الفكي سنين حسين والسلطان علي دينار .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Senin and Ali Dinar
Samuel Bey Attitya صمويل بيه عطية
ترجمة بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لغالب مقال صمويل عطية عن الصراع بين الفكي سنين حسين والسلطان علي دينار، نشر في العدد السابع من مجلة "السودان في مذكرات ومدونات SNR" الصادرة عام 1924م.
وكاتب المقال (صمويل عطية) هو أحد ضباط المخابرات العرب الذين عملوا تحت إمرة مدير المخابرات في الخرطوم البريطاني شارلس آرمين ويليس بين عامي 1916 و1926م. والرجل هو عم الكاتب والروائي إدوارد عطية، الذي أتى للسودان خريجا من جامعة أكسفورد للعمل أستاذا في كلية غردون، وحل محله في قسم المخابرات بعد تقاعده.
المترجم
**** **** ****
تَوْطِئة: كان السبب الرئيس للاهتمام بتاريخ سنين حسين هو أنه وأتباعه مثلوا في دارفور تقليد وروح التعصب والتزمت التي كانت ملازمة في الماضي للدراويش (المقصود أنصار المهدية. المترجم). وكان ذلك الرجل في عزلة عن العالم الخارجي ومجريات أحداثه، وما درى أن إخوته الدراويش في بقية أنحاء السودان قد تم إِدماجهم مع بقية أفراد الشعب العاديين (هكذا! المترجم).
ولعله من غرائب الصدف أنه بعد مرور عقد من الزمان بعد معركة أمدرمان قتل السيد اسكوت مونسريف ومأمور الكاملين، وبعد مرور عقد أيضا من مقتل (الفكي المهدوي) سنين اغتيل في نيالا السيد مكنيل والنقيب شون. ووضح أنه عند نهاية كل حادثة من تلك الحوادث كانت نيران التعصب والتزمت تهمد شيئا فشيئا حتى خمدت تماما.
ويجب أن نسجل هنا من باب التوثيق أن روح الدراويش القتالية بقيت حية في دارفور لتحرج وتضعف حكم السلطان علي دينار لسنوات عديدة بعد أن انقضى عهدها وانعدمت فعاليتها في بقية أجزاء السودان. ويجب تذكر هذه الحقيقة، والتي لا بد أنها تركت (وستترك) أثرها على التطور والتنمية بدارفور.
صمويل بيه عطية
****** *****
سنين ود حسين فكي ينسب نفسه لقبيلة الخزرج العربية القديمة. وكان جده قد قدم لدار تاما وأشاع بين الناس أنه "شريفي"، واستقر في مكان اسمه "جلمي Jilme"، وتزوج من واحدة (أو أكثر) من نساء التاما. ولذا كان الفكي سنين يعرف بـ "التاماوي"، على الرغم من أن علاقته بالتاما تنحصر في بعض أقارب والدته.
نشأ سنين نشأة دينية، وكان موضع الاحترام والتقدير والطاعة ممن حوله من الأهالي، وغدا في وقت وجيز موضع ثقتهم. وسمع سنين – كغيره – بظهور محمد أحمد المهدي، فجمع ثلة كبيرة من رجال قبيلته وساروا لأم درمان لمبايعته. وبلغ موكبه أم درمان بُعَيدَ سقوط (فتح) الخرطوم في ظهر يوم جمعة، وآلاف المصلين يتأهبون للصلاة خلف إمامهم المهدي. جلس سنين وجماعته في آخر صفوف الأنصار، فرآهم المهدي وهو واقف على المنبر، فأومأ إلى أحد الأنصار بقربه ليذهب ويستجلي حقيقة أولئك القوم الغرباء الجالسين في آخر الصفوف. عاد الرسول للمهدي بنبأهم، فرفع يديه وقرأ الفاتحة، فأدركوا أنه كان يقصدهم. ثم أرسل إليهم بعد ذلك بمن يخبرهم بأن الحماسة والهمة والغيرة على الدين والجهاد في سبيله أهم من أي شيء آخر. لذا فهو يأمرهم بالخروج من أم درمان على الفور واللحاق بالأمير التاموي عبد الرحمن، والذي كان يخوض المعارك في جبال النوبة تحت إمرة الأمير حمدان أبو عنجة. وبذا غادر سنين وجماعته المسجد لتنفيذ الأمر، ولكنه بقي، حتى بدون مصافحة المهدي، معجبا ومتأثرا أشد التأثر بما خصه بهم المهدي من دون بقية المصلين بقراءة الفاتحة. توجه سنين ومن معه – بعد أن صاروا أنصارا للمهدي – من فورهم إلى ديوباب Dubab للمشاركة في الجهاد تحت قيادة الأمير إبراهيم.
وفي خضم أيام معاركهم في جبال النوبة بلغهم نبأ وفاة المهدي في أم درمان، وتولي الخليفة عبد الله مقاليد الحكم. بلغهم أيضا استدعاء الخليفة لقادة معارك المهدية في جبال النوبة مثل عبد الرحمن ونائبه للحضور لأمدرمان والمثول أمامه لتجديد البيعة له. نفذ الجميع أمر الخليفة وبلغوا أمدرمان في عام 1887م، حيث قدموا البيعة ثم آبوا لمعاركهم في جبال النوبة. وبعد ذلك تلقى عبد الرحمن أمرا بالتوجه لقتال الأحباش تحت إمرة الأمير حمدان أبو عنجة، فاصطحب معه بعض قواده، وكان سنين على رأس هؤلاء. وعقب الانتصار على الأحباش في معركة "القلابات"، ووفاة الأمير حمدان أبو عنجة، قفل سنين راجعا لأم درمان في رفقة أميره عبد الرحمن.
بقي عبد الرحمن في ضواحي أم درمان بحلة تاما، وشارك مع الخليفة في معركة كرري حيث لقي مصرعه. أما سنين فقد لبِث في أم درمان، وأظهر ذكاءً واخلاصا منقطع النظير للخليفة، فأختاره للذهاب مع الأمير عبد القادر ود دليل الذي عينه الخليفة حاكما على غرب دارفور تحت رئاسة عثمان ود آدم (الملقب بعثمان جانو لقساوته وجناياته، كما زعم بعض الكتاب. المترجم). كان مركز الأمير عبد القادر في كبكابية، وكان سنين يعمل مساعدا له منتقلا بانتظام بين كبكبابية والفاشر.
ولما مات عثمان آدم بعد غزوته لدار مساليت في عام 1890م أمر الخليفة عبد الله جميع أمرائه الذين كانوا تحت إمرة عثمان آدم في دارفور (مثل عبد القادر ود دليل) للتجمع في الفاشر وانتظار وصول الأمير الجديد لدارفور؛ الأمير محمود. ووصل ذلك الأمير للفاشر في عام 1891م. وفيها قرر الأمير محمود أن يترك سنين في منطقة كبكابية ليحكمها.
ولما غزا الأمير محمود دار قمر والتاما في عام 1895م مر بجيشه على كبكابية، حيث استقبله سنين، ورافق جيشه كمرشد وخبير بالمنطقة ودروبها. وبعد ذلك استدعى الخليفة على عجل الأمير محمود ومن معه من الأمراء للتوجه شمالا لملاقاة الجيش الإنجليزي المصري الذي كان يتقدم في شمال السودان. وترك سنين – مجددا – لإدارة منطقته منفردا، وسلمه الأمير عبد القادر كمية من الأسلحة والمعدات الحربية كعهدة عنده.
وفي تلك الأيام اكتسب سنين شهرة عظيمة في أوساط الأهالي بحسبانه مهدويا مخلصا، ورجل دين (فكي) ورع. وبعد سقوط عاصمة الدولة المهدية ومقتل الخليفة عبد الله في منطقة "جديد" (في 24 نوفمبر 1899م)، بدأ مقاتلو المهدية يلجأون إلى كبكابية حيث الفكي سنين، الذي بقي على إيمانه وإخلاصه للمهدية. وبذا تكون عند سنين جيش كبير من الأنصار المحاربين.
ولما استقر الحكم لعلي دينار في الفاشر سمع بالقوة العسكرية (المهدوية) التي تكونت عند الفكي سنين، والتي قدرت بـ 4000 من الأنصار. كان من بين هؤلاء نحو ألف من الأنصار المحاربين (الحقيقيين) الذين كانوا على أتم الاستعداد للتضحية بأرواحهم رخيصة من أجل المهدية دون تردد. أما البقية فقد كان مبلغ همهم الحرب وما تجلبه من مكاسب وغنائم.
ويصح القول بأن المقاومة العنيفة العنيدة التي أبداها سنين وجنده كانت هي آخر معارك المهدية المنظمة في السودان.
كان السلطان علي دينار حريصا جدا على الإسراع بكسر مقاومة سنين وجنده، وعلى القضاء المبرم على جيشه، بعد أن امتدت شهرته في كثير من المناطق، وآمن الناس بصلاحه وتقواه. كذلك مثل سنين عائقا وقاطعا لطريق اتصالاته مع المناطق الغربية من دارفور حول التاما والمساليت والقمر وغيرهم. ورغب السلطان علي دينار أيضا في أن يحصل على ما بيد سنين من الأسلحة والمعدات الحربية التي أودعها الأمير عبد القادر ود دليل عنده، وكذلك على ما غنمه سنين من أسلحة وذخائر من جيش عمر آدم وهو يتراجع من دار تاما في عام 1890م، بعد أن هلك غالب جيشه بسبب الجوع والأمراض. وكان عمر آدم قائد ذلك الجيش قد خبأ ما عنده من أسلحة وذخائر في مناطق مختلفة في دار تاما، غير أن معظمها وقع لاحقا في يد سنين ورجاله غنيمة باردة.
وأرسل السلطان علي دينار رسالة لسنين يدعوه فيها لمبايعته وتسليم نفسه وما معه من الأسلحة والذخائر. غير أن سنين قابل ذلك بالرفض التام وخط بيده رسالة للحكومة جاء في مضمونها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، والسلام عليكم.
من عبد الله سنين حسين إلى سردار السودان.
لقد بلغنا من بعض الذين قدموا علينا بأن حكومتكم الظافرة قد هزمت السودان. وقد أرسل إليّ علي دينار رسالة مفادها أنه يجب عليّ التسليم والانصياع لحكمه. غير أني لن أفعل شيئا من ذلك. وعلى إثر رفضي تلبية ما طلبه مني، قام بقطع الاتصالات بيني وبينه، وبين الحكومة أيضا.
أود هنا أن أعلمكم بإخلاصي للحكومة، وسبق لي ان أرسلت لها عدة خطابات بهذا المعني اعترضها جميعا رجال علي دينار، بل وقتلوا من كانوا يحملونها إليكم. ثم بعث لي برسالة يخبرني فيها بأن رجاله اعترضوا رسائلي وقتلوا حامليها، وأمرني بالاستسلام له، والتخلي عن الثقة والعهد الذي قطعته لعبد القادر ود دليل قبل مقتله في أتبرا. لقد طلب مني عبد القادر ود دليل أن أخبيء له الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية التي غنمها من سلطان التاما في أيام قتاله معه حتى لا تقع في يد الأمير محمود. ولقد سبق لي مخاطبتكم، باعتباري خادما للحكومة، أربع مرات حول هذه الأسلحة المخبأة. أنا لست بشيخ ولا سلطان، ولكني ببساطة مجرد أحد رعايا هذه الحكومة. وعندما رفضت طلب علي دينار تسليمه تلك الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية المخبأة عندي أرسل لقتالي جيشا كبيرا بقيادة تعيس الحظ كيران (يوسف) الرزيقي. وطلب مني الرزيقي أن أسلمه ما اؤتمنت عليه. وبما أني قد توقعت أن تعتبرني الحكومة مسؤولا عن تلك الأسلحة، فلم أتردد في رفض طلب الرزيقي، ودخلت معه في معركة انتصرت فيها – بحمد الله – عليه.
وأقسم بالله، أقسم بالله، أقسم بالله أنا مخلص للحكومة، ومستعد للعمل تحت أي مسؤول تبعث به لنا هنا. وأكرر لكم القول بأن ما معي من الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية ليس من ممتلكات أي سلطان البتة.
لقد قدم علينا غازيا سلطان المساليت (أبكر شقيق تاج الدين) بنفسه على رأس جيش قوامه 12000 محاربا، غير أني انتصرت عليهم بفضل إخلاصي للحكومة ونيتي الحسنة. وعاداني بعد ذلك كل سلاطين الغرب بسبب عدم قبولي بتسليمهم الأسلحة المخبأة عندي.
لقد سبق لي أن بعثت أربع رسائل للحكومة ولم أتلق أي جواب عنها. ولا أفهم السبب في هذا. أنا أنتظر على أحر من الجمر أن يقوم السردار بمحاربة علي دينار، وأن أشارك في جانب من المعركة ضده بخمسمائة من المحاربين. لدينا من الأسلحة 8 بنادق من نوع ريمنجنتون، و20 من البنادق المزدوجة الماسورة، و8 من نوع أبو لفتة" (ذكر الكاتب أن هذه الأرقام التي ذكرها سنين كانت أقل بكثير مما كان لديه، فقد أقر أحد محاربيه لاحقا بأنه كانت لسنين ما لا يقل عن 1000 قطعة سلاح. المترجم). ولكن ليس لدينا من الذخائر غير 180 طلقة.
وموقع كبكابية هو كما تعلم موقع ممتاز كما ترون في هذا الرسم (أورد الكاتب شكلا في وسطه مستطيل كتب في داخله كلمة "كبكابية"، وفوقه شمالا كلمة "مسلايت" وتحته جنوبا كلمات "زغاوة وميما وبيدي وكيك"، وعلى جانبه الأيمن شرقا كلمتي "علي دينار"، وعلى جانبه الأيسر غربا كلمة "تاما". المترجم).
كل تلك القبائل المذكورة تعاديني. لذا ألتمس منكم السماح لي بالمثول أمامكم والتحدث إليكم، وأطلب منكم أن تأمروا علي دينار بالسماح لي بالمرور بسلام.
أود أن أخبركم أيضا بما تركه عبد القادر ود دليل عندي من عهدة:
100 درقة، و100 سيف، و25 قنطارا من العاج، و200 من قرون وحيد القرن. وإن أرسلت لي الحكومة بمندوب عنها، فأنا على استعداد لتسليمها فورا (أشار الكاتب في الهامش أن سنين تجاهل أي ذكر للأسلحة النارية والذخيرة التي أودعها عنده عبد القادر ود دليل. المترجم).
إني مضطر للكتابة بخط يدي لأن كل كتبتي من شياطين الأنس، ولن يحفظوا سري. لذا ألتمس منكم المعذرة لخطي الرديء.
لقد ظهر عندنا حيوان غريب نسميه "كيك" في حجم الحمار وله وجه نمر وجسد مخطط بستة خطوط. وقد أهلك هذا الحيوان ثلث ما نملكه من أبقار، وافترس بعض الناس هنا أيضا. حاولنا اصطياده ببنادق ريمنجنتون دون فائدة. لذا نلتمس من الحكومة، بحكمتها، أن تمدنا بما يمكننا من القضاء على هذا الحيوان.
كذلك أتمنى أن تتكرموا بإرسال علم الحكومة إلي حتى يعلم علي دينار أني أحد رعايا حكومتكم.
لدي من الخيول خمسة عشر. ولكن ذبح رجالي كل الأبقار التي استولينا عليها من علي دينار لطعامهم، وبذا ضاعت الأبقار، كما ضاع كل شيء عزيز في هذه البلاد. غير أن كل الأسلحة التي ذكرتها موجودة في الحفظ والصون عندي. أنتظر بفارغ الصبر الرد على التماسي بمقابل سعادتكم.
وأقسم بالله، أقسم بالله، أقسم بالله ورسوله الأمين، أنا لست شيخا ولا سلطانا، بل خادم مخلص للحكومة.
والسلام عليكم.
1 ربيع الأول 1317هـ (الموافق 27 يونيو 1900م)
التوقيع: سنين حسين
ملحوظة: لقد علمت بأنكم أرسلتم علم الحكومة لبعض الأماكن، لذا أن التمس أن تبعثوا لي أنا أيضا بعلم، وبعض طلقات الرصاص (خوشكان) لاصطياد ذلك الحيوان المؤذي
سنين حسين"
***** **** ****
وكانت حكومة السودان في تلك الأيام قد اعترفت بعلي دينار كسلطان فرعي (tributary Sultan) على دارفور، فآثرت ألا تجيب على رسالة سنين الوحيدة التي وصلتها منه. وكانت الحكومة تخشى من أن يسيء السلطان علي دينار تفسير رد الحكومة عليه بأنه نوع من الاعتراف بسلطة سنين على منطقته.
وردا على استدعاء علي دينار لسنين، أبلغ الأخير من حمل رسالة السلطان إليه شفاهة برفضه الاستسلام لرجل وصفه بأنه "خان عهد المهدية وتولى يوم الزحف". واستشاط السلطان غضبا عندما سمع برد سنين.
كان سنين في الثالثة والخمسين في عام 1900م، وكان طويل القامة، ممتلئ الجسم، مليح الوجه، وصاحب شخصية محببة وعزيمة ماضية، وعقل يتقد ذكاءً. وكان من قادته ومساعديه المخلصين عدد من الرجال منهم أبو ود أبو كبير (تماوي)، وجبريل ود نجم (هواري) وعبد الله ود أزرق (تماوي). أما قيادة جيشه، فقد تركها لابن أخيه / أخته الشاب الصغير "شيخا Sheikha".
وكان على رأس الجيش الذي بعث به علي دينار لقتال سنين رجل من الرزيقات يقال له كيران، مع 4000 من المحاربين. وتقابل الجمعان في معركتين استغرقتا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، تمخضتا عن هزيمة منكرة لجيش كيران. وعندما تقهقر كيران بما بقي من جنوده نحو الفاشر عاقبه علي دينار بالقتل لإخفاقه في هزيمة سنين. وكان أبو ود أبو كبير من بين الذين قتلوا في إحدى المعركتين مع جيش كيران.
وفي العام التالي (1901م) أرسل السلطان علي دينار جيشا آخر لقتال سنين، كان قوامه 6000 مقاتل، وعلى راسه أحد أفراد عائلة السلطان المالكة، واسمه آدم علي. وجرت معركتان في غضون أسبوعين، هزم في كليهما جيش السلطان. ولما سمع علي دينار بنبأ الهزيمة غضب غضبا شديدا وأمر قائده بالذهاب بمن بقي من جيشه لدار زغاوة، وأمر بتكوين جيش ثالث قوامه 12000 من المحاربين، بقيادة محمود الدادنقاوي (من قبيلة الدادنقا). ولم تدم المعركة الوحيدة التي خاضها جيش محمود الدادنقاوي ضد سنين وجنده في عام 1902م غير ساعات قليلة، وانتهت بانتصار جيش سنين.
وفي العام التالي (1903م) أرسل السلطان علي دينار قوة من الفرسان على ظهر 550 فرسا بقيادة واحد من عائلة الفور الحاكمة اسمه عثمان أبو أبونا بتكليف محدد، ألا وهو الهجوم المباغت على معسكر سنين وإحداث أكبر قدر ممكن من التخريب به. وبالفعل دخلت تلك القوة في فجر أحد الأيام بغتة على معسكر كبكابية، ونهبوا ما به من أبقار، وسبوا النساء، وقتلوا من ضمن ما قتلوا قائد سنين جبريل ود نجم الهواري.، وانسحبوا دون كبير خسارة. ولكنهم في طريق عودتهم للفاشر مروا بمكان اسمه فاقوب (Fagub) على سفح جبل سي، تكثر فيه النباتات مثل نبات الكداد، فتعطلت مسيرتهم المتعجلة، ثم دخلوا في غابة كثيفة لم يقدروا على الخروج منها. وكان سنين قد جمع من بقي من قواته وأختبأ لهم في تلك الغابة، وشن عليهم هجوما مباغتا. أسفر الهجوم عن مقتل أربعة من رجال السلطان علي دينار، ولم يجد بقية الفرسان غير أن يتركوا خيولهم ويطلقوا سُوقٌهم للريح. وغنم سنين في تلك المعركة 520 فرسا، واسترد ما غنمه عثمان أبو أبونا من معسكره.
