عرض لكتاب: "العرق والرق في الشرق الأوسط: تاريخ الأفارقة عبر الصحراء الكبرى في مصر والسودان والدول المتوسطية العثمانية في القرن التاسع عشر" – thSaharan Africans in the 19 –Race and Slavery in the Middle East: Histories of Trans Century Egypt, Sudan and the Ottoman Mediterranean
Jennifer Lofkrantz جينفير لوفكرانتز
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة عرض لكتاب عن العرق والرق في أفريقيا بقلم الدكتورة جينفير لوفكرانتز، نشر في العدد الثاني من مجلة "دراسات الشرق الأوسط الجديدة New Middle Eastern Reviews" الصادرة عام 2012م.
قام بتحرير الكتاب موضوع العرض ترينس والز (Terence Walz) وكينيث كينو (Kenneth Cuno). والأول أكاديمي وباحث مستقل أُشتُهِرَ بكتاباته عن الرق بالشرق الأوسط، وعمل لسنوات في عدد من الجامعات منها الجامعة الأميركية بالقاهرة. أما الثاني فهو بروفيسور للتاريخ في كلية للآداب والعلوم في أوربانا – تشامبايغن بولاية إلينوي. ويدرس ويبحث بروفيسور كينو في تاريخ الشرق الحديث، خاصة فيما يتعلق بتجارة الرقيق بين مناطق أفريقيا (السوداء) ومصر.
وحصلت كاتبة العرض الدكتورة لوفكرانتز على درجة الدكتوراه من جامعة يورك في تورنتو بكندا، وعملت أستاذة مساعدة في جامعة ولاية نيويورك وكلية سانت ماري بكاليفورنيا. وتشمل اهتماماتها البحثية الدراسات المقارنة في الرق عبر العصور، وتاريخ الإسلام والثقافة في غرب أفريقيا (خاصة خلافة سوكتو) وممارسات إفْتداء الأسرى (ransoming).
المترجم
***** ******
استخدم ترينس والز وكينيث كينو محررا كتاب "العرق والرق في الشرق الأوسط" ذات العنوان الذي اختاره بيرنارد لويس لكتابه الصادر عام 1990م. غير أن أكثر ما يميز الكتاب الأحدث هو استخدام المصادر. فقد استطاع كتاب هذا المُؤَلَّف سماع أصوات المسترقين السابقين. وعندما يأتون على ذكر تعميمات عن تجارب معاشة لمسترقين، فإنهم يستندون على قاعدة عريضة من التجارب الشخصية. وأفلح المشاركون في كتابة هذا المُؤَلَّف على تأسيس مقالاتهم على قاعدة من التحليل الدقيق للمصادر المتوفرة لهم، التي شملت مصادر سردية، وسجلات الشرطة، وقضايا المحاكم والتعدادات والاحصائيات. وتصور تلك المصادر أشخاصا (حقيقيين) وحَيَواتهم وهم يحاولون جاهدين إيجاد مواقع لهم في المجتمع، وبناء حَيَوات اجتماعية ذات معنى وقيمة.
وكانت مقالات هذا الكتاب قد أستلت من مداولات مؤتمر لجمعية دراسات الشرق الأوسط عقد في عام 2008م. وكان لمحرري الكتاب ثلاثة أهداف، هي المساهمة في إدراج الأفارقة عبر الصحراء الكبرى في التاريخ الاجتماعي الحديث لمصر والشرق الأوسط، وإثبات أن المصادر لتحقيق ذلك موجودة، ولتسليط الضوء على القواسم المشتركة للتجارب الاجتماعية والثقافية للأفارقة عبر الصحراء الكبرى في الشرق الأوسط. وأفلح المحرران لحد كبير في تحقيق تلك الأهداف الثلاثة. وإضافة إلى ذلك، يتضح عند المقارنة مع الدراسات الحديثة عن الرق في أجزاء أخرى من العالم، أن هنالك الكثير من القواسم المشتركة في تجارب الاسترقاق، خاصة فيما يتعلق بعلاقات السلطة، والممارسات المشتركة بغض النظر عن النظام الحاكم.
يتكون هذا الكتاب من مقدمة وتسع فصول لكُتَّاب مختلفين، منها ستة فصول عن مصر، وفصل واحد لكل من السودان وكريت، والأناضول.
ورغما عن التركيز الشديد على مصر في هذا الكتاب، إلا أن كل فصل من الستة فصول عن مصر تناولت جانبا مختلفا من تجارب الاسترقاق. فقد تناول عماد أحمد هلال وكينيث كيو تجربة المسترقين الذكور. وركز عماد أحمد هلال على دور العرق في تكوين جيش محمد علي (باشا) المكون من مسترقين. وأوضح أن محمد علي كان يرغب في البدء في تكوين جيشه من رجال المماليك (البيض)، إلا أن قلة عدد هؤلاء أرغمته على تجنيد المسترقين السود. ورغم أنه من الممكن لأحد هؤلاء المسترقين السود أن يبلغ في الترقيات لرتبة ضابط، إلا أن ذلك أمر نادر الحدوث، في نظر عماد أحمد هلال، مما يؤكد نظرة محمد علي وأفكاره حول عمل ومكانة السود في جيشه. فظل المسترقون البيض هم الضباط، والمسترقون السود هم الجنود. أما كينيث كيو فقد درس تجارب المسترقين الذكور بالريف المصري في منتصف القرن التاسع عشر. وكان معظم من استرقوا في المناطق الحضرية بمصر من الإناث، بعكس ما كان حادثا في المناطق الزراعية في الريف، حيث يستغلون في القيام بالأعمال الحقلية، خاصة في زراعة القطن. وتحصل كينيث كيو على سجلات لإحصائيات من أربع قرى في صعيد مصر عن المسترقين الأفارقة فيها والأماكن التي جلبوا منها، وأسماء "مُلاَّكهم"، والأعمال التي كانوا يعملون بها. وتعرف أيضا على حَيَوات بعض هؤلاء المسترقين الاجتماعية. وشملت المعلومات التي تحصل عليها الكاتب طريقة زواجهم وتكوينهم لحياة عائلية، وتفاعلهم مع بقية السكان من غير المسترقين "الأحرار".
وجاءت مقالات جورج مايكل لا رو وترينز والز وليات كوزما عن تنوع تجارب الأفارقة عبر الصحراء الكبرى في المجتمع المصري. وكتب جورج مايكل لا رو وصفا مفصلا وتحليلا بديعا لحَيَوات المسترقين الأفارقة في بيوت الأوربيين. واستعان في ذلك بمصادر متنوعة شملت السير الذاتية، والرسائل المكتوبة، والمصادر السردية والقانونية في "إعادة بناء" حَيَوات أفراد من النساء والرجال المسترقين الأفارقة منذ لحظات اصطيادهم في أفريقيا إلى ما بعد بلوغهم مصر وتجربة الاسترقاق فيها. وتوصل الكاتب إلى أن تجربة النساء المسترقات وهن يخدمن في بيوت الأوربيات تماثل تجربتهن في بيوت الأتراك والمصريين. ومثلما فعل الكتاب الآخرون، ركز لا رو على الأفراد المسترقين وهم يحاولون تلمس الخيارات المتوفرة أمامهم والمفاضلة بينها.
وقدم والتز وكوزما وجهتي نظر مختلفتين حول إدماج المسترقين السود في المجتمع المصري بعد تحريرهم. وزعم والتز، اعتمادا على إحصائيات عام 1848م، أنه بالنسبة لكثير من السود، فقد كانت أوضاعهم في المجتمع انعكاسا للمجتمع المصري ككل. فقد تم بالفعل إدماج النساء والرجال المسترقين السود (كخدم) في البيوتات المصرية الراقية، غير أنهم، كغالب سكان مصر، ظلوا يكابدون الفقر ويعيشون في حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي. وأوضح والتز، وعلى العكس مما يظن الكثيرون، اختيار كثير من المسترقين السابقين العيش بالقرب من بعضهم البعض، في بيوت تملكوها أو في "مدن أكواخ shanty towns"، مما يدل على نشوء سلسلة من الشبكات الاجتماعية. أما مقال كوزما فقد نبه إلى أهمية الجنس / الجندر والعرق في تجربة المسترقين الذين تم عتقهم. فقد ذكرت الكاتبة أن كون المرأة سوداء اللون ومسترقة يضاعف من قابليتها للتعرض لمصاعب لا تتعرض لها عادة المسترقة البيضاء المحررة ولا المسترق الأسود الذي تم عتقه. فالمرأة السوداء المحررة لديها فرص أقل في إيجاد عمل، خاصة إن كانت تعول أطفالا صغارا. وأكثر من ذلك، فقد تجد تلك المرأة نفسها مسترقة مرة أخرى (مثلما حدث لسلومة التي أوردت الكاتبة قصتها). وذكرت الكاتبة ايف تراوت بأول في مقالها ما دار بالصحف المصرية في القرن التاسع عشر من نقاش حول المصير المجهول للنساء المسترقات بعد عتقهن. فالحرية تعني الاستقلالية، لكنها تعني أيضا عدم الأمان. هل من الأفضل للنساء المسترقات أن يغامرن بالدخول في معترك الحياة بمفردهن، أم أن يحافظن على علاقتهن بـ "مُلاَّكهن" السابقين؟ وهل للحكومة مسئولية تجاه المسترقات السابقات؟
أيجب على الحكومة أن تقدم لهن الحرية مع قطعة أرض كما هو التقليد المتبع مع الجنود السابقين؟ كانت تلك هي بعض النقاط التي أثارها الصحافي عبد الله النديم في حواراته عن العائلة.
وتعرضت المقالات الثلاثة التي لم تتناول مصر إلى بعض المواضيع والأفكار التي وردت في الفصول الأخرى التي اختصت بالتجربة المصرية. وتناول ي. حكام ايرديم مناقشة تجربة مسترقة افريقية اسمها فراسيت في إزميت (إزميد) بالأناضول، ودور "الواسطة / الوكالة agency" فيها. وتعرض أيضا إلى مزايا وعيوب الاستعانة بالمصادر القانونية في محاولة سماع أصوات الأفراد المسترقين، وشبكاتهم الاجتماعية، والأوساط التي كان يعيشون فيها. وهذا يدعونا لتذكر محتوى القضايا التي كانت أمام المحاكم في غرب أفريقيا أيام الاستعمار، وشهادات المسترقين فيها.
كتب أحمد سيكنجا فصلا مثيرا للاهتمام عن دور المسترقين في تكوين ثقافة حضرية وأنشطة ترفيهية في الخرطوم، بحسبانهم مقدمين ومقدمات للخدمات الترفيهية عند عائلات أوساط الطبقة العليا والوسطى، وأيضا كمشاركين ومشاركات في "ثقافة الشارع". وهذه وجهة نظر معتبرة ومضادة لما ورد في الدراسات السابقة، التي صوبت جل تركيزها على أن السكان من غير المسترقين "الأحرار" هم الذين أسسوا وبنوا الثقافة في المجتمع. ولفت الكاتب النظر إلى أهمية دراسة الأصول متعدّدة العرقية في تكوين الخرطوم كمدينة كوزموبلاتينة (مؤلفة من عناصر اجتمعت من مختلف أرجاء العالم) فريدة، علما بأن المسترقين في الخرطوم كانوا يشكلون ما نسبته 50% إلى 66% من السكان. وأوضح سيكنجا كيف أن الأفارقة (غير العرب وغير السودانيين) كانوا قد ساهموا بفعالية في خلق ثقافة الخرطوم الترفيهية، وذلك بتقديمهم لضروب مختلفة من الفنون والأنشطة الترفيهية إلى خليط من مختلف سكان الخرطوم (الأوربيين، والترك والمصريين والسودانيين). وفي ذات المنحى كتب مايكل فيرقسون مستكشفا مساهمات الأفارقة عبر الصحراء الكبرى للثقافة المحلية. إلا أن ما يجعل مقال فيرقسون مثيرا للاهتمام بصورة خاصة هو مناقشته لموضوع طرد هؤلاء الأفارقة من الجزيرة اليونانية كريت، وإعادة توطينهم في الأناضول كجزء من اتفاقية تبادل للسكان بين اليونان وتركيا أبرمت في عام 1926م. وجاء في تلك الاتفاقية أن هؤلاء الأفارقة هم من المسلمين، بذا يعدون من الأتراك، رغم أنهم لا يعرَّفون أنفسهم هكذا.
ورصد كثير من كتاب مقالات هذا المُؤَلَّف ما شاب الكتابات السابقة من تقليل لشأن مساهمات المسترقين الأفارقة وأحفادهم في تكوين مجتمعات اليوم وثقافتها وهويتها القومية. ويساهم هذا الكتاب في تصحيح ذلك الخطأ. غير أن هذه الملاحظة تثير سؤلا عن الذاكرة الجماعية. كيف تتذكر المجتمعات تجربة استرقاق الأفارقة عبر الصحراء الكبرى؟ وعلى الرغم من أن أمر الذاكرة الجماعية لم يكن من ضمن موضوعات هذا المُؤَلَّف، إلا أنه موضوع بالغ الأهمية، خاصة في أماكن مثل جزيرة كريت، والتي طرد منها أحفاد المسترقين الذين جلبوا من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ويمكن أن ينطبق ذلك على أماكن أخرى مثل دول الإمبراطورية العثمانية السابقة في أوروبا، وفي مصر والجزيرة العربية وسوريا. وكان لكتاب عن "الشرق الأوسط" أن يشمل أيضا – من باب زيادة الفائدة – فصولا عن مناطق جغرافية أخرى. ويتمنى القارئ بعد قراءة الفصل الذي كتبته كوزما عن حالة المسترقة سلومة، واصطيادها من موطنها في أفريقيا وأخذها لمصر ومنها لفلسطين، لو أن كاتبا من كتاب هذا المُؤَلَّف تعرض، لأغراض سياقية، لذلك الجزء من العالم. وعلى الرغم من ذلك يمكن القول على وجه الإجمال إن هذا الكتاب قد أفلح في تقديم معالجة معقدة ومفصلة لموضوع الرق في ذلك الجزء من العالم في المجتمعات الإسلامية. ولا ريب أن المؤرخين والمعلقين كانوا يرون - بتصور نظري مثالي – أن العرق لم يكن من العوامل الداخلة في أمر الرق بالمجتمعات الإسلامية، رغم توفر الأدلة على عكس ذلك، وبروز مثل هذه الدراسات المتضمنة في هذا الكتاب، والتي تشير إلى أن العرق كان له دور مهم في الرق في المنطقة جنوب الصحراء الكبرى وعلى شواطئها، منذ القرن السابع عشر على الأقل. وقدم كتاب هذا المُؤَلَّف الأدلة على أهمية العرق في الرق، وأنه كان من العوامل التي زادت من تعقيد عملية الاسترقاق، بينما الرقيق والرقيق المحرر وأحفادهم يبحثون عن مواقعهم الاجتماعية في أرجاء بلدان الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر.