الناظر إلى علاقة المركز والأطراف، أو الهامش، في السودان، يمكنه بسهولة إستبصار مجموعة من المفارقات والتناقضات ذات الدلالات الهامة. فالأطراف هي مصدر ومنبع موارد البلاد الأساسية، الزراعة والثروة الحيوانية والتعدين، والتي منها يتم إنتاج الخيرات المادية والفائض الإقتصادي لصالح المركز، بينما الأطراف لا ينوبها إلا الفتات. والأيدي العاملة من عمال الصناعة وعمال الخدمات والعمال الزراعيين، توفرهم الأطراف وترفد بهم المصانع والمؤسسات الإنتاجية والخدمية المتركزة في المركز، والتي تساهم في تطوير المركز وإستمتاعه بمختلف الخدمات الضرورية، بينما تنعدم هذه الخدمات في الأطراف. والأطراف توفر السواعد الفتية القوية للعمل كجنود في الجيش والشرطة والقوات النظامية الأخرى، وهذه توفر الحماية وإنفاذ القانون، والمستفيد الأكبر هو المركز. ورغم كل هذا الذي تنتجه وتوفره الأطراف، إلا أنها لا تنعم بثماره، بل تعاني أشدّ المعاناة، من الإجحاف والإهمال والتهميش، ويسكنها التوتر العرقي والقومي والاجتماعي، وأضحت ميدانا للحرب الأهلية في السودان. بعد الاستقلال، تبنى الحكم الوطني مشروع الإستعمار البريطاني الإقتصادي، والذي يركز على التنمية في المثلث الواقع في وسط البلاد، مشروع الجزيرة، وبناء السكة حديد، وبدايات تأسيس الصناعة…الخ، على أساس إستخدام عائد هذه المشاريع في تنمية الأطراف. لكن، الفشل كان حصاد هذا المشروع، وكان ذلك أحد جذور أسباب الظلم المزمن الواقع على هذه الأطراف، وأحد أسباب تناقضاتها مع المركز. ونتيجة لهذا التهميش، وبسبب الخلل البائن في معادلة المشاركة في السلطة ومعادلة تقسيم الموارد والثروة، بين المركز والأطراف، وإمتداد ذلك الخلل وذلك التهميش ليتجلى في سياسات الإستعلاء العرقي والثقافي، أعلنت الأطراف تمردها على المركز، لدرجة حمل السلاح، رافضة التهميش وتلك السياسات، ومطالبة بعلاج خلل معادلة قسمة السلطة والثروة عبر إعادة بناء وهيكلة الدولة السودانية على أساس، أولا، الإعتراف بالتنوع والتعدد، ومبدأ قبول الآخر، ثم تجسيد ذلك الإعتراف في صياغات قانونية ودستورية، وفي الممارسة العملية، بإتجاه تصحيح العلاقة بين المركز والأطراف. وبالنظر إلى تمرد وثورة الأطراف، أو الهامش، نجد أن التمرد في جنوب السودان إنطلق عنيفا مسلحا منذ بداياته الأولى في العام 1955. لكن التمرد في المناطق الأخرى، لم ينفجر فجأة، أو بغتة، ولم يبدأ منذ الوهلة الأولى بالشكل الذي نراه الآن. فقد شهدت خمسينيات وستينيات القرن الماضي تأسيس أندية وجمعيات وروابط جهوية وقبلية في عاصمة البلاد، في المركز، أسسها المتعلمون والمستنيرون من أبناء تلك المناطق والقوميات، والذين يعملون في العاصمة، بهدف دفع السلطات الحكومية في المركز لتوفير الخدمات لمناطقهم من صحة وتعليم ومياه شرب نظيفة…الخ. وفي محاولة لمزج ثقافاتها بالثقافة السائدة في المركز، أو لتأكيد أنها مكون أساسي من مكونات الثقافة والهوية السودانية، كونت تلك الأندية والروابط فرقا فنية تعبر عن ثقافات مناطقها وقومياتها، وتتغنى بها في كل مناسبات المركز، خاصة في أعياد ذكرى الإستقلال والمناسبات القومية الأخرى، في دلالة واضحة وذات مغزى. كما كونت هذه الأندية والروابط فرقا رياضية فرضت نفسها على هيكل التنظيم الرياضي في العاصمة / المركز. لم تكن السياسة حاضرة في بدايات هذا النشاط، أو كانت حاضرة بشكل خافت ومستتر، لكن العين الواعية سياسيا كان بمقدورها إبصار نطف الإحتجاج والتمرد في هذا الحراك. ثم تدريجيا بدأت السياسة تتقدم لتفرض نفسها وسط هذه الأندية والروابط، من داخل الأحزاب التقليدية في البداية، ثم لاحقا في شكل تنظيمات مستقلة، مثل مؤتمر البجا، إتحاد عام جبال النوبة، تحالف قوى الريف…الخ، ومن يومها، بدأ جنين التمرد والثروة يتخلق وينمو. لكن، وللأسف، النخبة السياسية الحاكمة في المركز، المدنية والعسكرية، بما في ذلك أحزابنا التقليدية الكبيرة، كحزب الأمة والحزب الإتحادي، لم تكن ترى في كل هذا الحراك سوى تهديد لنفوذها، لذلك عارضته وحاربته، وظلت توسمه بالعنصرية والعصبية القبلية، في حين هو ليس كذلك. لكن، الحراك صمد وفرض نفسه بقوة، بينما وهنت تلك الأصوات المعارضة. وهكذا إذن، بدأ حراك الأطراف مطلبيا إجتماعيا، وسعى للحصول على هذه المطالب والخدمات بالذهاب إلى المركز ما دام الأخير لا يأتي إلى مناطقهم. ثم إنتقل الحراك إلى موقع السياسة والبحث عن حلول عبر التحالفات مع هذا الحزب أو ذاك. ومع مرور الزمن، وتراكم السياسات الخاطئة، وفي مقدمتها فشل قسمة السلطة والثروة، ومع إشتداد سطوة الإستعلاء العربي الإسلامي في المركز، وإستخدامه العنف لترويض الحركات المحتجة في الأطراف، ومع ظهور أجيال جديدة من أبناء هذه المناطق، تتمتع بقدر ملحوظ من العلم والإستنارة، إنفجرت هذه الحركات في ثورات مسلحة معلنة تمردها ضد المركز. وفي تقديري الخاص، هذا التمرد، إضافة إلى كونه ضد المركز وضد السلطة، هو في نفس الوقت ضد القوى السياسية التقليدية (الأحزاب) التي ظلت لفترات طويلة تحتكر التعبير عن هذه المناطق، لكنها فشلت في تلبية مطالبها، بل زادت الطين بلة بممارساتها السياسية الخاطئة والمتراكمة عبر السنين. أعتقد أن المدخل الرئيسي، والذي لا يمكن تجاوزه، لحل الأزمة الخانقة الممسكة بتلابيب السودان، يقتضي أن تكون في مقدمة أولوياته، تصحيح العلاقة بين المركز والأطراف، بما يزيل عنها كل تلك المفارقات والتناقضات. وهذا لن يتأتى إلا في ظل إدارة للبلاد تحقق مشاركة عادلة في الحكم بين مختلف مكونات البلاد السياسية والقومية، وتنجز مشروعا وطنيا مجمعا عليه لإعادة بناء دولة السودان، على أساس التجسيد الفعلي والملموس لمعنى التنوع والتعدد الاثني والديني والثقافي، وبسط أسس النظام الديمقراطي التعددي المدني، وتحقيق التنمية المتوازنة بين كل أطراف البلاد وتكويناتها القومية. وأعتقد أن إنجاح هذا المشروع والإنتصار له، يبدأ بخلق تحالف متين وراسخ بين نشطاء التغيير في المركز ونشطاء التغيير في الأطراف، إذ عند نقطة إلتحام حركة نشطاء المركز بحركة نشطاء الأطراف، يتفعّل فتيل تفجر التغيير الجذري. نقلا عن القدس العربي