السودان: نظرة في تعثر بناء الدولة (7)

 


 

د. النور حمد
15 September, 2017

 

 

أساليب اضعاف الحراك المطلبي:

برعت الأنظمة الشمولية في ابتكار الأساليب التي تضعف بها العمل المطلبي الذي يتحول في بعض الأحيان إلى أداة ضغطٍ سياسية تهدد أركان النظام القائم. ومن نماذج أساليب تفريغ العمل المطلبي من قدرته الضاغطة ما قام به الرئيس نميري في نهاية السبعينات من القرن الماضي. لقد كانت نقابة السكة حديد من النقابات ذات العضوية الكبيرة، وكان للشيوعيين تأثيرٌ كبير عليها. ولقد اتخذها الشيوعيون في مراتٍ كثيرة أداة للثأر من نظام جعفر نميري، بعد الضربة القاتلة التي تلقوها منه عام 1971، كما سلفت الإشارة. تكررت اضرابات عمال السكة الحديد وأصبحت مهددة للنظام. فقام نميري بإنشاء كتيبة من الجيش أسماها "الكتيبة الاستراتيجية". تم تدريب تلك الكتيبة على قيادة القطارات وإدارة حركتها وتسييرها. فإذا أضرب عمال السكة الحديد، التي تمثل مرفقًا بالغ الحيوية بالنسبة لبلادٍ مترامية الأطراف كالسودان، تولت هذه الكتيبة إدارة عملياتها وسيرت قطاراتها وأصبح الإضراب بلا تأثير. بل تعدى الأمر ذلك إلى تدمير السكك الحديدية نفسها. فقد أخذت الحكومة تهمل مؤسسة السكك الحديدية فأخذت تنهار تدريجيًا، فتتناقصت قوتها الساحبة من الوابورات الصالحة للعمل، وضعفت قدرتها على الصيانة حتى تحطمت تمامًا. وحين جاء الإسلاميون في عام 1989، ولمعرفتهم بقوة تنظيمها وطبيعتها المشاكسة، سرحوا أكثرية عمالها، ولم يبق في سكك حديد السودان التي كانت تصدر الخبرة للأقطار الإفريقية، شيءٌ يذكر اليوم. في المقابل، كان قطاع النقل الخاص ينتعش وينمو، رغم فارق التكلفة الكبير في أسعار النقل بينه وبينه السكك الحديدية. انهارت السكك الحديدية، وهي مؤسسة حكومية عامة، وازدهر النقل البري التابع للقطاع الخاص. وهكذا، يمكن أن يعود الاستخدام غير الموزون للضغط النقابي بكارثة على العاملين، يمكن أن تصل حد أن يفقدوا المرفق الذي يعملون فيه، وبالتالي قوة الضغط السياسي التي اكتسبوها من خلال ذلك المرفق. ومن أكبر التنظيمات النقابية المماثلة في السودان، "اتحاد مزارعي مشروع الجزيرة والمناقل". تعرضت مشروع الجزيرة والمناقل وهو أكبر مشروع زراعي حديث في السودان، لنفس الإهمال حتى وقف على حافة الانهيار، فشرع المسؤولون الحكوميون في بيع أصوله. ولكن بسبب الاحتجاجات والغضب الشعبي أوقف رئيس الجمهورية اجراءات البيع. ولا يخفى أن عرض أكبر مشروع للزراعة في السودان يعتمد عليه في عيشهم مئات الآلاف من المزارعين وأسرهم، ومعهم مئات الآلاف من العمال الزراعيين، يجر العمل النقابي من مهمته كقوة ينبغي أن تعمل لتحسين أحوال العاملين، إلى مجرد قوة تطالب بالإبقاء على مشروع أضحى معروضًا للبيع، لأنه لم يعد منتجًا.
أيضًا مارست السلطات الحاكمة التلاعب بالانتخابات النقابية، وتصعيد القيادات الموالية لها من خلال صندوق الاقتراع، بإقصاء القيادات التي يمكن أن تسبب ازعاجًا للسلطة الحاكمة. وأصبح المسؤولون الحكوميون لا يستحون من الظهور بقوائمهم الانتخابية ودعم مرشحيهم للفوز بمقاعد النقابات وجعلها مستتبعة للسلطة التنفيذية 61. أيضًا جري إضعاف الحراك المطلبي عن طريق تغيير قوانين العمل النقابي، لتصبح هي نفسها مكبلةً للحراك المطلبي الفاعل.


