Harry Verhoeven هاري فيرهوفن ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لشذرات مما جاء في مقال للدكتور هاري فيرهوفن نشر في عام 2011م بالعدد التاسع والأربعين من "مجلة الدراسات الإفريقية الحديثة J. Modern African Studies" استعرض فيه بعض ما جاء في خمسة كتب هي:
Komey, G. K. Land, Governance, Conflict and the Nuba of Sudan. 2010. Keen, D. The Benefits of Famine: a political economy of famine ….Southwestern Sudan. 2008 Ryle, J. et al. The Sudan Handbook. 2011. Grawert, E. After the Comprehensive Peace Agreement in Sudan. 2010. Johnson, H. Waging Peace in Sudan: the inside story…..civil war. 2011.
حصل الكاتب على درجتي البكالوريوس والماجستير من جامعة قنت ببلجيكا، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد، ويعمل الآن – بحسب ما هو مبذول في الشابكة العالمية - بجامعة جورج تاون الأميركية (فرع قطر). وله اهتمام بحثي بالصراعات والسياسات في القارة الإفريقية، وبالاقتصاد السياسي للبيئة والمياه في منطقة القرن الأفريقي والبحيرات العظمى. وسبق له أن عمل مستشارا للبنك الدولي وصندوق التنمية بالأمم المتحدة. المترجم *********** ************* ************* مقدمة يعرف تاريخ السودان بأنه تاريخ عنف مُتَوَطِّن: فهنالك غزوات القرن التاسع عشر الاستعمارية التي قام بها الجيش التركي – المصري، ثم الجيش الإنجليزي – المصري، وتجارة الرقيق وما خلفته من إرث بغيض من عنصرية ومجاعات ونقص في السكان، والثورة المهدية، واندلاع تمرد الأنانيا في الجنوب عقب الاستقلال، ثم حرب أهلية بين الخرطوم و"الحركة الشعبية لتحرير السودان"، وحركات التمرد في دارفور وفي شرق السودان، وعدد غير قليل من الصراعات الصغيرة المتفرقة. ولا نبالغ حين نصف ما تعرض له ملايين السودانيين في أطراف البلاد بـ "انعدام الأمن المزمن" في أكبر الأقطار الإفريقية مساحة، حتى أتى يوم 9 يوليو 2011م. ونستعرض هنا ما جاء في خمسة كتب عن السودان، تناولت قضية العنف الفاشي بالبلاد من منظورات وزوايا مختلفة، من تأليف أو تحرير صحافي صار أكاديميا (رايل كين Ryle Keen)، وأكاديميين سودانيين (كومي، سيد أحمد، وسارا) وسياسيون ممارسون (جونسون، أوسلو، ليباجو). وفي هذه الكتب يمزج المؤلفون بين تجاربهم الشخصية الخاصة وبين تأملاتهم (النظرية) المجردة عن الديناميكيات الاجتماعية – الثقافية والسياسية – الاقتصادية، وقصصهم المتنوعة عن حياة المجتمعات البدوية والحضرية على حد سوء، في أوقات السلام والحرب. ويتضح عند النظر في مجمل ما سجله هؤلاء الكتاب، نجد أنهم يسهمون إسهاما كبيرا في زيادة وتحسين فهمنا لمنطقين متناقضين للحرب والسلام، ويلقي مزيدا من الضوء على ماضي السودان وحاضره، وربما مستقبله أيضا. الدولة الإسلامية: العنف كطريقة للحكم سيدرك كل دارس للسودان - بطريق مباشر أو غير مباشر- أن هذا القطر لم ينعم منذ استقلاله بالسلام قط لعام واحد كامل. وسيكون على هذا الدارس أن يفسر أسباب العنف البنيوي / الهيكلي والجسدي الذي غدا، منذ عقود، واحدا من الحقائق اليومية لكثير من المجتمعات المحلية. وتتفق الكتب المذكورة أعلاه على هذا الأمر. غير أنها تختلف عن بعضها في درجة طموحها ومداها التاريخي وما اختارته من وحدات التحليل. فبينما ركزت جونسون على المحادثات عالية المستوى التي ساهمت هي في تدبيرها بين حكومة السودان (الإسلامية العسكرية) وحركة تحرير السودان، قدم كين وكومي عرضا تاريخيا للصراعات الرهيبة التي دارت في مناطق جبال النوبة وجنوب دارفور وبحر الغزال على الحدود بين الشمال والجنوب، بين عامي 1983 و2002م. وفي المقابل نجد أن الكتاب الذي حرره قراوت قد جمع بين دفتيه آراءً لكتاب سودانيين وأفارقة آخرين ذوي تخصصات متنوعة تناولوا جميعا تحديات السلام التي تواجه البلاد في عهد ما بعد عام 2005م. أما كتاب رايل كين "دليل السودان The Sudan Handbook " فهو يعرض، ضمن مواضيع أخرى، المنظورات الكلية لعدد من الكتاب للجذور السياسية والتاريخية للحروب السودانية (الداخلية). ويجمع كثير من الذين كتبوا عن السودان على طبيعة الدولة السودانية، وديناميكية "المركز – الهامش" التي أفرزتها بحسبانها أُس الصراع المتوطن في ذلك القطر. ويقع تركيز الثروة والسلطة في الخرطوم والمناطق النيلية المحطة بها في يد "أولاد البحر" (تحديدا قبائل الجعليين والشايقية والدناقلة) في قلب المشكلة. وذكر (بروفيسور) جيستن ويليس في مقاله في كتاب "دليل السودان" أن حكومات السودان المتعاقبة كانت حكومات استبدادية، لم يكن أكبر همهما سوى تركيز السلطة في عاصمتها (المركز)، ولم تكن تتعامل مع الأطراف إلا بمزيج من العسف والقمع، بمشاركة القادة "التقليديين" والسلطات المحلية (سبق لنا ترجمة مقال لجيستن ويليس عن "تهجين السلطة في سودان الحكم الثنائي". المترجم). فقد سلك كل حكام السودان (إبراهيم عبود 1958 – 1964، والصادق المهدي 1966 – 1967و 1986 – 1989، وجعفر نميري 1969 – 1985، وحسن الترابي وعمر البشير 1989 – الآن) مسلكا واحدا تجاه المركز والأطراف، حيث اعتمدوا جميعا على منطق استخراجي extractive logic، وتكامل غير متوازن، تستغل فيه عناصر المناطق الطرفية البعيدة (العمالة والنفط والمياه الخ). وتقوم الدولة (كما في معظم الدول الإفريقية الأخرى) بدور حارس البوابة، ومَهَرت في التلاعب بفرص التسامح والقبول المتاحة في بيئة عالمية معقدة. وحاولت الأنظمة السودانية المختلفة بذكاء شديد، وهي التي تعمل كمورد للمواد الخام، أن تدرج مصالحها الخاصة في ديناميكية جيو – سياسية أوسع، وأن تجني من وراء ذلك منافع عديدة من خلال شراكات مع قوى عالمية أشد بأسا منها، شملت الولايات المتحدة والصين والهند ومصر وماليزيا ودول الخليج. غير أن الدولة السودانية ليست قوية بما يكفي، وقلما ما أمكنها التحكم في كل العمليات التي تشرع فيها. فقد قامت صفوة طبقة المتعلمين بشكل متكرر بتقديم برامج تنمية وتقدم راديكالية، وصوروا بلادهم وكأنها مقبلة على عصر "توجه حضاري" وسلام دائم. غير أن الإخفاق كان هو دوما مصير مثل تلك المشاريع الطموحة. أما أسباب إخفاق السودان