التطور في السودان

 


 

 

 

Progress in the Sudan

إدوارد عطية Edward Attiya
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لمقال صغير بقلم إدوارد سليم عطية (1903 – 1964م) نشر في المجلة البريطانية المحافظة اسبكتيتار/ المشاهدThe Spectator ، في عددها الصادر يوم 31 مارس 1950م.
وبحسب ما جاء في مقال للأستاذ جمال محمد إبراهيم بعنوان بين "معاوية نور وإدوارد عطية" فقد عمل إدوارد عطية، لبناني مسيحي قادم من "سوق الغرب" في جبل لبنان، جاءت أسرته ضمن الشوَّام الذين استعانت بهم الإدارة البريطانية للمساعدة في إدارة البلاد لسببٍ واضحٍ وأكيد، هو أنّ معظم هؤلاء الشوّام هم ممّن يتحدّثون اللغة العربية والإنجليزية، كما أنّهم في الأغلب مسيحيون وذلك ممّا يجعل التعامل بينهم والإداريين الاستعماريين الشبان القادمين من أوكسفورد وكمبريدج لإدارة البلاد أمراً ميسورا. وكان خاله السيد صموئيل عطية شقيق أمه، يعمل كبير مساعدي الضابط البريطاني القديم "بيني" مدير المخابرات في الخرطوم. لمّا أوشك على التقاعد بعد أن أمضى ما يزيد على الثلاثين عاما في تلك الإدارة، عمل صموئيل عطية على توظيف ابن شقيقته ليحلّ محله في تلك الإدارة. كان الشاب إدوارد قد تخرّج للتوِّ من أوكسفورد بعد أن درَسَ هناك، وعاد إلى السودان حيث وجد عرضاً مغرياً للتدريس في كلية غردون التذكارية، أواخر عشرينات القرن العشرين". وعمل بعد ذلك "ملحقاً بمكتب المخابرات الكولونيالية في السودان، إبّان سنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي". وأَلَّفَ الرجل عددا من الروايات لعل أشهرها رواية "الطليعي الأسود" (التي ستظهر ترجمتها قريبا إن شاء الله) وكتاب "عربي يحكي قصته"، الذي قام بترجمته الأستاذ سيف الدين عبد الحميد.
ويرسم الكاتب في مقاله – ربما بسبب طبيعة عمله – صورة وردية زاهية للأحوال في البلاد مطلع خمسينيات القرن الماضي.
المترجم
***** ********** ****************
لن يدرك ويقدر ما أنجز مؤخرا من تقدم في السودان إلا من عرف السودان في الماضي، ثم زاره مؤخرا. صحيح أن من يتحدث عن التطور في السودان فإنه – بالضرورة – يتحدث عن جزء صغير من البلاد، وعن قطاع صغير – نسبيا- من كل سكان البلاد، يشمل سكان المناطق النيلية الشمالية والجزيرة (بمشروعها العظيم لزراعة القطن) والخرطوم وأم درمان ومدن صغيرة أخرى تعد على أصابع اليد الواحدة. وهذا في قطر تبلغ مساحته الكلية مليون ميل مربع، وتعيش في مركزه السياسي صفوة / نخبة الانتلجنسيا، وتدار منها كل المؤسسات التي تحكم هذا القطر الشاسع الذي لا يتجاوز عدد سكانه الثمانية ملايين نسمة.
ومع هذا التحفظ، لا يملك المرء إلا أن يقر بعمليات التحول الهائلة التي انتظمت السودان في السنوات الخمس الأخيرة. فمن ناحية اقتصادية شهدت تلك السنوات إزدهارا اقتصاديا غير مسبوق، على الرغم من تتابع فصول جاف وقحط أدت لنقص في انتاج المحاصيل الزراعية المروية بالأمطار، مما هدد بحدوث مجاعات في أجزاء معينة بالبلاد. ولعل سبب ذلك الازدهار الاقتصادي هو إرتفاع غير عادي في إنتاج القطن طويل التيلة (وهو يمثل أربعة أخماس دخل البلاد)، مع زيادة مقدرة في سعره بالأسواق العالمية. وأرتفعت ميزانية البلاد من 5 مليون جنية مصري (ج م) إلى 16 مليون ج م، مع وجود فائض كبير فيها، يشكل احتياطيا كبيرا لما قد يحدث في سنوات عجاف قادمات، وتقلبات مفاجئة في أسعار القطن. وبالفعل، ظل اعتماد البلاد على محصول نقدي واحد مصدر قلق للحكومة، ولعقلاء السودانيين (حرفيا "من يفكر من السودانيين "thinking Sudanese". المترجم)، وظلت الحكومة تدرس بجدية إيجاد بدائل مثل صناعة مواد يمكن تصديرها.