تكريس الصوت الواحد:
إن أكثر ما تميزت به النظم العسكرية السودانية هو السيطرة على الإعلام وتكريس الصوت الواحد. فعندما جاء انقلاب الفريق عبود في عام 1958 قام بإلغاء الأحزاب، وإغلاق الصحف اليومية، وإصدار صحيفة واحدة اسمها صحيفة "الثورة". وعندما جاء انقلاب جعفر نميري في عام 1969، قام هو الآخر بحل الأحزاب السياسية، وتأميم الصحف، فاستولى على الصحيفتين المستقلتين "الصحافة" و"الأيام" وأصبحتا بعد التأميم صحيفتين حكوميتين. وقد سلك الإسلاميون نفس المسلك حينما جاءوا بانقلابهم عام 1989. حل الإسلاميون كل الأحزاب والتنظيمات، ولكنهم لم يقوموا بتأميم الصحف كما فعل جعفر نميري، وإنما قاموا بإغلاقها، وإصدار صحيفتين حكوميتين، هما، "الإنقاذ الوطني" و"السودان الحديث". وبما أن جهازي الإذاعة والتلفزيون ظلا جهازين حكوميين عبر مراحل الحكم الوطني، فقد استخدمتها الأنظمة العسكرية المختلفة كأبواق للدعاية الحكومية. كما استخدمتها لذلك الغرض الحكومات الحزبية أيضًا، ولكن بقدر أقل، ولا يقارن بحال بما قامت به الحكومات العسكرية في تلك الوجهة. غير أن حكم الإسلاميين الذي اتجه منذ البداية لإعادة صياغة المجتمع السوداني وفق رؤيته، فقد منح السيطرة الإعلامية أولوية قصوى. كما أنفق بسخاء غير مسبوق على الأجهزة الإعلامية بغرض ترسيخ أفكار الإسلاميين والترويج وسط الجمهور لإنجازات الحكومية. وقد لعبت الأجهزة الإعلامية دورًا كبيرًا جدًا في نشر أنماط التفكير السلفية وسط المجتمع، خاصة ما يتعلق بالمرأة. كما لعبت دورًا كبيرًا جدًا في التعبئة الدينية للحرب في الجنوب وحولتها من حرب جهوية مطلبية، إلى حرب دينية جهادية، كما سبق ذكره. أيضًا، استهدف الإسلاميون مناهج التعليم وصبغوها بأفكارهم، فاحتشدت بالنصوص الدينية وبأفكار الإخوان المسلمين، وعاد التعليم ليغرق في استظهار النصوص وحفظها وابتعد، أكثر من أي وقت مضى، من تقوية القدرة على التفكير النقدي، وأصبح وسيلة لخلق جمهور مطبوع على القبول والاذعان دون مساءلة. عادت الصحف للظهور بعد اتفاقية نيفاشا مع الجنوبيين، التي تضمنت بندا يفسح المجال للحريات الصحفية. تم السماح بقيام الصحف غير الحكومية، ولكن تم تكبيلها بالخطوط الحمراء الكثيرة، كما ظلت تصادر بعد الطباعة من داخل المطابع ما سبب لها أزمات مالية كبيرة. وظل الصحفيون يُستجوبون ويُعتقلون ويُوقفون من الكتابة لمدد مختلفة. واستخدمت السلطة مختلف الأساليب للتضييق على الصحافة المعارضة، ومن ذلك حرمانها من الإعلانات ومنحها للصحف الموالية التي خلقت الحكومة عددًا منها خلف واجهاتٍ غير حكومية. أيضًا نشطت كثير من منظمات المجتمع المدني بعد اتفاقية نيفاشا ولكنها ظلت عرضة للمعاكسات وللتضييق المستمر حتى تم إغلاق كثير منها بتهمة تلقي عونٍ ماليٍّ أجنبي.


