مذكرات حول الخليفة عبد الله من المصادر السودانية المعاصرة .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

Some Notes on the Khalifa Abdullahi from Contemporary Sudanese Sources

J. A. Reid جي. أي. رييد
مقدمة: هذه ترجمة لمقال بقلم جي. أي. رييد (الإداري البريطاني الذي عمل نائبا لمدير مديرية النيل الأبيض في عشرينيات القرن الماضي) عن الخليفة عبد الله نشر في العدد الحادي والعشرين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة في عام 1938م.
ولهذا الإداري البريطاني عدة مقالات منشورة عن المهدية ورموزها منها مقال بعنوان: "أمراء المهدية"، ومقال آخر عن عيسى ود الزين عنوانه “قصة أمير مهدوي"، وآخر بعنوان "مقتل غردون: رواية شاهد عيان" نشرت كلها في مجلة "السودان في رسائل ومدونات".
المترجم
********* ******* *************
أصل عائلة الخليفة.
قيل إن الجد الأكبر للخليفة (شيخ محمد الواوي عبد الله) قام منذ أكثر من مئة عام برحلة الحج لمكة من تونس. وكان مشهورا بأن أصله من الأشراف، رغم أن البعض كانت لديه بعض الأسباب للاعتقاد بأن بعض دماء البربر تجري في عروقه، من جهة والدته. فقد كان من عادة العرب المنتصرين أن يتزوجوا من نساء القبائل المحلية التي هزموها، والتي ساكنوها. وكان قد قيل إن عائلة شيخ محمد الواوي عبد الله أقامت بالقرب من مدينة تونس ردحا من الزمان. فلا غرابة إذن إن كان بعض أفراد عائلة ذلك الشيخ قد تزوجوا من نساء بربريات أو من أعراق أخرى. وربما يفسر هذا بعض السمات غير العربية عند الخليفة وأقربائه.
استقر شيخ الواوي في "دار تعايشة" بدارفور وتزوج بامرأة تعايشية من الجبارات. واشتهر ذلك الشيخ في المنطقة بحسبانه وليا (فكي) وخبيرا في مجال العلاج بالأعشاب و (المحايات) وغيرها. وبعد وفاته تولى ولده علي كرار وحفيده محمد تور شين مواصلة الرحلة للحج. غير أن علي كرار وافته المنية في هجليج بدار رزيقات، بينما واصل محمد تور شين رحلته شرقا حتى بلغ دار الجمع، حيث أقنعه زعيمها عساكر أبو كلام بالبقاء معهم في (أبو ركبة). وبالفعل أصاب الرجل شهرة كبيرة باعتباره فكي (ولي)، وقيل إنه اتصل بمحمد أحمد (المهدي) قبل إعلانه لمهديته بوقت طويل. وأنجب محمد تور شين خمسة أبناء هم: يعقوب (الأمير يعقوب لاحقا)، عبد الله (الخليفة عبد الله لاحقا)، ويوسف، والسماني، وهارون، نصحهم جميعا بأن يسعوا لمقابلة المهدي حيثما كان. وبدأ يعقوب في ذلك المسعى، غير أن شيخ برير (في شبشة على النيل الأبيض) أقنعه بالانضمام للطريقة السمانية. أما الابن الثاني عبد الله فقد توجه إلى الجزيرة أبا لمقابلة المهدي، إلا أنه وجد أن المهدي كان قد غادرها وذهب إلى الجزيرة. فتبعه إلى هنالك ووجده يبني قبة لشيخه السابق القرشي الزين في طيبة قرب الحصاحيصا. تقول بعض المصادر إن شخصيتي المهدي والخليفة توافقتا على نحو سريع عند أول لقاء بينهما، وأن الخليفة أظهر حماسا ونشاطا وهمة عالية في مساعدة المهدي في بناء قبة القرشي بيديه، وهذا بعض ما جعله من المقربين جدا للمهدي. وأثار ذلك القرب وتلك الحظوة مشاعر الغيرة والحسد والانزعاج عند أقرباء المهدي. وسرعان ما عد عبد الله من صفوة أنصار المهدي الذين آمنوا بدعوته منذ أيام انطلاقتها الباكرة (أبكار المهدي).
الصفات الجسدية والشخصية العامة
وصف السودانيون الذين عاصروا الخليفة بأنه رجل غليظ البنية، وسيط القامة، لونه بني فاتح. وللرجل وجه مستدير به علامات تدل على إصابة قديمة بالجدري، وفي مشيته عرج خفيف من أثر سقوط من على ظهر جواد. ووصفه معاصروه بأنه صاحب خلق دمث ودود، وصوت داو مجلجل.
أما في المصادر الغربية، فإنه يوصف على وجه العموم بأنه كان فظا غليظ القلب، ومُراءٍ خدّاع. غير أن المصادر الشفاهية السودانية لا تعضد وصفه بتلك الأوصاف، فهو عند أنصاره رجل تقي بسيط ومتواضع "لين الكبد". ويصفه معاصروه أيضا بأنه زوج رحيم، وأب شفوق، ومضيف أَرْيَحِيٌّ، ومحارب صِنْدِيدٌ. ويقرون بأنه كان مضطرا في بعض الأحايين ليلجأ للقوة المفرطة ضد المعارضين في الداخل، وضد الأخطار الخارجية، ويبررون لتلك القسوة بأن الخليفة كان يعيش في عصر بدائي تميز بالعنف المفرط، وأنه من الظلم الحكم على أعماله بمقاييس عصرنا الحالي.
وعلى كل حال، فلا خلاف على أن الخليفة كان يتميز بشخصية مذهلة وقدرات إدارية عظيمة. غير أنه كان مفرط الغرور وشديد الشك. ولا ريب في أن السلطة المطلقة التي كانت تحت يديه قد ضخمت من تلك العيوب المتأصلة. ولا شك أيضا في أن تهديدات بعض أقرباء المهدي من "الأشراف" وغيرهم لسلطته كانت من أسباب شك وريبة الخليفة فيمن حوله. ورغم أن الخليفة كان شبه أمي، إلا أنه عرف بعقل ثاقب متوهج متماسك ولكنه عنيد أيضا. وتميز أيضا بالسرعة والحسم في اتخاذ القرارات.
ويصح القول إجمالا بأن الخليفة لم يكن أفضل أو أسوأ من أي زعيم بقاري (مثالي) في زمانه، رغم أنه كان يتميز عن غيره بمقدرات تنظيمية هائلة.
صراع الخليفة ضد الأشراف
يقصد بـ "الأشراف" أقرباء المهدي. وكانوا مجموعة من الحساد المتآمرين الذين كانوا على استعداد لاستخدام أي وسيلة ممكنة للوصول لما كانوا يطمحون إليه. وكانوا مصدر إحراج شديد للمهدي في حياته، وظلوا في حالة عداء مستحكم ضد الخليفة طوال فترة حكمه. حاولوا قدر جهدهم إقناع المهدي بإبعاد عبد الله عن خلافته وتعيين واحد منهم عوضا عنه. غير أن المهدي رد عليهم بمنشور طويل جاء فيه "أنا منه وهو مني". (ورد في منشورات أخرى للمهدي قوله: "واعلموا أن جميع أفعاله محمولة على الصواب لأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب"، و "من تكلم في حقه ولو بالكلام النفسي جزما فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ويخشى عليه من الموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله...وإن رأيتم منه أمرا مخالفا في الظاهر فاحملوه على التفويض بعلم الله والتأويل الحسن واعتبروا يا أولي الأبصار بقصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام". ويمكن أيضا الاطلاع في هذا الجانب على مقال مترجم بعنوان: "حول كتاب "المقاومة الداخلية للحركة المهدية (1881 – 1898م) لمحمد محجوب مالك". المترجم").
وبعيد وفاة المهدي شرع الأشراف بوسائل مختلفة في القيام بانقلاب علي حكم الخليفة عبد الله، فكتبوا للأمير "محمد عثمان أبو قرجة" والأمير "خالد زقل" للقدوم لأم درمان بجيشيهما، وأصروا على تحطيم دولة الخليفة، بل وأملوا في إنشاء مملكة مستقلة عقب حملة الخليفة على مصر. غير أن كل تلك المحاولات التي قامت في غضون السنوات السبع الأولى من حكم الخليفة باءت بالفشل. غير أن حكمه خلال تلك السنوات لم يكن مستقرا ولا آمنا، ولعل هذا ما قد يفسر الطريقة العنيفة البالغة القسوة التي كان يتعامل بها مع معارضيه، والتي يجب أن تقرأ وتقوم في سياق زمانها. وأخمد الخليفة حركة تمرد الأشراف بسجن ونفي كبيرهم (الخليفة شريف) وتسليم أسلحة ورايات وطبول "أولاد البلد" إلى "بيت الأمانات". وبدا أن الخليفة قد وطد سلطته وسلم من كيد الأشراف. غير أن الواقع يقول بأن الخليفة ظل حتى النهاية مواجها بمؤامرات اولئك الأشراف، ومعارضة "أولاد البلد" الصامتة (السالبة).
التنظيم الإداري
لا مشاحة في أن الخليفة كان يتمتع بقدرات إدارية وتنظيمية عالية من الطراز الأول. ولا شك في أن اختيار المهدي للرجل خليفة أول له، ومنحه سلطة تنفيذية مطلقة كان بسبب تلك القدرات.
المديريات
قسم السودان إلى مديريات هي دنقلا وبربر وكسلا والجزيرة وكردفان ودارفور وبحر الغزال، ونصب على رأس كل واحدة منها أمير له جيش ومعاونين (قضاة وجامعي ضرائب وزكوات الخ) في عاصمة المديرية. وكان الأمير يتلقى أوامره كتابة من الخليفة، ويستدعى لأمدرمان في الأمور الخطيرة. وكان كل واحد من أمراء الخليفة في المديريات تحت مراقبة بصاصي الخليفة وعيونه المبثوثة في كل مكان، وعند الشك في ولاء أي أمير يستدعى على الفور لمقابلة الخليفة. وكانت مهمة أمراء المديريات تنحصر في جمع الضرائب والزكوات، وامداد الجيش بالتموين، وعقاب المتمردين والمعارضين ومصادرة ممتلكاتهم. ولم يكن الأمن والنظام العام مستتبا تماما في المديريات، وحتى في العاصمة نفسها، حيث كثرت السرقات والمشاجرات.
الجيش
منح الخليفة عبد الله قيادة الجيش لأخيه الأمير يعقوب، صاحب الراية السوداء. وفي نهايات عهد الخليفة عبد الله بدأ الأمير يعقوب يفقد سلطاته الواسعة مع ظهور الأمير شيخ الدين (ابن الخليفة) والذي منح قيادة "الجهادية" الذين سلحوا بأفضل البنادق في الجيش المهدوي. وتم تنظيم الجيش على أساس شبه قبلي وديني. فقد كان لكل خليفة من خلفاء المهدي جيشه الخاص، وتحته عدد من الأمراء و"المقدمين" (العقداء). ويتم تقديم المال وكل أشكال الدعم الأخرى لهذه الجيوش من "بيت المال"، الذي يمنح كل خليفة وأمير ومقدم مبالغ نقدية محددة وحصصا معلومة من الحبوب ليصرفها لجنوده. وكان الخليفة يقوم بصورة دورية باستعراض قوات جيشه في أم درمان، وكان يجهد في حسم الخلافات التي كانت تنشب دوما بين قادة جيوشه في المناطق المختلفة. وتدهورت معنويات أفراد الجيش كثيرا بعد استدعاء الخليفة لأفراد قبيلته من الغرب لأم درمان. وتمثل هزيمة جيش الأمير عبد الرحمن النجومي إحدى مظاهر التدهور الذي حاق بجيش الخليفة.
المالية
تركزت إدارة أموال الدولة المهدية في "بيت المال" في أم درمان (يمكن مراجعة أمر المالية في المهدية في مقال مترجم بعنوان: "النظامان المالي والنقدي في عهد المهدية بالسودان (1881 – 1898م). المترجم). وكان غالب الدخل يأتي لبيت المال من "الفطرة" و"الزكاة". غير أنه في حالات العجز المالي، كانت الدولة تفرض على الأغنياء ضرائب إضافية. وكان دخل "بيت المال" يأتي أيضا مما يصادر من المحكوم عليهم بعقوبات مختلفة. وكان لبيت المال بأم درمان عمال في مديريات البلاد المختلفة، يعملون تحت قيادة أمراء تلك المديريات في "بيت مال" كل مديرية. غير أن حسابات كل "بيت مال" في كل مديرية كانت ترسل بصورة دورية إلى بيت المال في أم درمان، والذي كان مسئولا عن تمويل جيش المهدية.
القضاء
كان بأم درمان نحو 40 قاضيا، يحيل إليهم الخليفة القضايا المهمة والخطيرة. وكان الخليفة يرسل بعض هؤلاء القضاة للمديريات المختلفة لإجراء تحقيقات خاصة يطلبها منهم. وكانت كل إجراءات التقاضي والمحاكم وتنفيذ الأحكام تتم وفقا لما ورد في القرآن. غير أنه في الواقع كان هنالك كثير من التجاوزات في هذا الأمر. وكان الخليفة يكرر القول بأنه لا يتدخل في شؤون القضاء ولا في أحكامه، وأنه غير مسؤول عنما قد يرتكبه القضاة من هفوات أو زلات. غير أنه في الواقع كان القضاة يتلقون تلميحات محددة، يفهم منها الرضا (أو عدم الرضا) من أحكام معينة قد يصدرونها. وكان موقف هؤلاء القضاة محرجا جدا إن كان عليهم الفصل في قضية يكون الشاكي أو المتهم فيها من أقرباء المهدي أو الخليفة. وكان بعض الناس يتهمون القضاة بالفساد، حتى أن الخليفة شريف زعم وهو يدافع عن نفسه من تهمة التآمر علي الخليفة أن سبب سخط الأشراف من حكم الخليفة هو فساد القضاة.
البريد والاتصالات
كان البريد يحمل على ظهور الإبل المملوكة للخليفة، ويوزع على المناطق النائية بنظام المناوبة / التَّتابع (relays). وكان كل البريد الرسمي يحضر لبيت الخليفة ليفرزه الكتبة، ثم يعرض على الخليفة ليقوم بالرد عليه في عصر أو مساء ذات اليوم الذي وصل فيه. وكان البريد الخاص (غير الرسمي) يحمل ويوزع مجانا على سبيل الخدمة والاحسان للمواطنين. وبالنظر إلى الأحوال العامة بالبلاد في تلك السنوات، فقد كانت خدمة البريد على قدر كبير من الكفاءة النسبية.
التجارة
كانت التجارة، على وجه العموم، تجري بعدالة وحرية معقولة. غير أن تدهور العملة غدا عائقا خطيرا هدد الأمن العام بالبلاد وأفقد الناس الثقة في عملات البلاد الرسمية. إلا أن بعض التجار واصلوا في التبادل التجاري مع مصر، رغم قيام الخليفة أحيانا بمصادرة بضاعة هؤلاء التجارة بدعوى المتاجرة في الممنوعات.

________________________________________

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء