الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان-شمال: تقويم المسار من الاتجاه الضار (1 من 2)

 


 

 


shurkiano@yahoo.co.uk

في البدء كانت الاستقالة

في آذار (مارس) 2017م تقدَّم القائد عبد العزيز آدم الحلو باستقالة إلى مجلس التحرير الإقليمي في جبال النُّوبة – تناولت فيما تناولت – تغييب المؤسَّسيَّة، وغشاوة القرارات المصيريَّة، وفقدان المصداقيَّة، وعدم الرجوع إلى القاعدة والتفاوض باسمها، والقبول بسقف دنيا في هذا التفاوض. إذ أنَّ ما جاء في الاستقالة إيَّاها يعتبر من العناصر العضويَّة في أي تنظيم سياسي يهدف إلى بناء الهيكل التنظيمي والحراك السياسي والكفاح المسلَّح، وكذلك يسعى إلى تحديد أهداف التنظيم السياسيَّة ووسائل تحقيقها. وحين ظهرت الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في أيار (مايو) 1983م أخرجت للشَّعب السُّوداني المنيفستو وأذاعته في النَّاس، وذلك بعد شهرين فقط، أي في 31 تموز (يوليو)، حيث حدَّدت فيه الجذور التأريخيَّة للمسألة السُّودانيَّة، وجذور حركات التحرير في المناطق المتخلِّفة في السُّودان، وتكلَّمت عن الأنيايا، واتفاقيَّة أديس أبابا للسَّلام، والتفكيك والخرق السياسي لاتفاقيَّة أديس أبابا والأزمة السياسيَّة اللاحقة، والتفكيك والخرق العسكري لاتفاقيَّة أديس أبابا والأزمة العسكريَّة التي تلت، وتأسيس وأهداف الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وإستراتيجيَّة تحويل وتوجيه الحركة الجنوبيَّة، ثمَّ أشارت الحركة في المنيفستو إيَّاه إلى الأعداء والأصدقاء الحقيقيين والمحتملين للحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. وبعدئذٍ ختمت الحركة المنيفستو بالخلاصة وتطلُّعات المستقبل. وقد أقدم كل من القائد عبد العزيز آدم الحلو والدكتور أحمد عبد الرحمن سعيد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2002م على ترجمة المنيفستو من الإنكليزيَّة إلى العربيَّة، واستهلا الترجمة العربيَّة بتقديم حتى تعم الفائدة، وبخاصة للذين لا يقرأون اللغة الإنكليزيَّة.
وفي مؤتمر الحركة الشعبيَّة التي انعقدت في شقدوم في 12 أذار (مارس) – نيسان (أبريل) 1994م برئاسة القائد يوسف كوة مكي تمَّ تطوير وسائل النِّضال لتشمل حق تقرير المصير لكل شعوب السُّودان الجديد المضطَّهَدة بعد تدمير السُّودان القديم، أو في أيَّة مفاوضات السَّلام مع حكومة الأمر الواقع في الخرطوم. ولتحقيق أهداف الحركة الشعبيَّة ذهب المؤتمر إيَّاه في تحديد وسائل النِّضال لتشمل الانتفاضة الشعبيَّة المسلَّحة كما كانت تقوم بها الحركة الشعبيَّة، ولا تزال، والانتفاضة الشعبيَّة بالتلاحم مع النِّضال المسلَّح والالتقاء بقوى المعارضة السُّودانيَّة الأخرى، والمفاوضات السلميَّة مع حكومة الأمر الواقع في الخرطوم تحت رعاية الوساطة الإقليميَّة والدوليَّة، والوسائل الديبلوماسيَّة بمساعدة وتنسيق مع القوى العالميَّة التي تناضل من أجل العدالة والسَّلام والدِّيمقراطيَّة وحقوق الإنسان، وفي سبيل الإنسانيَّة المشتركة، وأيَّة وسائل أخرى.
إزاء ذلك تحدَّثت استقالة الحلو عن الأولويات والضروريات وهي المنيفستو قبل الدستور، وتفعيل العمل الإعلامي، والاستعانة بالكوادر المؤهَّلة من أعضاء الحركة الشعبيَّة لتفعيل العمل في المكاتب الخارجيَّة. ومع ذلك، لم تغفل الاستقالة عن التطرُّق إلى الإرث التأريخي النِّضالي لشعب النُّوبة، وكيف استطاعوا بفضل بسالتهم وحنكتهم في الحفاظ على أنفسهم ككيان برغم من الظروف العصيبة التي مرَّت عليهم وألمَّت بهم، والفواجع التي وقعت عليهم من قبل الاستعمار وأعوانه.
على أيَّة حال، ففي بواكير نشوب الأزمة في قيادة الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان-شمال بعثنا – نحن ممثلي الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان-شمال في أوروبا – برسالة توسُّليَّة إلى أعضاء المجلس القيادي نحثَّهم فيها على احتواء المشكل بصورة جذريَّة لا استرضائيَّة، وذلك قبل أن يبلغ السَّيل الزُّبى وتصل القلوب الحناجر، ولكن لم نسمع منهم رداً، إلا من القائد عبد العزيز آدم الحلو. لم نكن بمندهشين حين لم نجد استجابة من الرئيس السَّابق ولا الأمين العام السَّابق، وبخاصة إذا كانا في الماضي وفي الحين نفسه لا يعيران آراء ومواقف نائب رئيس الحركة أي اعتبار؛ إذاً، فكيف يمكن أن يلتفتا إلى غيره. وقد تحادثنا مع أفراد من قيادة الحركة، وبذلنا ما وسعنا من الجهد لتدارك الموقف، ولكن دون جدوى.
وكذلك أسدى بعض أعضاء الحركة في الخرطوم نصائحاً لرئيس الحركة السَّابق عبر الصحف العامة، ولا نشك أدنى شك في أنَّه قد سمعها، أو قرأها، أو رآها. ونحن نخص بالذكر هنا النصيحة الثمينة التي قدَّمها القيادي بالحركة الشعبيَّة الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى بأنَّ على القائد مالك عقار أن يختار إما جبال النُّوبة وهي عماد الحركة الشعبيَّة، أو الانحياز إلى الأمين العام ياسر عرمان، واختار عقار الأخير وكان خياره هذا هو الطامة الكبرى، لأنَّه فضَّل أن يختار الجزء على الكل.
وقد أقرَّ الرَّفيقان عقار وعرمان بأنَّ استقالة الرفيق الحلو، التي دفع بها إلى مجلس التحرير الإقليمي في جبال النُّوبة، هي الثالثة من نوعها. إذاً، ما الذي كان مطلوباً في هذا الأمر؟ إنَّ التَّعامل مع استقالة القائد الحلو – شفاهة كانت أم كتابة – بالطريقة الاسترضائيَّة، التي تعني دفن الرؤوس في الرِّمال، والتي لئن اعتبرناها كانت بمثابة هفوة، وتعاملها مع الثانية دون التوغُّل في أعماق المشكل وحله حلاً جذريَّاً كان خطأً فادحاً. غير أنَّ تعاطيهم مع الاستقالة الثالثة كانت خطيئة مستعظمة كما سنبين بعد حين، والخطيئة على وزن فعيلة بصيغتها في المبالغة كانت مبالغة في التجاهل أو التحايل الذي تمَّ به التَّعامل مع الاستقالة الأخيرة، وذلك بالطريقة التي شهدناها إيَّاها، تجاهلاً لنائب الرئيس ومحاولة العبور إلى الشاطئ الآخر دون القبطان الرئيس في السفينة، حتى تمَّ أهدار الزمن الثمين، والمهلة المعطاة لحل الأزمة، مما اضطرَّ المجلسان الإقليميان الاضطرار كله إلى إصدار قرارات أخرى، وذلك بعد انتهاء المهلة المسموحة بها.
ومع ذلك، طفق رئيس الحركة يومئذٍ يتعلَّل بأسباب فنيَّة واهية بأنَّ الاستقالة لم تُقدَّم إلى المجلس القيادي، مع علمه مسبقاً بأنَّ ذلكم المجلس القيادي كان ناقصاً لم يكتمل نصابه بعد، حيث ظلَّت هناك ثمة مقاعد شاغرة منذ أمد مديد. وبما أنَّ مجلس التحرير الإقليمي في جبال النُّوبة – وكأعلى سلطة سياسيَّة في الإقليم في غياب مؤتمر الإقليم – من تأسيس القيادة نفسها، وهي بمثابة برلمان التحرير فهو، إذاً، مؤسسة تشريعيَّة وعلى رأسها الآن قاضي أُحيط علماً بفقه القانون الدستوري، وقد فسَّر المدَّعى العام لإقليم جبال النُّوبة (جنوب كردفان) – مولانا متوكِّل عثمان سلامات - دستوريَّة هذه القرارات في لقاء صحافي أجراه معه الصحافي يعقوب سليمان. غير أنَّ الحديث عن شرعيَّة القيادة السابقة بعد الذي جرى حديث يجافي الحقيقة، لأنَّ الشرعيَّة تأتي من الشَّعب أو من ممثلي الشَّعب وفقاً لأحكام الدستور، ولا تأتي من تكليف قيادي من الحركة الشعبيَّة الأم قبيل فك الارتباط العام 2011م، حيث تجاوزته الأحداث، وإنَّ ذلكم التكليف كان إلى حين انعقاد المؤتمر العام، ولكن لم يتم قيام المؤتمر إيَّاه لأسباب سوف نتطرَّق إليها في حينها، ولم يكن بمقدور النَّاس انتظار انعقاد هذا المؤتمر إلى الأبد. لذلك جاءت قرارات المجلس دستوريَّة، بل وثوريَّة لأنَّها لقيت استحساناً واسترضاءً وتأييداً من أهل السُّودان قاطبة، وفي ذلك استثناء لفئة قليلة من الذين يؤثرون العوراء على العيناء، ويسلكون مسالك الهلاك. ولكن لسنا بمندهشين، فالأقدار في بعض الأحايين تضع بعض النَّاس في مواقع ساخرة حين يسخر لهم القدر، ويلتبس عندهم الأمر. فعلى المرء أن يفعل دوماً ما هو صواب، وأن لا يُقبل على ما يمكن أن يكون حسناً في نظر الآخرين، فإنَّ ذلك ليدخل في فصل النِّفاق والرِّياء.
والشيء الذي فات على بعض الناس هو أنَّ القائد الحلو ممثل لشعب إقليم جبال النُّوبة أولاً، وثانياً لجماهير الحركة الشعبيَّة في السُّودان وخارجه قبل أن يكون ممثِّلاً للمجلس القيادي. ثالثاً، إنَّ الحلو حينما ألقى باستقالته المسبَّبة إلى مجلس التحرير الإقليمي في جبال النُّوبة وهو جسم تشريعي أراد أن يأخذ هذا الإجراء منحىً تشريعيَّاً دستوريَّاً بحيث يقرِّر أعضاء مجلس التحرير الإقليمي ماذا هم بها فاعلون، ومن ثمَّ اتِّخاذ الإجراءات التصويبيَّة الكفيلة بإنقاذ سفينة التحرير من الغرق المحتوم، أو المرسوم له لو لم تتدارك النَّاس الأمور قبل فوات الأوان. وكانت هذه القضايا الجوهريَّة هي هيكليَّة التنظيم، وأولويات التفاوض الإنساني والسياسي والأمني، وحق تقرير المصير كسقف أعلى للتفاوض ولا التنازل منه.
أما فيما يختص بمقترح تنازل القادة الثلاثة عن مواقعهم في قيادة الحركة، فقد قدَّم القائد الحلو أنموذجاً في هذا الشأن بتقديم استقالته ليست مرة، بل ثلاث مرات. وأعضاء مجلس تحرير جبال النُّوبة رفضوا استقالته، وجدَّدوا فيه الثقة ليكون قائداً لهم؛ لأنهم أحسوا بأنَّه ظلَّ يعبِّر عن قضاياهم بشكل حقيقي وصادق. فالشَّعب في الإقليمين والجيش الشَّعبي – ضباطاً وصف ضباط وجنوداً – وجماهير الحركة حتى في مناطق سيطرة الحكومة ودول ما وراء البحار هم الذين أعادوه إلى سدة القيادة، لأنَّهم لم يرضوا بغيره بديلاً. فلِمَ لم يُقبل الرفيقان عقار وعرمان على تقديم استقالتهما، فإذا رضي بهما الشَّعب والجيش الشَّعبي وأعادوهما إلى دفة القيادة فليكن هذا هو صوت الجماهير ورغبة جيشها الشَّعبي. غير أنَّ هذا الشيء لم يحدث، حيث أنَّ التَّنادي من قبل الرفيقين إيَّاهما بالذِّهاب ثلاثتهم فهذا من باب عليَّ وعلى أعدائي، أو فلتغرق روما وأهلها!

قالوا وقلنا

يا تُرى ماذا جرى بعد هذا الانفجار العظيم أو الطامة الكبرى؟ فبدلاً من بذل قصارى الجهد للالتقاء بالقائد الحلو ومعالجة القضايا مثار الاختلاف سافر القائدان عقار وعرمان إلى جبال النُّوبة، وذلك في استغياب لنائب الرئيس آنذاك – القائد الحلو – وعقدا اجتماعات وأصدرا بيانات وقرارات بما فيها تشكيل إدارات مدنيَّة جديدة في حين أنَّ هناك إدارات ومنظمَّات طوعيَّة موجودة أصلاً وتعمل على قُدم وساق، وبصورة مرضيَّة. كان هذا المنحى بمثابة تعقيد الأمور بدلاً من حلها، وبخاصة الأسلوب الموارب الذي استخدم في التعاطي مع الأزمة، والذي يعفُّ لساننا عن ذكره أو ترديده. ثمَّ كان هذا التجاهل التام لنائب رئيس الحركة هو الاستفزاز بعينه، ولا ريب في أنَّه لم يكن يرضي نائب الرئيس فحسب، بل لم يرضاه النُّوبة في جبال النُّوبة، وفي ربوع السُّودان، وفي أصقاع العالم الخارجي وأقاصي الدنيا. وإذا كان النُّوبة – في الماضي والحاضر والمستقبل – لم يكن ليرضون حتى بشيوخهم الذين أتوا بهم أن يفرضوا عليهم الوصايا من علٍ؛ ولم يستكينوا لجبروت وحملات التركيَّة-المصريَّة الاسترقاقيَّة (1821-186م)، ولم ينصاعوا للمهديَّة (1882-1898م)؛ ولم ينكسروا أمام الحكم الثنائي البريطاني-المصري (1898-1956م)، إلا بعد أن استأسد عليهم جنوداً من حامية شندي وبقايا الحملة التي قضت على ثورة السلطان علي دينار في دارفور، واستعانوا بالآلة الحربيَّة والطائرات؛ ثمَّ لم يقبلوا باستمرار ولاية إسماعيل خميس جلاب (2005-2007م)، ولا نيابة دانيال كودي أنجلو (2007-2009م)، فكيف ظنَّ القائدان عقار وعرمان أنَّهما بمقدورهما أن يفرضا على النُّوبة ما لا يرضونه. وشعب النُّوبة منذ أمدٍ بعيد امتلك حريَّة القرار وناصية القول، وإنَّا – والحمد لله – لفخورون بذلك، عسى أن يزدهم الله في ذلك قوة وتماسكاً.
ومنذ بزوغ العمليَّة التصحيحيَّة في الحركة الشعبيَّة لئلا يتم التجديف في البحر نحو الحجر، وفي سبيل تقويم المسار من الاتجاه الضار، قرأنا مقالات كثراً عما كتبه الكتَّاب في هذا المجال، فهناك من كتب مادحاً ما قام به مجلسا التحرير الإقليمي في جبال النُّوبة والنيل الأزرق؛ وهناك من ظلَّ قادحاً فيما ذهب إليه أعضاء المجلسين من قرارات. وفي كل ذلك أُعجبنا أشد الإعجاب بالمنطق والصوغ اللذين ذهب في سبيلهما أهل الهامش لسرد القضيَّة والتعاضد عليها. وفي خلال ثلاثة عقود من الزَّمان لم يبلغ أبناء النُّوبة قدراً من التعليم، والقلة القليلة التي استحوز على علم يسير يومئذٍ لم تجد حظاً في وسائل الإعلام في التعبير عما يعانيه أهلهم في الجبال، وفي مدن السُّودان المختلفة. وها هم الآن قد بلغوا قسطاً من المعارف، ونهلوا شأواً في العلوم بمجالاتها المختلفة بما فيها الإعلام، وشرعوا في المساحة الإعلاميَّة المتاحة لهم في الخارج – والتي لم يكن لهم بها حظ من قبل داخل البلاد – يعبِّرون عن آرائهم وحقوقهم المدنيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة بشيء من الإفصاح عظيم.
وقد لفتت انتباهنا وشدَّت حفيظتنا عدة مقالات نُشرت في الشبكة العنكبوتيَّة، كانت أولها للدكتور عبد السَّلام نور الدِّين بعنوان "لا تنخدع بالعبور إلى الضفة الأخرى". وفي الحق، نحن نشيد بمقال الدكتور عبد السَّلام نور الدِّين الذي كتب مقاله بعد أن نظر إلى القضية في صياغها السياسي والاجتماعي في إطار المركز القابض القاهر للثقافات والأثنيات الأخرى وحرمانهم من أوكسجين السلطة، وكعكة الثروة. وبأسلوبه الفلسفي أشار إلى أنَّه في نهاية الأمر سيتعامل النظام مع أصحاب البندقيَّة الطويلة، وليست الأصوات العالية دون حراك عسكري. أفلم يقل قائلهم – أي الرئيس البشير في وقت مضى – من أراد أن يصطرع السلطة عنَّا فليحمل السِّلاح وينازلنا، والحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – شمال تحت قيادتها الجديدة برئاسة القائد الحلو مؤهَّلة لذلك. والدكتور عبد السَّلام نور الدِّين بصفته أحد أبناء كردفان كان صادقاً مع نفسه لأنَّه يعلم في أشد ما يكون العلم ما حاق بالمنطقة من ظلم أهل الحكم في الخرطوم؛ هذا الظلم الذي لم يفرِّق بين مواطني المنطقة عرباً ونوبة كانوا أم أيَّة مجموعة أثنيَّة أخرى مقيمة في كردفان. فيا أهل كردفان خاصة، وسكان الهامش عامة، تعالوا إلى كلمة سواء للتخلص من أصحاب الحكم وسدنتهم في الخرطوم، حتى تتم إعادة صياغة السُّودان على أسس العدالة والمساواة، وقيم احترام الإنسان لأخيه الإنسان، ونبذ التطرُّف بكل أنماطه.
أما مقال الدكتور حيدر إبراهيم علي الذي جاء بعنوان "خلافات الحركة الشعبيَّة: حرب الهامش ضد الهامش وتهافت شعار السُّودان الجديد" فإنَّنا نرى أنَّه لم يجانبه الصواب بتاتاً، وقد أتي شيئاً إدَّاً، حتى تناثرت السهام ينشنه يمنة ويسرة، لأنَّه أثار مياهاً راكدة، مما أثار حفيظة أهل الهامش وطفق الصَّامتون يتكلَّمون بغضب. وقد أعجبنا أيضاً مقال الدكتور صدِّيق أمبدة في مداخلته لتفنيد آراء الدكتور حيدر، وكتَّاب الأعمدة في الصحف "الخرطوميَّة"، وإذ نحن نعلم آراء الدكتور أمبدة الجريئة في الماضي حينما انبرى متحدِّياً عبد الرَّحيم حمدي في مثلَّثه. وفي الحق، لقد فكَّرنا مليَّاً لنجد تبريراً واحداً للذي دفع الدكتور حيدر إبراهيم علي أن يكتب ما كتبه ثمَّ ينشره، لكننا لم نهتد إلى ذلك سبيلاً. فنحن نعرف أنَّ ما كتبه الدكتور حيدر هو ما ظلَّ يردِّده الأعراب من أهل الشمال ومن غلاة المركز في جلساتهم الخاصة، وحين يخلون إلى أنفسهم، وبعد أن يلتفتوا يميناً ويساراً كالسارق الذي لا يريد أن يراه أحد. غير أنَّ القول الذي أتى به الدكتور حيدر كتابة واعتبره حواراً – ولئن لم نر في ذلك أي حوار – لم يناسب مقام الدكتور حيدر الذي عرفناه مؤسِّساً لمركز الدِّراسات السُّودانيَّة، وقد قدَّم المركز بحوثاً عديدة في قضايا السُّودان المختلفة، وقام بترجمان لأعمال أكاديميَّة وبحثيَّة في غاية الأهميَّة.
وقد أحسن كل من الأساتيذ فاروق عثمان والطيِّب الزين في الرَّد على الدكتور حيدر إبراهيم علي، ومحمد عثمان (دريج) الذي وصف "تهافت خطاب الهامش عند الدكتور حيدر إبراهيم علي ب"ترامبيَّة" بنكهة سودانيَّة"، وبولاد محمد حسن في الرَّد على ما ارتآه الدكتور حيدر من وجهة نظر، ومن ثمَّ قذف بها إلى الصحف لنشرها، دون التنبؤ بالعواقب، أو قد تنبأ بها، لكن ما نفخ به من روحه هو ما ظل كامناً في مخيلته ردحاً من الزَّمان. وبعدما انهالت عليه الهجمات اللاذعة من كل صوب، ردَّ بمقال آخر أفرغ فيه غضبه بعنوان "الكفاح العنصري المسلَّح ضد الحوار والعقلانيَّة"، ثمَّ أردف بمقال آخر كان أكثر غضباً من السابقين، لكنه وعد نفسه ب"نظرة إلى المستقبل" في إشارة إلى السعادة التي غمرته من "بشارة ياسر عرمان (الأمين العام السابق للحركة الشعبيَّة) بميلاد ثان للحركة"! وإنَّ صراع المركز والهامش لصراع ماثل في جميع المجتمعات التي فشلت حكوماتها في أعظم ما يكون الفشل في تحقيق العدالة الاجتماعيَّة والمساواة والتنمية والمشاركة السياسيَّة الفعليَّة بين المركز والتخوم. وكان أول ما نظَّر في مفهوم المركز والتخوم المهمَّشة هو البروفيسور الكيني علي مزروعي، ولفت إليه نظر الناس في السُّودان الدكتور جون قرنق في فكرة السُّودان الجديد، ثمَّ استخدمه الدكتور أبكر آدم إسماعيل في دراساته عن الواقع الماثل في السُّودان كما أشار إلى ذلك الدكتور محمد جلال هاشم في ورقته عن "السُّودانوعروبيَّة، أو تحالف الهاربين: المشروع الثقافي لعبد الله علي إبراهيم في السُّودان" (دوريَّة "السُّودان للجميع" (Sudan For-all) الإلكترونيَّة، 16/8/2006م).
ومع ذلك، ارتأينا أن نقف عند نقطة واحدة هنا ذكرها الدكتور حيدر – فيما ذكر من أشياء، وهي الحديث المكرور عن الدكتور علي الحاج محمد، وما يدريك عن فساد طريق الإنقاذ الغربي، الذي قال عنه علي الحاج نفسه قولته الشهيرة "خلوها مستورة!"، ولعلَّ الدكتور علي الحاج كان يعني أنَّه إن أردتم فتح هذا الباب فلسوف تأتي الرِّياح بما لا تشتهي السفن، فكلهم فاسدون كانوا وما يزالون. إذ أنَّه كلما طفق أبناء الغرب يتحدَّثون عن استحقاقاتهم إلا وانبرى أحد من أبناء النيل الشمالي مشيراً بأصبعه إلى الدكتور علي الحاج. ولعلَّ مبارك الفاضل كان جريئاً في عنصريَّته البوَّاحة حين أشار إلى الدكتور علي الحاج في مطلع التسعينيَّات بأنَّ أحفاده من البرقو نزحوا إلى دارفور من تشاد، وقد تناسى – والتَّناسي هو تعمُّد النسيان – مبارك الفاضل نفسه بأنَّ أهله هو ذاته جاءوا إلى السُّودان من شبه الجزيرة العربيَّة على ظهور الإبل عن طريق شبه جزيرة سيناء، أو بالقوارب عبر البحر الأحمر، واستضافهم أهل السُّودان، ومن ثمَّ أخذوا يتعالون عليهم بأنَّهم من الأشراف "والبلد بلدنا ونحن أسيادها"! ومبارك الفاضل لم يكن يكتب السيرة الذاتيَّة أو يؤرِّخ للدكتور علي الحاج حتى يذكِّر النَّاس بمكان ميلاد أجداده وهجرتهم عبر الحدود، بل ألقى بهذه المعلومة في سبيل عنصرة بغيضة في مشكل سياسي دون أن يكون لهذه المعلومة مكان في الإعراب عنها. ففي اتجاهات السُّودان الأربعة نجد التَّداخل البشري، وليس هذا بمشكل، ولكن المصيبة الكبرى تكمن عند أهل الحكم في السُّودان، والذين فشلوا الفشل كله في إدارة التنوُّع الأثني والثقافي والدِّيني.
على أيٍّ، فقد اطَّلعنا على مقال الدكتور عمر القرَّاي في صحيفة "سودانايل" الإلكترونيَّة. إذ لم يسعفنا الحظ أن نلتقي بالدكتور القرَّاي أبداً، ولكن تيسَّر لنا الأمر في أن نطَّلع على مقالاته الكثر التي ينشرها في الصحف الإلكترونيَّة، وكذلك قرأنا له كتيباً بغلافه المخضر عن الجهاد. ومن هنا نستطيع أن نقول إن كان الكاتب القرَّاي قد كتب مستهجناً الحملات الجهاديَّة التي ظلَّ نظام "الإنقاذ" يقودها بوقودها النَّاس في جبال النُّوبة منذ فتوى قتال النُّوبة الصادرة من فقهاء السلطان في مدينة الأبيض في نيسان (أبريل) 1992م حتى اليوم، لكان قد أسدى منفعة كبرى وصنيعة عظيمة لأهل النُّوبة في الجبال.
بيد أنَّه فضَّل الاستعانة والاستغاثة بغثاثة ما تداولته وسائل الاتصال الاجتماعي للارتكاز عليه، والاستدلال به، ليقف في نهاية الأمر في الشاطئ الآخر مع فريق القائدين المعزولين. وقد تولى أمر الرَّد على نصائح القرَّاي الكاتب الصحافي عبد الغني بريش فيوف بمقال مستطال في الصحف الإلكترونيَّة. أما إن كانت هناك ثمة نقطة إيجابيَّة أتى بها الدكتور القرَّاي فهي استخدام نظام الخرطوم للسيِّد الصَّادق المهدي في تدمير عمل المعارضة في الخارج، وقد اعترف النظام نفسه في تسريب محضر الاجتماع الأمني يوم 18 حزيران (يونيو) 2017م، والذي ظهر إلى العامة أخيراً، حيث أورد المحضر إيَّاه في ذلكم الاجتماع – فيما أورد – بأنّهم "لا بدَّ من تأليب قوى نداء السُّودان عليه (أي الحلو) بواسطة الصَّادق المهدي، وإبراز عدم مصداقيَّة الحلو، والتحرُّك إقليميَّاً ودوليَّاً بأنَّه رافض للسَّلام،" والكلام هنا منسوب إلى الفريق أول بكري حسن صالح رئيس مجلس الوزراء. إزاء هذا كان على عقار وعرمان أن يفهما كيف يفكِّر سليل المهدي. فمنذ اجتماع الصَّادق المهدي بزعيم الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة الرَّاحل حسن عبد الله الترابي في جنيف العام 1999م، وهو بذلك مغرِّدٌ خارج حلقة التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي، ثمَّ انسلاخه من التجمُّع الوطني ذاته وعودته إلى الخرطوم، وقال لرفاقه الذين تركهم وراء ظهره حينذاك إنَّه لذاهبٌ إلى الخرطوم لقيادة الانتفاضة الشعبيَّة (الجهاد المدني بلغته) من الدِّاخل. ومنذئذٍ بات الصَّادق ديبلوماسيَّاً شعبيَّاً للنِّظام الخرطومي. وها هو النِّظام الإنقاذي ما يزال قائماً، فمن ينتظر الانتفاضة المدنيَّة التي سيقودها السيِّد الصَّادق، وهو ممتطياً جواداً أبيضاَ، فسوف ينتظر دهوراً، ويحصد في نهاية الأمر ريحاً. ولعلَّ من يريد أن يعرف أين كان موقع السيِّد الصَّادق في فجر وضحى وعشيَّة الانتفاضة الشعبيَّة التي أطاحت بالرئيس الرَّاحل جعفر محمد نميري فعليه أن يقرأ مذكِّرات اللواء (م) جوزيف لاقو صفحة 445، وهو كتاب نشره مركز محمد عمر بشير للدِّراسات السُّودانيَّة في جامعة أم درمان الأهليَّة باللغة الإنكليزيَّة، واللواء لاقو من أولئك الذين لا يمضغون الكلام.
)Lagu, J. 2006. Sudan: Odyssey Through a State from Ruin to Hope. Omdurman: MOB Cetre for Sudanese Studies, Omdurman Ahlia University(
ذلكم هو السيِّد الصَّادق الصدِّيق عبد الرحمن محمد أحمد (المهدي)! فما أن وطئت قدماه أرض المعارضة في أيَّة بقعة كانت إلا وأن أضرَّ بالمعارضة الضرر العظيم.
وكذلك كان من ضمن ما قرأناه مقالاً لخالد التجاني النور، الذي جاء بعنوان "نهاية أيديولوجيا الحركيَّة السياسيَّة: ما بعد أفول مغامرتي المشروع الحضاري والسُّودان الجديد"، والذي فيه قارن وقارب بين الحركة الإسلاميَّة والحركة الشعبيَّة مستخدماً منهجاً تحليليَّاً وصفيَّاً، وتوصَّل الكاتب إيَّاه – فيما توصَّل – إلى أنَّ المآلات تشي بالنهاية الحتميَّة في كليهما. إذ أنَّ ثمة عناصراً قد فات على الكاتب ألا وهي أنَّ الحركة الإسلاميَّة قد ابتنت صرحها على أيديولوجيَّة دينيَّة سافرة، ولغة عنصريَّة مقيتة اللتين عبَّرت عنهما ب"المشروع الحضاري"، وفي ذلكم المشروع البعبع المروع استبعدت جل عناصر المجتمع السُّوداني، حتى أوشكت على استعبادهم، أو بات استعبادهم قاب قوسين أو أدنى. بيد أنَّ الحركة الشعبيَّة قد انتهجت في رؤيتها منهاج المواطنة بحيث تتساوى الناس في الحقوق والواجبات الدستوريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة بغض الطرف عن المعتقد التعبدي، أو لون البشرة، أو تجاعيد الوجه، أو نوع الشعر، أو أيَّة سمة من السِّمات الخلقيَّة التي اعتاد بعض طوائف النَّاس أن يميِّزوا بها بعضهم بعضاً بغير وجه وحق؛ ثمَّ شدَّدت الحركة الشعبيَّة – وما تزال تشدِّد – على أنَّ السُّودان الجديد الذي تصبو إليه، وتسعى سعياً سياسيَّاً وعسكريَّاً لتحقيقه هو السُّودان الدِّيمقراطي العلماني الموحَّد، ولو تعسَّر ذلك بفضل تعنُّت وتعسُّف نظام الحكم في الخرطوم فلكل إقليم – متى ما ارتضى أهله – أن يكون لهم الحق في تقرير مصيرهم.


وللحديث بقيَّة،،،،،

 

آراء