضائه بالانتخاب. وقدم البروفيسور مقترحات عديدة أخرى. المترجم).
alibadreldin@hotmail.com