وسيشهد هذا العام (أي 1950م. المترجم) تجهيز امتداد لمشروع الجزيرة تبلغ مساحته 50000 من الأفدنة. وأهم من ذلك فإن مشروع الجزيرة سيؤمم ليغدو "صناعة وطنية" (انظر المقال المترجم "مشروع الجزيرة بالسودان والمزارع الجماعية (الكولخوزات) بروسيا: مقارنة تجربتين". المترجم). وتدير هذا المشروع الآن شركتان تجاريتان بريطانيتان، في شراكة مع حكومة السودان والمزراعين السودانيين. وستنتهي الامتيازات الممنوحة للشركتين في يونيو من هذا العام، وستنقضي بذلك "الشراكة الثلاثية" للمشروع، ليغدو "شراكة ثنائية" بين الحكومة والمزارعين. وستسند إدارة المشروع لمجلس إدارة مكون من ستة أعضاء منهم رجلين سودانيين. وستسند لذلك المجلس مهمة إدارة هذا المشروع بصورة اقتصادية / تجارية في المقام الأول، مع الاهتمام أيضا بأمر الرفاه الاجتماعي عند سكان الجزيرة. وبما أن نصف عدد أعضاء "مجلس إدارة مشرع الجزيرة" سيكونون من السودانيين، فسيبدأ مواطنو البلاد في المشاركة في تحمل المسئولية النهائية لتوجهات المشروع في كل نواحي أنشطته.
لقد تزايد نمو ثروة البلاد بعد سنوات من تقييد المصروفات في غضون سنوات الحرب (العالمية الثانية)، ثم زادت وتيرة النمو بصورة متسارعة نتيجة للإرتفاع الهائل في أسعار القطن. وأدى ذلك لتغيرات لا تخطئها عين في العاصمة الخرطوم، والتي غدت مدينة جديدة بسبب تحويل 16 مليون ج م لطوب ومِلاَط (اسمنت)، وارتفعت أبنيتها لمقابلة تطلعات البرجوازية بها. وغدا شكل وطلبع المدينة مختلف جدا عن شكلها وطابعها الأول بمعماره القديم الذي كان يمثل يشبه "المعسكر" أو المدينة الأفريقية الكولونولية القديمة التي تقطنها طبقة الموظفين البريطانيين! فالخرطوم الآن مدينة عصرية عالمية (كوزموبولتانية)، تشابه مدن البحر الأبيض المتوسط من ناحية الشكل، ويحس المرء بتضائل الحكومة فيها، وبروز مجتمع مدني طبيعي ومتوازن، لا يشكل البريطانيون فيها - عند النظرة الكلية الفاحصة - غير عنصر واحد من بين جميع عناصر السكان.
وارتفعت معايير المعيشة، ومستويات الإدارك والمعرفة، والتفنن والرقي (sophistication) عند زراع القطن في الجزيرة وغيرها، وفي أوساط الطبقتين العليا والمتوسطة في سائر المدن. بل بدأ البعض في قرى الجزيرة يبنون بيوتهم بالطوب الأحمر عوضا عن بيوت الطين القديمة، وتنطلق من تلك البيوت الحديثة أصوات المذياع عالية. وإن تعطلت سيارتك بقرب واحدة من تلك القرى في ظهيرة يوم حار، فلا ريب أنك ستجد من الأهالي من يقدم لك مشروبا (ليس بالضرورة ماء) شديد البرودة من ثلاجته تروي به عُطَاشك. وسترى في الأمسيات شرفات وردهات وصالات وبار الفندق الكبير (الذي يقابل فندق شبرد في الأقطار الأخرى، وكان لا يرتاده في الخرطوم إلا البريطانيين والزبائن الأجانب) عددا لا بأس به من السودانيين، وهم بمفردهم أو يختلطون في يسر ورواح مع الزبائن البيض.

 

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء