حزب (دريفون) يتقدمه عمالقة!

 


 

فتحي الضو
4 July, 2017

 


جذبني للعنوان أعلاه إعجابي الشديد بالتراث السودانـي، وخاصة أغانيه الموغلة في المعاني الشفيفة والعميقة. ومما يؤسفني أن الذين يشنفون آذاننا آناء الليل وأطراف النهار، قلَّ ما تجدهم يطوفون حول كعبته المقدسة. ولو كان المقام مقام تباكٍ نلطُم فيه الخدود، لأسهبنا في ذلك حتى يدرك شهريار الصباح. لكن واقع الأمر، عطفاً على العنوان أعلاه، وطمعاً في أكثر مما كنا نعلم، كنت قد حددت وجهتي سلفاً في كلمة واحدة، وبموجبها سألت صديقي الأثير إلى نفسي صلاح شعيب، لا باعتبار جهويته التي أظن أن الكلمة ضمن ثقافاتها أو ربما ثقافة الوسط، ولكن لأنه أصلاً من المولعين بالفن السوداني عموماً، وله فيه إسهامات مقروءة، علاوة على أنه على المستوى الخاص، سبق وأن أسمعني عزفاً جميلاً على آلة العود، ولا أرغب في أن أخجل له تواضعاً، وتكون شهادتي فيه مجروحة!
(2)
بيد أنه قبل أن أسأل صلاحاً صلاحا، أقر أن كلمة (دريفون) نفسها من الكلمات التي ملكت شغاف قلبي طبقاً لعاطفة حميمة جُبلنا عليها، ولا أجد لذلك سبباً سوى مزاجي الخاص الذي يستنكف العنف أياً كان مصدره، وينحو نحو العقلانية في الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن. فلا غرو عندئذ من أن أسقط المعني الذي استهواني ثقافياً على الهم الذي استغرقني سياسياً. وفي هذا أعدت البصر كرتين، فرأيت أن ثمة حزباً صغيراً تنطوي فيه معانٍ سياسة كبيرة هو جدير بها. حزب لا يدّعي العراقة في منشئه ولا الحداثة في موطنه، وإن ناهز الأربعة عقود زمنية. ظلَّ خلالها يحبو، وحينما شبَّ عن الطوق طفق ينحت الصخر، لعل الصخر ينبت لنا زرعاً وخضراً، أو كما قال ود المكي.
(3)
إذا كنت يا قارئي العزيز ممن استقبلوا العيد بشيء من الإحباط كما هي أعياد أبا الطيب المتنبي، فأنهض وقل إنك تملك الجديد الذي تخزي به عين الأبالسة. وإذا كنت يا قارئي الحزين من زمرة الذين لا يرون سوى الظلام الحالك الذي يحاصرنا من كل حدب وصوب، فأعلم أن ثمة ضوء في آخر النفق، أشعل فتيله فتية وفتيات آمنوا بوطنهم وقضاياه. وإذا كنت يا قارئي الحائر من لدن قوم أصابهم التيئيسيون بوابل من غثهم، وصاروا يذرون على مسامعك تمدد سنوات العصبة، ويشيعيون صعوبة اقتلاعها، فقل لهم إن شباباً صمموا على دحرها، ولو كانت في بروج مشيدة.
(4)
إن حزب المؤتمر السوداني أو (دريفون) الأحزاب السودانية، يقدم لنا نموذجاً رائعاً لما ينبغي أن تكون عليه الأحزاب في أداء رسالتها السياسية، بغية النهوض بوطن أنهكته الصراعات منذ استقلاله وحتى سحابة يومنا هذا، وبلا ادعاء لبطولات زائفةـ إنه حزب (دريفون) بمعايير الواقع، ولكن يتقدمه عمالقة. حزب لم يستند على أيديولوجية ماضوية، ولا أخرى مستحدثة، وإنما طفق يبحث عنها في تراب الأرض الطاهرة. وقال لها أخرجي من دموع الثكالى والفقراء الغلابا. وقال لها أخرجي من مسامات الأيادي المتعرقة كداً وكدحاً، وقال لها أخرجي من أفواه المتعبين والجياع الذين أتعبهم البحث عن قوت من خشاش الأرض. وقال لها أخرجي من فوهات البنادق والحروب العبثية، وقال لها أخرجي من عيون الشباب الطامحين بغدٍ حتماً سيأتي ولو كره الظالمون!
(5)
عندما كنا نستقبل العيد ونعانق بعضنا بعضاً، ونتخير من الثياب أنظفها، ومن الأكل أجمله، ونتبادل التهاني اللطيفة مع من نحب من الأهل والأصدقاء والأسرة، كان هناك تسع رهط من ناشطي حزب المؤتمر السوداني يقضون العيد في قبضة السلطة الغاصبة. كان بينهم الدكتور الفاتح عمر السيد، وعلى كاهله ما يناهز السبعة عقود زمنية، وهو يحمل أسقامه التي أرهقت الجسد النحيل، كما (سيزيف) يحمل صخرته. وبينهم وداد درويش تلك الشابة التي حينما سطا الهولاكيون على السلطة كانت طفلة تحبو نحو أحلامها. وهل تدري يا صاح ما جريرتهم؟ جريرتهم.. إنهم تيمموا ديار ضحايا العدالة الاجتماعية في دولة المشروع الحضاري، الذين (دست) العصبة عنهم (المحافير) وباتت تتلذذ بالكوليرا تحصدهم حصداً، كما يحصد طفيليوها الدرهم والدينار والريال من أموال السحت.
(6)
بل تأمل خيبتنا وتقاعسنا طيلة السنوات العجاف. فحينما كنا نبحث عن الراحة وتنسم الهواء العليل، كان اليافعون من شباب الحزب الغض النضير يجوبون الطرقات وهم يحملون مصباح (ديوجين) بحثاً عن الحقيقة. تراهم يؤمون الوقفات الجماهيرية ليستثيروا همة المغلوبين على أمرهم. تراهم يطرقون الأبواب من منزل إلى آخر تنويراً بالحقوق المُهدرة، تراهم يتقافزون من فكرة إلى فكرة كما العصافير، بأجسام تسلخها حرارة صيف البلاد الغائظ. فتية وفتيات يسدون عين الشمس بهاءً وسطوعاً وتألقاً. كلما رأيتهم تعجبك أفكارهم، وتيقن أن لهذا الوطن رحماً ولوداً لن تعقر نساؤه طالما هؤلاء بينهم.
(7)
منذ فترة ليست بالقصيرة ظللت أتابع أنشطة الحزب (الدريفون) بعين الموجوع على وطن يتسرب من بين أيدينا، كما يتسرب الماء من الغربال. يشع الأمل في قلبي كلما أدلهم ليل الخطوب، وأراهم يضعون رقابهم بين يد الجلاد. يناطحون عصبة سخَّرت إمكانيات الدولة من أجل تمكين السلطة الفاجرة. أتضاءل خجلاً وأنا أراها تقودهم إلى معتقلاتها وسجونها المرة تلو الأخرى. أتقزم وجعاً وهم ينالون صنوف البطش والقهر والتعذيب. أتساءل ألماً عن جدوى العيش إن لم يكن هناك فسحة من الأمل. يصنعها الذين يتضورن جوعاً ويربطون على بطونهم ليمنحونا الشبع، يدوسون على آلمهم حتى يجنبوننا اليأس. وكلما قلت لهم هل مغيث؟ أطلوا عليك بوجوههم المحترقة بلهيب الشمس والآلام، وقالوا لك: إن الصبح موعدنا، أليس الصبح بقريب!
(8)
كلنا يعلم أن حزب المؤتمر السوداني الذي اغتصب (الهتلريون) اسمه كما اغتصبوا السلطة والوطن، وُلد داخل الجامعات. وعندما تخرَّج ناشطوه في تلك الجامعات لم يتركوه وراءهم لتنهشه الذئاب المتعطشة للدماء والثروة، فحملوه معهم وهنا على وهن، توسدوا به الشوارع التي لا تخون ملتجئيها، والفضاءات التي لا تدير الظهر لقاصديها، بحثاً عن الحرية الموؤدة والأماني الموعودة. وعندما تمددت المحنة وملأ غثيانها الجُب حتى فاض عن قذارته، نزحوا به إلى المدن البعيدة، دحضاً لأكذوبة الأبالسة في التفريق بين المركز والهامش!
(9)
يبهرنا الحزب (الدريفون) وهو يقدم لنا درساً متواضعاً في الديمقراطية حتى لا يقال عنه فاقد الشيء لا يعطيه. ففي زمن يتكالب فيه الموسوسون على الفريضة الضائعة، قدم لنا الحزب الوليد في سابقة نادرة، أربعة من رؤسائه وهم أحياء يرزقون، عبد الكبير آدم عبد الكبير، عبد الرحمن يوسف محمد خير، إبراهيم الشيخ، عمر الدقير – مد الله في أعمارهم ومنحهم الصحة والعافية – وكان خامسهم مولانا عبد المجيد إمام صاحب الموقف التاريخي، الذي انتقل إلى رحاب ربه قبل نحو عقدين من الزمن، هؤلاء تداولوا الرئاسة كابراً عن كابرٍ، أدوا واجبهم وغادروا مقعدها وهم في كامل عطائهم البدني والذهني. لم يتحججوا يوماً بسنوات الديكتاتوريات التي تمطَّت، ولا تذرَّعوا بغياب الديمقراطية التي تمنَّعت، بل واصلوا رسالتهم وهم لا يلوون على شيء.
(10)
أزجوا لهم التحية ولا تجعلوها أضعف الأيمان، فهؤلاء مناضلون كلما ألقمتهم السلطة الفاجرة سجوناً ومعتقلات، قالوا لها هل من مزيد. وعندما قال لهم أزهري محمد على، حادي شعراء الأمة (ما ضاق الوطن بل كبرت الزنزانة) قالوا له لبيك وحنانيك فقد صدَّقت الرؤيا، ونحن جلوسٌ في أعتاب الوطن المنهك، يتناسلون من أرومة شعب أرضعته الثجلاء وركابه النجباء، ويتنفسون عطاءً مشحون بالأمل، ذاك الأمل الذي قال عنه ناظم حكمت: إن أجمل البحار هو البحر الذي لم نذهب إليه بعد/ وأجمل الأطفال هم الذين لم يكبروا بعد/ وأجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد/ وأجمل القصائد تلك التي لم نكتبها بعد.
فلنقف لهم إجلالاً وإكبارا، ونوفهم التبجيلا، فقد كاد وأصبح (الدريفون) فينا رسولاً.

آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر.

faldaw@hotmail.com

 

آراء