في تحقيق ما ظل يهلل له، جيلا بعد جيل، من استغلال لإمكاناته الكامنة فتكمن في تناقضاته الداخلية فيما يتعلق برؤاه المستقبلية، وما على الدولة من تحديدات / قيود أساس fundamental limitations. وقدم كين وكومي مثالا شديد التأثير لمثل ذلك الإخفاق الذي حاق بتلك الآمال العراض في تصميم هندسة سياسية واجتماعية هائلة مفروضة مِنْ عَلِ (top - down). فعندما أعلن الرئيس جعفر النميري للعالم أن السودان سيغدو في غد قريب "سلة غذاء العالم"، صاحب ذلك الإعلان حملة ضخمة لاستخدام الآلات الميكانيكة في الزراعة المطرية في وسط السودان. ولكن صاحب ذلك أيضا اضعافا لنفوذ وامكانات disempowerment صغار الزراع. فقد صودرت الحيازات الزراعية الصغيرة لمزارعي كثير من المناطق، خاصة في جبال النوبة، لصالح المقربين من نميري. أما الرعاة من البقارة فقد تم إغلاق ممرات تنقلهم مع حيواناتهم بسبب قرارات بيروقراطية حكومة نميري القاضية بتأميم ملكية الأرض. وأفضى كل ذلك لزعزعة الترتيبات المحلية الدقيقة والمعقدة التي كانت تضمن التعايش (بين الزراع والرعاة)، وضاعفت من تهميش ملايين الناس، بل وأرست القواعد لصراعات دموية مهلكة بين هؤلاء المهمشين أنفسهم، وأدخلت جنوب كردفان وبحر الغزال بين عامي 1983 و2005م في أتون حرب أهلية، وتسببت في إحداث مجاعات عمت تلك المناطق، وفي القيام بمحاولات لارتكاب إبادة جماعية لشعب النوبة. وغدت تلك الأحداث جزءا لا يتجزأ من تلك الحرب الأهلية. وبينما كان جعفر نميري يتفاخر بمولد دولة جديدة بإمكانها إطعام الشرق الأوسط وأفريقيا، عادت (بقوة) المجاعة للسودان. يشير هذا المثال إلى أنه لا يجب أن يفهم أن السودان "دولة فاشلة" بالمعنى المعياري المعروف والمستهلك في لغة العلوم السياسية. فليس من مشاكل السودان أنه غير قابل للحكم بطبيعته، أو أن فكرة قيام سلطة مركزية فعالة فيه مستحيلة التنفيذ بسبب الاختلافات الثقافية والعرقية، أو بسبب حدوده المترامية الأطراف، كما هو الحال في دول مثل تشاد والصومال وأفغانستان. ولكن تكمن مشكلة السودان في أن "الدولة السودانية" خذلت عمدا وبكامل وعيها جمهرة كبيرة من سكانها. لقد أظهرت وفرضت النخب الحاكمة (من الاشتراكيين أو العسكريين أو الاسلاميين) باستمرار على السودان صورا محددة للتفوق العنصري والثقافي صممت لتعطي شرعية للاستغلال والقمع الذي ظلت تمارسه على المناطق الطرفية (المهمشة). وما أكثر ما خذلت الدولة السودانية شعبها، ليس لأنها تفتقر إلى القدرة، بل لأن من هم في سدة الحكم يؤمنون – بصدق – بدونية وضعة المجتمعات السودانية الأخرى (يكثر كتاب المقال من مثل هذه التعميمات الكاسحة التي لا تستثني أحدا... للمقارنة انظر مقال بيتر وود وارد المترجم بعنوان "هل السودان قابل للحكم؟". المترجم). وفي ذات الوقت، لا يجب علينا المبالغة في تضخيم تأثير الدولة، التي ظلت باستمرار تحاول جاهدة النفاذ للمجتمع لتطبيق مشاريعها "العظيمة". وكما ذكر ويليس وجيمس وسيد أحمد في "دليل السودان"، فتاريخ السودان هو سلسلة طويلة من (محاولات) التنمية الفاشلة، ومشاريع إعادة تشكيل هندسة المجتمع. وتحكم الخرطوم أطراف البلاد (المهمشة) بالإكراه وبالمحاباة والوصاية (patronage). غير أن هذا يعد سببا (ونتيجة أيضا) لضعف الدولة السودانية: فبينما تتمكن كليشيهات الحكام من التحايل والاستفادة من هذا الوضع لمصلحتهم الخاصة، ستفشل آمالهم في تحقيق أجندتهم وتنفيذ التغييرات التي يجاهدون في إنزالها على أرض الواقع بسبب فقدانهم للشرعية وإخفاقهم في خلق تكامل بين مكونات المجتمع المحلي. فلم يكن لنميري (ولا لحكام اليوم من العسكريين الاسلاميين) السند السياسي أو السيطرة المجتمعية أو الفهم العميق للمناطق الطرفية، وكل ذلك من أهم مطلوبات إعادة هندسة السودان بما يتوافق مع أحلامهم في التحديث. ***** ***** *** عند النظر لمجمل ما ورد في الكتب الخمسة، نجد أنها تساهم في إلقاء الضوء على كثير من الأسباب الهيكلية / البنائية للعنف المتطرف الذي تناسل وذَرّ؟ مع مختلف أنواع الحكم بالسودان عبر العقود، وكانت الحرب بين الخرطوم و"الحركة الشعبية" هي أسفل حضيض بلغته. ومن أهم أسباب المشكلة هي طبيعة الدولة نفسها، وما أفرزته سياساتها من صراعات بين المركز والهامش. غير أن هنالك العديد من العوامل الاجتماعية والسياسية والبيئية والثقافية الأخرى التي ساهمت في إذكاء نار العنف على المستوى المحلي والاقليمي. غير أن غالب الكتاب الذين عرضنا لما سجلوه في كتبهم لا يقبلون بالانحدار لدرك التشاؤم، خاصة فيما أتى به كومي (الأكثر تفاؤلا) عند تحليل أوضاع البقارة والنوبة. ويذكر هؤلاء الكتاب اسماء تلك الشخصيات التي تعمدت تعميق عمليات العنف والصراع والتسبب في كوارث بشرية، غير أنهم يذكرون أيضا الوسائل التي يمكن عن طريقها كسر هذه الدائرة الخبيثة من العنف المستمر. ولا شك أن المجتمع الدولي يمكنه أن يؤدي دورا في هذا المسعى، إلا قلة من الكتاب (ربما عدا هـ. جونسون) ليس لديهم كثير ثقة في الشركاء الإقليمين أو المانحين الغربيين، أو من يخطب السودان ودهم الآن من الآسيويين. إلا أنه من الأفضل الآن البدء على المستوى المحلي ثم الإقليمي. ولا شك أن ظروف قسوة البيئة والاعتماد / الترابط الاقتصادي في بعض المناطق (خاصة في جبال النوبة) تخلق كثيرا من الفرص للمجتمعات المحلية للدخول في حوار وخلق فرص لإعادة ما تهدم عديد المرات. كانت قراءة تلك الكتب في التاسع من يوليو 2011م (يوم مولد دولتين في شمال السودان وجنوبه) تذكيرا رشيدا بالتحديات الهائلة التي تواجه صفوة وعامة السودانيين على حد سواء في القطرين. لقد قضى السودان الموحد القديم (الذي خذل عمدا شعبه) نحبه. دعونا نأمل في أن تطور الدولتان الجديدتان في السودان منطقا مختلفا للحرب والسلام في المستقبل. (نشر الكاتب في عام 2016م كتابا عن الاقتتال بين "الرفاق" عنوانه: "Why Comrades Go to War. Liberation Politics and the Outbreak of Africa's Deadliest Conflict", London/New York: Hurst/Oxford University Press, 2016 ولا أدري أن كان الكاتب قد تطرق في كتابه هذا لما حدث في دولة جنوب السودان من صراعات دموية بعد انفصالها عن السودان. المترجم).