تأثيرات الحرب الباردة على العمل المطلبي:
لابد أن نأخذ في الاعتبار ما يجري داخل هذا النوع من أقطار العالم النامي، كالسودان، الذي سادت فيه في معظم حقبة ما بعد الاستقلال الأنظمة العسكرية القمعية، تأثيرات السياق الكوكبي العام. فالصراع المرير بين الكتلتين الكبيرتين بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والاتحاد السوفيتي السابق من جهة أخرى، في حقبة الحرب الباردة ألقى بظلالٍ ثقيلة على هذه الأقطار. حينها، كان هناك نموذجان مطروحان للتنمية مع تنويعاتٍ ضئيلة داخل كل واحد منهما؛ يتبع أحد هذين النموذجين الكتلة الغربية، ويتبع الآخر الكتلة الشرقية. وبما أن الدول النامية كانت بحاجة إلى العون وإلى انشاء التحالفات وإلى الحماية، خاصة في المناطق الساخنة التي تشكل بؤرًا للتماس بين الكتلتين، فقد انقسمت الأقطار النامية في الاصطفاف وراء هذين النموذجين. ولم تكن كتلة عدم الانحياز التي تمخضت عن مؤتمر باندونغ تعني شيئًا، من الناحية العملية، لتحقيق الحيادية التي كانت متصورة. فلقد سيطرت عليها التصورات اليسارية، وهيمنت عليها، إلى حد كبير، الرؤية السوفيتية.
كان انقلاب جعفر نميري عام 1969 انقلابا يساريًا في بداية أمره. بل كان أقرب ما يكون إلى الانقلاب الشيوعي. اعتبر فريق ما يسمى بـ "تنظيم الضباط الأحرار" في القوات المسلحة الذي نفذ ذلك الانقلاب بالاشتراك مع بعض الشخصيات اليسارية المدنية، أنه يمثل امتدادًا لشعارات ثورة أكتوبر. ولذلك أعد لنفسه برنامجاً عاما يهدف بصورة رئيسة إلى وضع نهاية للفساد، ولتغلغل الاستعمار الجديد، ومنح الجنوب حكمًا ذاتيًا، وتطوير الهياكل وتخطيط التنمية 62. وبعد عامٍ واحدٍ فقط من استلامه السلطة قام نظام نميري بعملية تأميم لكل البنوك وأربع من الشركات البريطانية الكبرى التي ظلت تعمل في السودان لعشرات السنين، بل وصل التأميم أنشطة خدمية صغيرة كالمطاعم والمخابز والبارات كان يملكها في السودان أفراد ذوو أصولٍ أوروبية 63. كما تم تأميم شركة النقل الوطني أكبر شركة ناقلة للركاب بين مدن السودان، وكان تملكها أسرةٌ من أصلٍ أوروبي. من تلك الخطوات وضح لقوى المعارضة التقليدية وللإسلاميين أن النظام أصبح يسير بالبلاد، بصورة جليةٍ، في خطى الشيوعية الدولية، وأنه أضحى نظامًا شديد الراديكالية، ما قوى من عزيمة تلك القوى الحزبية الطائفية المعارضة، لكي تسفر في معارضته، بل وفي مقاومته عسكريًا، كما رأينا. أيضًا، تم إلغاء الهياكل الموروثة من عهد الاستعمار وهو ما يسمى بـ "الإدارة الأهلية". فقد اعتمد البريطانيون على شيوخ العشائر، وفقًا لنظام إداري شعبي تراتبي يمثل أعلى سلطة فيه ما يسمى بـ "الناظر". ويحتل هذا المنصب رأس القبيلة، ويعاونه في المنطقة الجغرافية التي تحتلها القبيلة مجموعة من العُمَد (جمع عُمدة)، ويشرف كل عمدة على جزء من المنطقة الجغرافية الكبيرة، ويكون العمدة أبرز أعيان تلك المنطقة الجغرافية. بدأ نظام جعفر نميري بتطبيق هيكله الإداري الجديد الذي حل محل الهيكل الإداري القديم في المناطق الريفية القريبة من العاصمة الخرطوم وفي الشمال وفي مناطق الزراعة المروية بمديرية النيل الأزرق، على أن يتم التدرج فيه فيشمل الأقاليم البعيدة. ولقد اعترض كثير من المثقفين السودانيين على تلك الخطوة واعتبروها خطوةً متعجلة غير مدروسة. وبالفعل ظهرت مساوئها لاحقًا، وتم التراجع عنها، لكن بعد أن نجمت عنها أثار ممتدة لا تزال حلقاتها تتابع حتى اليوم. فنظام الإدارة الأهلية نظام أنشأه البريطانيون بناء على دراسات أنثروبولوجية واجتماعية وقد أثبت فاعليته عبر نصف قرن من الحكم البريطاني. لم ير الانقلابيون والشيوعيون والحداثيون التسبيب العلمي الذي وقف وراء ذلك الشكل من الحكم، بغض النظر عن الأغراض الاستعمارية الأخرى التي وقفت وراءه، وإنما رأوا فيه داعمًا للأحزاب الطائفية، ففكروا في محوه بدعوى التحديث.
بالفعل، هددت خطوة تصفية الإدارة الأهلية نفوذ القوى الحزبية الطائفية. ولذلك، رأت تلك القوى أنها لم تعد أمامها مندوحة من مقاومة النظام الجديد. فأخذت تعمل بقوة ضده، ولم تهادنه حتى بعد أن تخلص من الشيوعيين بعد انقلابهم عليه في يوليو 1971. فالإدارة الأهلية مثلت الداعم الرئيس لها في الوصول إلى البرلمان. فالناخب في تلك المناطق عادةً ما يتبع زعيم العشيرة أو القبيلة في اختيار الجهة التي يمنحها صوته الانتخابي. ولذلك فإن تطبيق نموذج ديمقراطية ويستمينستر المتمثل في الصوت الواحد للفرد الواحد (one man one vote)، لا يؤتي بطبيعة التركيبة القبلية العشائرية السائدة في معظم الأرياف السودانية المردود الديمقراطي الحقيقي المرجو منه. ومع صحة كل ذلك، فقد كان من الممكن العمل الوئيد لإصلاح ذلك الوضع ونقل العمل الإداري إلى صورة أكثر حداثة. أما الانقلاب عليه بشكل مفاجئ بسبب الغرض السياسي، فقد كان قفزة في الظلام. فتطوير الريف وتحديث البنى الاقتصادية التحتية، وتغيير علاقات الانتاج، هو الذي ينقل الإدارة إلى صور أكثر حداثة، وليس الانقضاض عليها من علٍ بقرارٍ سياسي فوقي.
لم تنجح سياسات نميري التي اتبعت "طريق التنمية غير الرأسمالي" في تحقيق مردود، وإنما عادت بنتائج عكسية. فخطط التنمية الطموحة التي بدأ النظام في رسمها وتنفيذها لم تأت بمردود اقتصادي ملموس، وإنما أغرقت السودان بالديون. وبدأت قيمة العملة السودانية تتدهور بعد أن تم اختيار السودان من قبل البنك الدولي كحقلٍ للتجربة في تأثيرات تخفيض العملة في زيادة الصادر وتقليل الانفاق. ويرى البطحاني أن مجمل السياسات إضافة إلى عوامل أخرى، أدت إلى زيادة الأهمية النسبية للأنشطة غير الانتاجية ما أفقد الاقتصاد السوداني توازنه التنموي الذي كان يميزه في الفترة السابقة. ولقد كان لذلك تأثيراته الضارة على التنمية الاجتماعية. فقد انخفض الصرف على الخدمات الاجتماعية من 30.4% عام 1961- 1962، إلى 14.3% عامي 1972-1973، من الانفاق الكلي الجاري. كما انخفض الصرف على التنمية الاقتصادية من 35% عام 1955-1956، إلى 18% عام 1972-1973، من الانفاق الجاري، وزادت في نفس الوقت النفقات على الدفاع والأمن والإدارة العامة. وواصل الصرف على الخدمات والتنمية تراجعه في فترة الثمانينات من القرن الماضي من 29.1%، عام 1974-1975، ليصل في عام 1984-1985، إلى 15.7%. وقد قل في نفس الوقت نصيب الفرد من الخدمات الاجتماعية في الانفاق الجاري من 28.7% في عام 1974-1975، لينحدر إلى 18.3% عام 1984-1985 64.

..يتواصل..

............................................
61 ورد في صحيفة أخبار اليوم السودانية يوم 2 يناير 2014 عنوانا لخبر يقول: المؤتمر الوطني يدشن حملته الانتخابية لنقابة المحامين بحضور بروفيسور غندور ود. نافع والخضر. وغندور ونافع قياديان إسلاميان ومسؤولان كبيران في حزب الحكومة، المؤتمر الوطني الحاكم. جاء في الخبر: "أكد د. نافع أنه سيواصل رئاسة لجنة انتخابات المحامين من المؤتمر الوطني بتكليف من بروفيسور غندور وتحت اشرافه وقيادته. وقال لدى مخاطبته اللقاء أن المعركة في ساحة المحامين أصبح لها طعم خاص بتجاوزها الساحة المحلية وامتدادها في الخارج لتصبح جزءاً من الصراع العالمي مشيراً الى فرز الكيمان بين خسارة موكب العلمانية والشيطان، وبين ثبات موكب الرحمن وأهل الله، وانتصار المشروع الإسلامي.
http://www.almshaheer.com/article-585786, (استرجاع 29 يناير 2014).
62 ديدرا روسانو، مصدر سابق، ص 172.
63 عبد الله علي إبراهيم، مصدر سابق، ص39.
64 عطا البطحاني، مصدر سابق، ص 122.

elnourh@gmail.com

نقلا عن صفحة دكتور النور حمد على الفيس بوك

 

آراء