الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان-شمال: تقويم المسار من الاتجاه الضار (2 من 2)
shurkiano@yahoo.co.uk
تنويه واعتذار
لقد ورد في المقال السَّابق اسم الدكتور عبد السَّلام نور الدِّين بأنَّه صاحب المقال "لا تنخدع بالعبور إلى الضفة الأخرى"، حيث أنَّ صاحب المقال إيَّاه هو عبد السَّلام نورين، ولكل منهما موقف من القضيَّة السُّودانيَّة. إذ نعتذر من هذا الخلط في الاسمين، ونرجو من الأخوين المعذرة والمغفرة من هذا الخطأ الذي لم يكن مقصوداً.
أما بعد، فقد ربطت الحركة الشعبيَّة في أيَّة مفاوضات سياسيَّة قادمة مع النظام الخرطومي بسقف، وهذا السقف حدَّدته جماهير إقليمي جبال النُّوبة والنيل الأزرق بحق تقرير المصير، والذي قد تعني نظماً مختلفة، وليس بالضروة الحتميَّة الانفصال كما يتخوَّف نظام الخرطوم وأشياعه، فقد يعني هذا الحق الحكم الذاتي، ولكن بجيشه الشَّعبي؛ وقد يعني النظام الفيديرالي كما في ألمانيا وليس المسخ "الإنقاذي" الممارس اليوم في السُّودان وبجيشه الشَّعبي أيضاً؛ وقد يعني اتحاد كونفيديرالي مثل النظام السويسري، وهذه الأنماط كلها ضروب من أضراب الوحدة وبجيشه الشَّعبي كذلك؛ أو الانفصال التام. والانفصال ليس بالضرورة أن يكون "مطابقاً لحق تقرير المصير، وهو ببساطة أن يكون لهذه المجموعات (الحق في) أن تقرِّر مصيرها بالدَّولة المركزيَّة، وتحدِّد شكل علاقتها بالمركز، وما يتم من مشاريع تنمويَّة وخدميَّة في المنطقة، وأن يقرِّروا مصيرهم في كلِّ ما يتصل بشؤونهم الخاصة، وهذا يقود إلى السُّودان الجديد، الذي يقوم على التعدُّد الثقافي والدِّيني، وكل إنسان حر في ممارسة عاداته وتقاليده وطريقة حياته، وأن تكون هناك ديمقراطيَّة،" والإيضاح هنا للدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى.
بيد أنَّ المطالبة بحق تقرير المصير في ذينك الإقليمين ليست بجديدة. فقد سبق أن تنادت شعوب هاتين المنطقتين بهذا الحق في مؤتمر عموم أبناء النُّوبة في كاودا في 2-5 كانون الأول (ديسمبر) 2002م، وفي مؤتمر الكرمك في 16-18 كانون الأول (ديسمبر) 2002م. إذاً، كل ما فعله القائد الحلو هو انحيازه إلى رأي الجماهير قديماً وحاليَّاً في المطالبة بهذا الحق في هذا الأمر. ثم ندلف إلى هؤلاء وأولئك الذين باتوا ينعتون الحركة الشعبيَّة اليوم بعدم القوميَّة بعد مطالبتها بحق تقرير المصير بما فيهم من كانوا في الحركة منذ الأزل، ونحن نعلم علم اليقين بأنَّ الحركة الأم قد طالبت في السابق بهذا الحق منذ إعلان المبادئ في نيروبي العام في أيار (مايو) 1994م وكانت حركة قوميَّة، فما الجديد اليوم إذاً؟ وكذلك يستطرد الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى قائلاً: "يجب أن يفهم الناس هذا الأمر على وجهه الصَّحيح، حق تقرير المصير جزء أصيل في منيفستو الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، منذ أن كانت موحدة تحت قيادة الدكتور جون قرنق دي مبيور ومعه على نفس الدرجة من الأهميَّة رؤية السُّودان الجديد، وهذان كانا هدفين توأمين للحركة، ولا يمكن تفضيل واحد على الآخر." وقد أبنا ذلك في مستهل مقالنا هذا.
غير أنَّ الذين يرتأون بأنَّ الحركة الشعبيَّة تتحدَّد قوميتها بشخص معين أو أثنيَّة محدَّدة فهذا خطأ مبين. وفي هذه اللحظة الانعطافيَّة كان محمد قيسان محقاً حين كتب في صحيفة "نوبة تايمز" الإلكترونيَّة، وهو يضع التساؤلات في "هل للألوان دلالة رمزيَّة لإحداث تغيير؟"، واستطرد سائلاً: "هل أثنيَّة ولون (شخص) دالة على قوميَّة الحركة، ومشروع السُّودان الجديد لا يُقبَل إلا من خلال اللون والعرق؟ إذاً، قرنق كان (قد) امتلك عصا موسى السحريَّة، التي من خلالها هشَّ الاعتقاد الجازم بضرورة اللون كمفتاح قومي للوحدة؟" ثم أضاف محمد قيسان بأنَّ "مذكرة توقيعات الخمسين عضو من الحركة الشعبيَّة المناوئين لقيادة الحلو أعادت إلى الأذهان مذكرة كرام القوم، التي تبرَّأت من البطل علي عبد اللطيف ورفاقه في حركة اللواء الأبيض العام 1924م." وعقار وعرمان كمناضلين تأريخيين لا يتنكَّر أحد على كفاحهما الطويل فعليهما القبول بالوضع الجديد تحت القيادة الجديدة، لأنَّ كل ما حدث هو تغيير مواقع الثوَّار وفق الدستور، وليس بانقلاب في شيء كما أمسى يردِّده بعض النَّاس افتراء على الحق.
ومن هنا نود أن نشير ونقول إلى أولئك وهؤلاء الذين باتوا يلومون الحركة الشعبيَّة وقادتها حين اختار أهل الجنوب المضي في سبيلهم، واختاروا استقلالهم من السُّودان الشمالي العام 2011م، وقالوا فيهم ما لم يقله مالك في الخمر، هل كان بإمكان الدكتور قرنق أو خالفه سلفا كير أن يقرِّر بصوته الوحيد، أو حتى أصوات قادة الحركة الشعبيَّة كلهم أجمعين أكتعين، مصير شعب الجنوب في أن يبقى موحَّداً في كنف السُّودان القديم بكل سوءاته؟ علي أيَّة حال، فقد جاء الانفصال ووقع الفأس في الرأس، وبُعيد الانفصال حتى اليوم لم يتركوهم لوحدهم، ومثلهم كمثل البعل الذي طلَّقته بعلته، فأخذته الحسرة والحيرة والغيرة من جمالها ونسبها وحسبها، حتى شرع يسبُّ لها، ويسبِّب لها من المشكلات ما هي كثيرة مع زوجها الجديد، وفي عقر دارها الجديدة. ومع ذلك، نجد أنَّ كل من يأمل في الجديد، ويرنو إليه ببصر حديد، فالجديد دوماً مغري للمرء الذي يرتاده، حتى ولئن لم يبن آفاقه ولم يهتد إلى مراميه، عسى أن يجد فرجاً بعد الكرب الذي هو قابع فيه. مهما يكن من شيء، فالانفصال كان خيار الشَّعب في جنوب السُّودان، ولا قوة تستطيع أن تقف حائلاً ضد خيار الشُّعوب، فإذا اختار الشَّعب خياراً يوماً فلا بدَّ أن يستجيب القدر، لذلك كانت قرارات مجلسي التحرير في جبال النُّوبة والنيل الأزرق هي خيارات الشَّعبين في هذين الإقليمين.
ومنذ عودة العدائيَّات في ولايتي جنوب كردفان (جبال النٌّوبة) في حزيران (يونيو) 2011م والنيل الأزرق في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه نصحنا أهل الحكم نصحية نصوحاً، ومن منطلق الناصح الأمين، وفي تأليف ضخم (في النِّزاع السُّوداني: عثرات ومآلات بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق، مطابع أم بي جي العالميَّة، لندن، الطبعة الأولى، 2015م)، بأنَّه كلما طال أمد الحرب، واستغلظت معاناة أولئك الذين يحترقون بنيران محرقة الحرب الضروس، فإنَّ المحصلة النهائيَّة قد تجبر أهل النُّوبة وشعب النيل الأزرق إلى رفع سقف المطالب، وهذا ما حدث بالضبط والربط، وذلك لأنَّ أهل الحكم في الخرطوم قد انتقلوا بما كانوا يمارسونه مع أهل جنوب السُّودان منذ العام 1955م إلى أقاليم السُّودان المهمَّشة الأخرى في جبال النَّوبة (الجنوب الجديد) والنيل الأزرق ودارفور، لأنَّهم لم يعوا الدروس والعبر.
أيَّاً كان من أمر أهل الحل والعقد في الخرطوم، فظاهرة التهميش واقع ماثل لا ينكره إلى متناكر، وقد عزا أصحاب السلطة وأشياعهم هذا التهميش إلى الظروف التأريخيَّة (الاستعمار)، والبعد الجغرافي (بعد التخوم عن المركز)، ثمَّ ذهب آخرون إلى نعته بأنَّه صراع يأخذ طابعاً اقتصاديَّاً مادِّيَّاً (حروب الموارد)، ولكنَّهم دوماً يتجنَّبون ويتزاورون عن البعد الثقافي والأثني في الصِّراع لشيء في أنفسهم. فنحن نندهش من هؤلاء الماركسيين واليساريين السُّودانيين الذين ما فتأوا يقتصرون تحليلهم على واقع النِّزاع السُّوداني باستخدام "الحتميَّة الاقتصاديَّة" (Economic determinism) كعنصر وحيد لتحليل مشكل الهامش والمركز، وتجاوز المناهج الأخرى. فحين قامت السلطات السُّودانيَّة في الثمانينيَّات بما أسموه "الكشة"، اقتصر ذلك السلوك التجريمي العنصري على الأثنيات الإفريقيَّة، أو من كانوا تبدو عليهم ملامح غير عربيَّة. إذ كان ذلك ضرباً من الحرب الأثنيَّة-الثقافيَّة على شعوب السُّودان الأصلاء؛ فهل نغمض أعيننا ولا نسمِّي الأشياء بأسمائها! وحين اغتلظ البشير في القول، واستعار واستعان ببيت الشَّاعر العربي القديم أبي الطيِّب المتنبِّي في نزاعه مع أهل الجنوب قائلاً: "لا تشتري العبد إلا والعصا معه/ إنَّ العبيد لأنجاسٍ مناكيد"، لم نر في نزاع البشير مع أهل الجنوب يومذاك حول حقول البترول في الهجليج أنَّه اقتصر على الحتميَّة الاقتصاديَّة فحسب، بل أخذ طابعاً عنصريَّاً فائحاً يزكم الأنوف، وتعفُّ ألسنة العقلاء من ذكرها أو ترديدها. فنحن نرفض غلو قوميَّة على أخرى، أو سمو ثقافة على أخرى، فالثقافة أيَّة ثقافة اختراعات بشريَّة اجتهد العقل الإنساني في ابتكارها للتعامل مع الظاهرات البيئيَّة والحياة الاجتماعيَّة التي يحياها. فبالتعليم والعولمة والانسياب الثقافي الطوعي يمكن أن تتغيَّر المفاهيم المختلفة المرتبطة بهذه الثقافات لا قهراً واقتداراً.
فعلاج اختلال ميزان الثروة القوميَّة والسلطة السياسيَّة ينبغي مرافقتها بمخاطبة المشكل الثقافي والهُويَّة والجهويَّة (الهامش)، والنَّظر بعمق إلى الأسباب التي تدفع شعوباً بأسرها إلى المطالبة بحق تقرير المصير، وعلينا أن نذكِّر الماركسيين السُّودانيين بأنَّ ماركس نفسه كان من أنصار حق تقرير المصير للقوميات غير السوفيتيَّة. فقد أقرَّ ماركس بأنَّ أيَّة أمة تضطَّهد أخرى، فهي أمة غير حرَّة، وكان لينين يجادل بأنَّ الأمم المضطَّهَدة (بفتح الهاء) بواسطة الإمبرياليَّة فلها الحق في تقرير مصيرها. والإمبرياليَّة أو الاستعمار ليست بالضرورة أن تكون استعماراً خارجيَّاً، فهناك الاستعمار الداخلي كما حدث في جمهوريَّة جنوب إفريقيا في عهد الأبارتهيد (نظام الفصل العنصري)، أو كما مارسه الحكام التوتسويُّون على أثنيَّة الهوتو قبيل وأثناء الاستعمار البلجيكي في كل من رواندا وبوروندي، أو كما تشهده شعوب جبال النُّوبة والنيل الأزرق ودارفور وهو ليس بأقلِّ من الاستعمار الخارجي بشيء، بل أسوأ من عهد الاستعمار البريطاني-المصري، أو بالأحرى أن نقول ليست هناك ثمة مقارنة أو مقاربة. وفوق ذلك، كان منطق الاشتراكيين – بالطبع غير السُّودانيين – هو أنَّه يمكن تحقيق المساواة بإعطاء حق تقرير المصير إلى الأمم المضطَّهَدة، حتى يتَّحد العمال في الدول المضطَّهَدة مع الآخرين في الدولة المضطَّهِدة (بكسر الهاء). وفي ذلكم الزمان قارن لينين حق تقرير المصير بحق الطَّلاق في الوقت الذي فيه كان الطَّلاق أمراً صعباً عند المرأة المتزوِّجة. إذ قال لينين نحن نقف مع حق المرأة في فسخ الزواج، ليس لأنَّنا نرغب في فسخ كل الزيجات، ولكن لم تكد تسود المساواة بين النِّساء وأزواجهن، حيث ظلَّت النِّساء مرتبطات ببعولهن بعقد الاضطهاد.
ثمَّ نعود إلى أولئك وهؤلاء الذين وصفوا قرارات مجلس التحرير في إقليم جبال النُّوبة بالعنصريَّة، وإنَّ هذا لأمر عُجاب! فالعنصريُّون هم البيض الذين هاجروا من أوربا إلى القارة الأميريكيَّة، وبعد حين تمرَّدوا على التاج البريطاني، وأسمَّوا تمرُّدهم ذلك حرب الاستقلال، ولم يكن هذا بحرب الاستقلال في شيء إذا صحَّ التعبير موصولاً مستطرداً. فإنَّ كان قد انتفض أهل البلاد الأصلاء – أي الهنود الحمر – لكان قد صحَّ أن تُطلق على انتفاضتهم اسم حرب الاستقلال. أيَّاً كان من الأمر، فما أن آلت الأمور إلى هؤلاء البيض حتى شرعوا يمارسون عنصريَّة شنيعة ضد أصحاب الأرض الأصلاء من الهنود الحمر، وكان شعارهم "الهندي الحسن هو الهندي الميِّت" (The good Indian is the dead Indian)، وألقوا بأطفالهم في معسكرات بغرض محو ثقافتهم واستبدالها بثقافة الرَّجل الأبيض، وهذا ما مارسه نظام "الإنقاذ" مع شعب النُّوبة في التسعينيَّات من القرن المنقضي فيما أسموه "قرى السَّلام"! وما يزال غلاة البيض في الولايات المتحدة الأميريكيَّة الذين يطلقون على أنفسهم كو كلس كلان يمقتون السود إلى حد القتل. هؤلاء هم العنصريُّون!
وكذلك العنصريُّون هم البوير (المزارعون الهولنديُّون) وحفنة من الفرنسيين والألمان الذين جاءوا إلى جنوب إفريقيا في القرن السابع عشر الميلادي، وحكموا الدولة، وأذلُّوا أهلها الأصلاء تقتيلاً وترهيباً زهاء الثلاثة قرون (1652-1990م) في نظام عنصري أثيم سماه العالم أيامئذٍ نظام "الأبارتيهيد" (أي سياسة الفصل العنصري). والعنصريُّون كذلك هم البيض من عتاة المجرمين والسجناء الذين كانت الإمبراطوريَّة البريطانيَّة تلقي بهم في أستراليا ونيوزيلاندا، وما أن نزلوا هذه الديار حتى أبادوا أهلها الأصلاء الأروما "الأبورجين". إذ كانوا يصطادونهم كأنَّهم حمرٌ مستنفرة بعد أن أهدروا إنسانيَّتهم، وداسوا على كرامتهم، وكأنَّهم لم يكونوا بشراً سوياً.
والعنصريُّون هم النازيين الهتلريين الذين كان ينتوي زعيمهم أدولف هتلر في القضاء على الأفارقة، ومن ثمَّ جعل القارة الإفريقيَّة مكاناً للتجارب النوويَّة؛ أما أسنان الأفارقة البيضاء الناصع البياض فكان هتلر يأمل في أن يستخدمها الألمان في صناعة الزراير. واليوم تتبدَّى العنصريَّة في أوروبا في الأحزاب اليمينيَّة المتطرفة في الحزب القومي البريطاني، وجماعة الدِّفاع الإنكليزيَّة، والمحاربة 18 في بريطانيا، والجبهة القوميَّة في فرنسا، واتِّحاد الشمال في إيطاليا، والنازيين الجدد وحزب "باقيدا" في ألمانيا، وحزب الحريَّة في هولندا. ولعلَّ كل هذه الأحزاب والجماعات ما هي إلا كيانات عنصريَّة يرى أعضاؤها أنَّ كافة مشكلات أوروبا سببها الأول والأخير هو المهاجرون واللاجئون، بما فيها مشكلات العطالة، وتزايد الجرائم، والإسكان والصحة وغيرها.
ثم ندلف إلى السُّودان. إنَّ من المعلوم أنَّ العنصريَّة صفة متلازمة يطلقها أهل السلطة في الخرطوم وأعوانهم على شعوب السُّودان الأصيلة كلما انتفضوا أو نهضوا يطالبون بحقوقهم الطبيعيَّة والدستوريَّة. إذاً، فالعنصريُّون في السُّودان هم الذين استمرأوا في إذلال غيرهم من أهل الجنوب وجبال النَّوبة والنيل الأزرق ودارفور، حيث كانوا يصطادونهم كالرَّقيق منذ اتفاقيَّة البقط الشؤوم العام 652م، ثم واصلوا ذلك في العهد التركي-المصري (1821-1885م)، وفي ظل الحكومة المهديَّة (1882-1898م). وفي هذا المجال نود أن نذكِّر الناس بأنَّنا عاكفون على دراسة "التركيَّة في كردفان"، وسنبرز دور التجَّار العرب الجلابة فيما نحو إليه، وفيما كانوا يفعلون بالنُّوبة، ومن بعد سيعلم الذين لا يعلمون، أو الذين يعلمون لكنهم ينكرون، أين كانت أجراس العنصريَّة تُقرع، وأين كانت أعلامهم ترفرف! والعنصريُّون الجدد هم أصحاب نظام "الإنقاذ"، الذين ما فتأوا يقذفون الأطفال والنِّساء والعجزة في جبال النُّوبة والنيل والأزرق ودارفور بالقنابل العنقوديَّة والبرميليَّة، والمدافع الثقيلة، والأسلحة الكيميائيَّة المحظورة دوليَّاً، ويغتصبون بناتهم وأمهاتهم دون أن ترمش لهم عين، أو يرق لهم السَّمع لأنين الثكلى، أو تستلطفهم دموع اليتامي. ثمَّ إنَّ العنصريين لهم أولئك الذين ينظرون إلى غيرهم بعين الحقد والبغضاء لا لشيء، بل لأنَّهم يطالبون بالقسمة العادلة لثروات البلاد القوميَّة، والسلطة السياسيَّة، والمساواة والعدالة في الحقوق والواجبات. والعنصري في السُّودان هو الذي يرى في غيره الدونيَّة ويذله إذلالاً، مستعيناً بحسب ونسب الأشراف ولئن كنا في شك مريب فيما هم فيه يزعمون. وقد تعلَّمنا في دروس الكيمياء حقيقة أزليَّة أنَّه حين يختلط عنصران كيميائيان فإنَّ الناتج حتماً لا يكون كأحدهما في شيء، بل يختلف تماماً في الخصائص والوظائف – فعلى سبيل المثال لا حصريَّاً – خذ غاز الكلور ومعدن البوتاسيوم يأتيك الخليط هجيناً ومِزاجاً بين هذا وذاك. فهذه الدّماء التي أسموها عربيَّة قد ذابت في أخرى إفريقيَّة وباتت المحصلة النهائيَّة غير عربيَّة.
خلاصة
أي تنظيم ثوري أو حزب سياسي لا بدَّ له أن يمر بمرحلة مخاض جديدة وقد تكون عسيرة، أو تجربة ثوريَّة أو سياسيَّة في مشواره النِّضالي، وبخاصة إذا طال أمد النِّضال، وقد تأخذ التجربة إيَّاها شكل الحراك السياسي العقيم مما يؤدِّي إلى التشظَّي، أو تجربة دمويَّة يتقاتل فيها الرِّفاق القدامى وأنصارهم حتى تأكل الثورة بنيها، أو أبيها (حال المؤتمر الوطني). وقد يتم التَّصالح والعودة إلى الوئام والسَّلام بين الرِّفاق. إذ يُحسب نجاح التنظيم في مقدرته على العبور إلى الشاطئ الآخر بأقلَّ الخسائر البشريَّة والماديَّة، وتجاوز الخلاف والالتقاء نحو الأهداف المشتركة، والوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف والوصول إلى مراميها. ومن هنا نستطيع أن نقول إنَّ الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في آب (أغسطس) 1991م، أو في آذار (مارس) 2017م قد استطاعت أن تعبر هذه التجربة بصورة دستوريَّة ديمقراطيَّة في الحال الأخيرة، برغم من الأحداث المؤسفة التي وقعت في النيل الأزرق وراح ضحيَّتها قادة عظام وأرواح عزيزة، عسى أن يتغَّمدهم الله بواسع رحمته التي وسعت كل شيء، لأنَّ دماءهم سوف لم تذهب سدى.
أما فيما يختص بالقرارات الأخيرة التي أصدرها الرئيس السَّابق للحركة الشعبيَّة، والتي موجبها أقال بعض أعضاء الحركة الشعبيَّة من مناصبهم كممثلين للحركة في المهاجر – بما فيهم شخصي الضعيف – فنحن نكتفي بالتسآل الملح التالي: كيف يكون المفصول فاصلاً! أو بأسلوب آخر، دلُّوني متى كان المعزول عازلاً؟ وأنَّى له من الصلاحيات القانونيَّة أو السلطات الدستوريَّة حتى يصدر مثل هذه القرارات.
مهما يكن من أمر، فحكام السُّودان القدامى والجدد – ويا لغرابة الدَّهشة – من عيِّنة المحاربين المفرطين في الاحتراب. وبطبيعة تفكيرهم المعتل لم يحاربوا يوماً أمماً أخرى، لكنَّهم أنفقوا جلَّ سنواتهم ومواردهم البشريَّة والماديَّة في محاربة مواطنيهم، وقد تمَّت تغذية هذه العادة الشاذة بالظروف السياسيَّة التي هي من صناعتهم. وحال السُّودان اليوم بعد انفصال الجنوب كمثل الجسم المعلول الذي تقضمه الجراثيم من الداخل، وجراثيم الفناء تبدأ من الداخل دوماً، وتنهشه الدول الأجنبيَّة من الخارج، فإن لم يتم إسعافه، بل وتُرِك المرض ينتشر في جميع أعضاء الجسد فحتماً سينهار الجسم حينما تتداعى الأشياء في المحصلة الحتميَّة، ولعلَّنا نخشى أن نصحو يوماً ولا نكاد نتعرَّف على ما كان يُسمَّى في الماضي القريب بالسُّودان. ففي هذه الحروب الداخليَّة التي لا طائل لها كان أهل الجنوب من أكثر القوميات السُّودانيَّة تأذِّياً منها، وجاء النُّوبة وشعب الفونج وأهل البجة، ثم تبعهم أهل دارفور، وذلك كله في بلد تكثر فيه القوانين، ولكن في غياب الاحتكام إلى القانون.
ففي خلاصة القول نستطيع أن نقول بعزم أكيد ها هم النُّوبة في طبعهم وطبيعتهم، أولي العزم كانوا وما يزالون، ويشهد العالم بأسره بهذه القيم النبيلة والرُّوح النضاليَّة، والتي تبدو منذ الوهلة الأولى وكأنَّها مغامرة رشيدة. حسناً، وإنَّا لترانا بالحديث عنهم ولسان حالنا يقول حين يختفي كثرٌ من كرويسوس السُّودان القديم، الذي أخذ البعض يقبِّل أقدامهم، ثمَّ يصبح في طي الكتمان كثرٌ من الساسة بعد سقوطهم من أعتاب القداسة، تنفلق أسماء هؤلاء المناضلين في جبال النُّوبة الذين وهبوا حيواتهم رخيصة بقلوب عظام، ونفس مرضيَّة، ودماء مهراقة، والذين جعلوا منطقة جبال النُّوبة كما هي، لتذكرهم الأجيال، ولكي تُدرَّس سيرهم ومسيراتهم للأطفال، الذين لا تزال أرواحهم غير المشكَّلة نائمة في أرحام القرون القادمة. إذاً، من ذا الذي يكون كرويسوس هذا الذي أشرنا إليه إيَّاه؟ كان كرويسوس ملك ليديا الإغريقيَّة (اليونانيَّة) والذي – حسبما قال الأب الرُّوحي للتأريخ هيرودوتُس (484-425 ق.م.) – حكم لمدة 14 عاماً منذ العام 570 ق. م. حتى هزيمته بواسطة الملك الفارسي سايرس العظيم العام 546 ق. م. وفي القرن الخامس الميلادي أمسى كرويسوس أيقونة أسطوريَّة، والذي ظلَّ تمثاله واقفاً خارج المحدَّدات التقليديَّة للتأريخ، وبات مضرب المثل في الثراء.
ومثل السلطنات العظيمة في دارفور، كان شعب الفونج في سنار على ضفاف النيل الأزرق قد أسَّسوا سلطنة عظيمة أيضاً استمرَّت زهاء الثلاثة قرون (1504-1821م)، وذلك بعد اتحاد شيوخ القبائل شمال الخرطوم والنيل الأزرق، وقد استمات جنودها نضالاً في وجه الغزو التركي-المصري العام 1821م. هذه السلطنة كانت جزءً من الحضارة الإفريقيَّة العريقة جنوب الصحراء، التي امتدَّت من الغرب في شكل سلطنات كانو وبرنو في امتداد نيجيريا والكميرون، وودَّاي في تشاد، وسلطنات غرب السُّودان في دارفور، وتقلي والمسبَّعات في كردفان، وسلطنة الفونج في سنار، ومملكة أكسوم في إثيوبيا، وممالك البجة في شرق السُّودان ومملكة كوش في شمال السُّودان. إذاً، شعوب بهذا الإرث التأريخي المعاصر يستوجب عليها تحويل هذا الإرث التليد إلى حركة حقوق مدنيَّة في الحراك الثقافي والنِّضال السياسي الدائرين اليوم فيما تبقى من السُّودان.
///////////////////