وبعد مرور شهر من تلك المعركة أرسل السلطان قوة عسكرية بقيادة خليل كاشام للهجوم ليلا على معسكر سنين. ومجددا أفلح جيش سنين في صد ذلك الهجوم ومتابعة رجاله حتى جبل اساقا.
وعقب تلك المعركة بقي الوضع هادئا دون تغيير في كبكابية لخمس أعوام، كان السلطان علي دينار في غضونها يعد العدة لضربة قاصمة لسنين وجنده. وطفق السلطان خلال تلك السنوات يبعث بصورة دورية مستمرة بنحو 200 إلى 300 من المحاربين إلى معسكر سنين من أجل إنهاكه، ونهب كل ما تمتد أيديهم إليه من النساء والأطفال والمواشي. وكان كل من يصطاد من رجال سنين يتعرض لقطع اليدين والرجلين ويترك بعيدا عن معسكره ليموت موتا بطيئا نكرا.
وفي عام 1907م أرسل السلطان علي دينار أكبر جيش استطاع جمعه لمهاجمة معسكر سنين، وأسند قيادة ذلك الجيش لآدم رجال (Rigal) ومحمود الدادنقاوي. زحف جيش آدم على كبكابية من جهة الجنوب، بينما أقبل عليها محمود من جهة الشرق. وأقام كل من القائدين معسكريهما في "زريبتين" كبيرتين على بعد مسيرة ست ساعات من مركز سنين بكبكابية. كان الجيشان قد حاصرا عمليا كل كبكابية، وبقي ذلك الحصار فترة امتدت لسبعة عشر شهرا. ووقعت في غضون تلك الشهور بعض المناوشات والمعارك الصغيرة المستمرة، عدا في شهور الخريف الثلاثة، حين أصيب معظم رجال السلطان دينار بالحمى.
وتناقص بالتدريج ما عند سنين من أغذية وذخائر، وبدأ مسترقو سنين وأتباعه في الانفضاض من حوله. وظهرت أبشع صور نتائج ذلك الحصار (كما يحدث في كل أرجاء العالم) جلية في أيامه الأخيرة، حيث لجأ الناس من فرط الجوع لأكل جثث كل أنواع الحيوانات، والتهام كل أنواع أوراق الأشجار. ولما جاء يوم الحسم ودخلت قوات علي دينار كبكابية لم تجد فيها سوى 400 من الأنصار الذي بقوا رغم كل شيء صامدين وفي انتظار المواجهة الفاصلة.
وقتل في تلك المعركة الأخيرة سنين وقائد جيشه شيخا، وعبد الله أزرق، وكل من بقي من الأنصار. وسبى رجال جيش السلطان من وجدوه حيا من الأطفال والنساء، وقاموا بوَسَمهم جميعا (دلالة على الاسترقاق).
ثم بلغت أنباء هزيمة السلطان علي دينار لسنين الحكومة عن طريق مندوب بعث به السلطان للخرطوم. وصل رسول السلطان الخرطوم في بداية عام 1909م، ومعه علم سنين ليقدمه للحاكم العام (كدليل على هزيمة سنين).
وبعد تَهْدِيم كبكابية، ونقل من بقي من رجال ونساء وأطفال سنين وجنده للفاشر، أمر السلطان علي دينار بإعادة بناء مسجد البلدة القديم (الذي كان قد بني في عهد المهدية)، وأرسل الفكي عثمان محمد كورة ليكون هو الإمام الجديد لذلك المسجد.
*** *** ****
(ذكر الكاتب في الهامش أن محمود الدادنقاوي بقي مخلصا للسلطان علي دينار إلى أن غادر السلطان الفاشر في 1916م، حين قبل بعد ذلك بـ "النظام الجديد" وظل مخلصا له حتى وفاته في فبراير من عام 1922م. وذكر أيضا أن عبد الشافي (20 عاما)، أحد أبناء سنين، قدم لمدير دارفور الجديد بعد سقوط الفاشر في 1916م، وأعلن عن قبوله بالحكم الجديد، وأوضح أن تأخيره في إعلان موافقته عليه كان مرده الانشغال بمحاولة استرداد ما نهب من نساء وأطفال عائلته ومواشيها ممتلكات والده إبان عهد السلطان. المترجم).
alibadreldin@hotmail.com
////////////