مقدمة: هذه ترجمة لمقال صغير ورد (دون ذكر اسم الكاتب) في العدد الثاني عشر لأشهر مجلة علمية في العالم هي (العلم Science) الذي صدر في ديسمبر من عام 1888م، عن المحمدية (الإسلام) وتجارة الرقيق في أفريقيا. ويبدو أن مجلة "العلم" كانت في تلك الأعوام الباكرة تقوم بنشر موضوعات متباينة في مختلف ضروب المعرفة، ولا تقتصر على الموضوعات العلمية البحتة مثل علوم الوراثة والأدوية والفيزياء والكيمياء كما هو الحال الآن. وتعد تلك المجلة الآن هي المجلة العلمية الأولى في العالم، ولا تنشر تلك المجلة إلا نذرا يسيرا (لا يتعدى 7%) مما يقدم إليها من كبار المشهورين من الباحثين. ولا ينافسها في ذلك الموقع المتقدم سوى المجلة البريطانية "الطبيعة Nature". وقد سبق لنا ترجمة مقالين من المقالات التي نشرتها تلك المجلة عن السودان منها مقال بعنوان "نبي السودان المزيف"، ومقال آخر بعنوان "السودان"، صدرا في 1884م. ولا شك أن هنالك روايات مختلفة ومعارضة تماما للتاريخ الذي يرويه الكاتب هنا.
المترجم **** **** *** أثبتت الحوادث التي وقعت مؤخرا بأفريقيا القوة الهائلة التي تتمتع بها الديانة المحمدية في تلك القارة. فقد قامت فيها إمبراطورية للمهدي، ودول الفلبو Fulbe (في وسط وغرب أفريقيا بين جبال فوتا جالون ونهر غامبيا. المترجم)، وتمددت المحمدية باضطراد في منطقة الجالا Galla )حيث تقطن شعوب حامية في شرق أفريقيا. المترجم) مما من شأنه تأكيد الأهمية التاريخية لذلك الدين في أفريقيا. ونرفق مع هذا المقال خريطة لأفريقيا توضح توزيع ونمو السلطة المحمدية في أفريقيا بحسب ما أورده أ. اوبيل A. Oppel في دراسة فريدة نشرتها مجلة الجمعية الجغرافية في برلين. لقد دخلت المسيحية إلى أفريقيا في وقت مبكر، وانتشرت جنوبا نحو منابع النيل في الحبشة، وكذلك نحو مناطق شمال أفريقيا. وتم في مصر الإيمان بكثير من الثوابت/ القطعيات (dogmas) تحت تأثير فلسفة المدرسة الإسكندرية. وتسربت بعض الطقوس الاحتفالية لديانات مصر القديمة للمعتقد المسيحي فيها. وظهرت أيضا العديد من النزاعات الأصولية تسبب في اندلاع كثير من الحروب المتطاولة. ثم تفككت الكنيسة المسيحية في أفريقيا، وامتهنت وابتذلت عندما ضمت إليها عناصر وثنية. ولهذا سهل أمر إزالة المسيحية القديمة عند دخول المحمدية لأفريقيا لأول مرة. وفي عام 640 م أرسل (الخليفة) عمر بن الخطاب جيشا لغزو (فتح) مصر كان على رأسه عمرو بن العاص، وكانت مصر حينها اقليما بيزنطيا. وأفلح عمرو في العام التالي في دخول الإسكندرية. وليحكم سيطرته على ما استولى عليه من أراض، قام عمرو بجلب عدد كبير من أفراد القبائل العربية ووطنهم في تلك الأراضي مما أثر على السكان المحليين وساهم في تحويلهم عن دينهم إلى المحمدية. ووجه عمرو بعد ذلك جيشه صوب حدود مصر الغربية فأحتل من خلفه في حكم مصر فزان (في ليبيا الآن) في عام 664م. وما أن أتى عام 711م حتى كانت كل مناطق شمال أفريقيا في قبضة العرب، والذين أفلحوا في تحويل السكان الأصليين من بربر وغيرهم من ذوي الأصول الإغريقية والرومانية عن دينهم ولغتهم فصاروا محمديين يتكلمون العربية. وازدادت في القرن السادس عشر قوة ونفوذ البربر، وتمكن أحد قادتهم من الانفصال من إمبراطورية الشرق (سلطة الخلافة) وإعلان استقلال دولته. ولصغر عدد المهاجرين العرب الأصليين للمغرب العربي فقد اندمج العرب بسهولة مع البربر الأكثر عددا. ولكن قامت القبائل المترحلة التي كانت تقطن صعيد مصر في منتصف القرن الحادي عشر بالهجرة غربا، وتوغلت في المناطق الداخلية لأفريقيا مما منح تمدد النفوذ المحمدي والعربي زخما قويا. وكان ذلك الدين الجديد في بداية القرن الحادي عشر قد بلغ المنحنى الشمالي الأكبر لنهر النيجر. ومنذ ذلك التاريخ غدت تلك المنطقة واحدة من النقاط المركزية والمهمة والقوية للمحمدية، وفي وقت من الأوقات موطنا لعلم وثقافة عاليتين. ويبدو أن الفلبو (Flube) دخلوا في المحمدية في تلك السنوات. وبدأ المهاجرون العرب في الاستيطان في السفح الشرقي للهضبة الإثيوبية، وتصاهروا مع السكان المحليين، وأنشأوا لهم إمبراطورية محمدية فيها. أما في وسط السودان (لعل المقصود بالسودان هنا هو أفريقيا) فقد كان تقدم زحف المحمديين فيه سريعا. ففي عام 1600م غدت مملكة / سلطنة باقرمي Baghirmi (الواقعة في غرب تشاد وكانت عاصمتها تسمى ماسيني. المترجم) دولة إسلامية شديدة البأس. وما لبثت "وداي" أن اعتنقت المحمدية أيضا. أما في القرن الثامن عشر، فلم يحدث تقدم كبير في التمدد المحمدي. غير أنه، ومنذ الأيام الأولى لقرننا هذا، قام الفلبو، تحت قيادة شيخهم الأصولي عثمان دان فوديو بالهجوم على دويلات الهوسا الوثنية وهزيمتها والسيطرة عليها، وأسس دولتين هما قاندو (Gando) وسوكوتو (Sokoto)، وأضاف إليهما لاحقا آدمانو (Adamaua)، التي تكون جُزْءاً من سوكوتو. وتمددت المحمدية أيضا في أعالي نهر النيجر (من منبعه غرب تامبكتو إلى منحناه) نتيجة لثورة الأصولي الحاج عمر الذي أخضع كامل منطقة حوض نهري السنغال والنيجر لسيطرته وحول غالب شعب المادنقو للإسلام (لعل المقصود هو الحاج عمر سعيد تال الفوتي، المولود في عام 1212هـ، ويسمى أيضا "سلطان الدولة التيجانية"، وكان قائدا لحركة إصلاحية إسلامية. المترجم). وأفلح العرب في إحكام سيطرتهم على الساحل الشرقي لأفريقيا لأول مرة في حوالي عام 1700م. غير أنهم فقدوا تلك السيطرة مرة أخرى نتيجة للاختلافات التي اِنْدَلَعَتْ بين قادتهم. غير أنه عند نهاية القرن الماضي قام سلطان عمان بمحاولة لإعادة احتلال ذلك الساحل، وأفلح في ذلك في 1838م. بهذا العرض المختصر نكون قد أوضحنا أوضاع حدود المحمدية في أفريقيا. غير أننا يجب أن نذكر أن التجار المحمديين قد توغلوا في مناطق أفريقيا الداخلية بأكثر مما ذكرنا. ومع دخولهم انتشرت تجارة الرقيق المهلكة المدمرة. وسنرى من الخريطة المرفقة إن مناطق تجارة الرقيق كانت تحازي، على وجه العموم، المناطق التي سيطر عليها المحمديون، وأن الرقيق الذين اصطيدوا من هذه المناطق قد انتهى بهم المطاف في الدول المحمدية. وكان الطلب على الرقيق يأتي من مصدرين، أولهما احتياجات سكان الدول المحمدية لخدمات الرقيق المنزلي، وثانيهما هو الاحتياج لمن يحمل وينقل العاج الذي يجمع للتصدير. ولمعرفة المدى الذي بلغته تلك التجارة يمكن لنا الاطلاع على الرسومات التي نشرها مؤرخ الفنون البلجيكي الفونسو فوترز (Wauters) في حركة الجغرافيا le Mouvement Géographique (هي مجلة بلجيكية كان يصدرها المعهد القومي الجغرافي في بروكسل. المترجم) وفي السنوات التي أعقبت انتصار البيض في أمريكا وإقامتهم للمزارع الضخمة، بدأ ملاك المزارع في البحث عن عمال لزراعة تلك المساحات الشاسعة، ومن هنا بدأت تجارة الرقيق من الساحل الغربي لأفريقيا. ولعل الأمر يتضح أكثر بإيراد بعض الأرقام عن تلك التجارة. أبرمت حكومة فيليب الثاني (ملك اسبانيا بين عامي 1556 - 1598م. المترجم) معاهدة مع حاكم أنجولا، تقضي بموافقة ذلك الحاكم تزويد المستعمرات الإسبانية بـ 4250 مسترقا كل عام، وذلك نظير مبلغ 162000 دوكات (Ducats). ومنح ذلك الاحتكار في عام 1701م للشركة البرتغالية الغينية، والتي وافقت على جلب 1000 طن من الزنوج كل عام (10,000 tons of negroes؟). وتزايدت من بعد ذلك أعداد المسترقين من الزنوج المتفق على توريدهم بواسطة مختلف الشركات المحتكرة، إذ بلغ عددهم في عام 1786 ما لا يقل عن 38000 مسترقا في أمريكا الإسبانية. وأرسل إلى جزيرة كوبا من هؤلاء المسترقين بين عامي 1811 و1820م 116000، بينما أرسل للبرازيل 50000 من المسترقين في عام 1848م. ويتضح بجلاء من هذه الأرقام، حتى في زمننا الحاضر، سبب قلة السكان في سواحل أفريقيا الغربية. وكانت منطقة الكنغو السفلى هي أكبر منطقة تمت فيها عمليات اصطياد الرقيق، حيث تم، بحسب مونتيريو، اصطياد وتصدير 100000 منهم سنويا. غير أن تجارة الرقيق على الساحل الشرقي لأفريقيا لم تكن منتعشة بذلك القدر. وكما يعلم الجميع فقد توقفت الآن تلك التجارة البحرية. ونظر لتحريم الرق في سائر الدول المسيحية، لم يعد هنالك طلب، وفي ذات الوقت لا حاجة، للرقيق في تلك الدول. وتضاءلت تلك التجارة أيضا على الساحل الشرقي نظرا لمحاولات الدول الأوربية منع تلك التجارة. وبقي ساحل البحر الأحمر هو المكان الوحيد الذي تتم فيه عمليات تصدير الرقيق إلى الجزيرة العربية وبلاد فارس. وبهذا توقف تصدير الرقيق من أفريقيا للأسواق الخارجية، غير أن الطلب الداخلي عليه ظل في تزايد، مما خلف آثارا مدمرة على المناطق التي كان يقطنها الرقيق. وكانت أهم تلك المناطق هي غرب السودان (لعل المقصود هي دول غرب أفريقيا)، وأعالي النيل، ومنطقة البحيرات ولوندا Lunda (هي مملكة أفريقية في عهد ما قبل الاستعمار أقيمت بين عامي1665 – 1887م، هي الآن جمهورية الكنغو الديمقراطية. المترجم). وكان سلاطين الهوسا في غرب السودان (أفريقيا) كثيرا ما يشنون حملات ضد جيرانهم في الجنوب لجمع الرقيق، والذين كانوا يستخدمونهم في دفع الجِزْي، أوفي تشييد المباني، أو يبيعونهم للحصول على أموال تغذى بها خزينة دولهم. وكانت كوكا (Kuka) عاصمة بورنو (Bornu) الواقعة غرب بحيرة تشاد واحدة من أهم أسواق الرقيق. وسجل رولفز (لعل المقصود هو المستكشف الجغرافي الألماني فريدريك جيرهارد رولفز 1892 -1896م) أنه شاهد قافلة من نحو 4000 من المسترقين تتجه نجو شمال القارة. وكانت العادة هي إرسال ما يفيض عن الحاجة من الرقيق عبر الصحراء. ولفترة طويلة من الزمن كان المغرب هو أهم سوق للرقيق، إلا أن الطلب عليه تضاءل كثيرا الآن. و وقدر رولفز قبل خمسة عشر عاما عدد الرقيق الذين جلبوا للمغرب بـ 10000 سنويا. وتوقف جلب الرقيق لمصر، خلا بعض المرات التي بلغت فيها قوافل الرقيق الحدود الغربية لمصر. وبالفعل وصلت لمصر في عام 1871م قافلة من وداي تحمل 2000 من الرقيق. وظل الرقيق يرسلون إلى مصر من غرب السودان (أفريقيا) حتى في نهايات عام 1880م. ولم تتضاءل تجارة الرقيق في شرق السودان (أفريقيا)، ولكن لأسباب أخرى. فقد تم إخلاء مناطق بحر الغزال وجبال النوبة ودار فرتيت ومناطق الشلك ونيام – نيام من كثير من سكانها، بينما خلقت تجارة العاج سوقا للرقيق والطلب عليه. فقد كان تجار الخرطوم يبعثون في كل عام بحملات مسلحة لتلك المنطقة عبر النيل (الأبيض) لجلب العاج، واصطياد الرقيق في مناطق أفرع بحر الغزال. وكانوا ينشئون ما يسمونه "زائب"، وهي معسكرات تقام على مسافات متقاربة ليجمع فيها الرقيق الذي يتم اصطيادهم وإجبارهم على العمل في صيد الأفيال وجمع وتحميل العاج من الغابات على البواخر. ومع مرور الأيام غدت تك الزرائب هي مراكز لتجميع المسترقين بعد أن يجبروا على العمل في حمل ونقل العاج. وتناقصت عمليات اصطياد الرقيق في عهد غردون. ولكن عادت تلك التجارة وانتعشت بعد أن سيطر المهدي على حكم السودان بأكمله. وقد تم (في ذلك العهد؟) تقدير من تم تصديرهم من السودان رقيقا بنحو 30000. ومما يؤسف له أن تلك المنطقة التي أخذ منها الرقيق كانت من أكثر المناطق الزراعية في أفريقيا كثافة بالسكان. وكان هؤلاء الرقيق ينقلون للبيع في أسواق دارفور وأعالي النيل وجبال النوبة وصعيد مصر، وأيضا إلى البحر الأحمر ومنها إلى الجزيرة العربية. وتتجه الأنظار في الوقت الحالي إلى مناطق في شرق أفريقيا (مثل حوض تنجانيقا ونهر الكنغو وتابورا) حيث لا تزال تجارة الرقيق موجودة. وقد وصل العرب إلى تابورا (حيث المستعمرة الألمانية في شرق أفريقيا. المترجم) في حوالي عام 1830م، وأقاموا لهم مصنعا في تنجانيقا. وبلغوا أيضا في عام 1868م نيانقوي Nyangwe (مدينة في منياما على الضفة اليمنى من نهر اليلابا في جمهورية الكنغو الديمقراطية الآن. المترجم). وتم بين عامي 1830 و1870م نقل قوافل ضخمة أعدادا كبيرة من المسترقين إلى مناطق أخرى في شرق أفريقيا رغم نجاح جهود الدول الأوربية في كبح تلك التجارة. غير أن تجارة العاج (وما تتطلبه من أَيَادٍ عاملة كثيرة) كانت واحدة من عوامل استمرار تجارة الرقيق. غير أنه كان هنالك عامل إضافي آخر، ألا وهو حاجة أصحاب المزارع من العرب إلى عمال زراعيين للعمل في مزارعهم. ولذا لجأوا إلى إقامة "الزرائب". ولا ريب إن إدخال وسائل حمل ونقل العاج من داخل القارة إلى السواحل سيحد من تلك التجارة. ونأمل في أن تفلح دولة الكنغو الحرة Kongo Free State (دولة أقيمت في وسط أفريقيا بين عامي 1885 و1908م تتبع لملك بلجيكا ليوبولد الثاني) في إقامة خط حديدي منتظم بين شلالات ستانلي وليوبولدفيل، إذ أن ذلك سينقذ حوض الكنغو من الآثار المدمرة لتجارة الرقيق. وكانت آخر المناطق التي تعرضت لغزوات تجار الرقيق هي لوندا. وهنا مارس البرتغاليون المقيمون هنا ما كان يمارسه العرب في باقي القارة. غير أنه يبدو أن ما اتخذته الحكومة البرتغالية من إجراءات نشطة قد تحد من تلك التجارة المدمرة، وتوقفها في نهاية المطاف. ولكن لن يتم ذلك بصورة نهائية وقاطعة إلا بإقامة وسائل فعالة للنقل والترحيل في وسط أفريقيا. غير أن المؤسسات المحمدية في شمال أفريقيا ستقاوم أي محاولة لمنع اصطياد الرقيق في غرب أفريقيا وستسعى لإفشالها، إذ أنه من المستحيل التأثير على الشعوب التي خلقت (وتخلق) الحاجة للرقيق.