استحقاقات اليوم التالي، ما بعد، وما وراء رفع العقوبات … بقلم: خالد التيجاني النور
خالد التيجاني النور
21 October, 2017
21 October, 2017
عن: صحيفة إيلاف
كان لافتاً مسارعة الحكومة إلى إعلان خطط اقتصادية أخرى في الأسبوعين الماضيين دون انتظار لقرار الإدارة الأمريكية رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد لعقدين، جاء الأعلان الأول في خطاب الرئيس عمر البشير أمام الهيئة التشريعية القومية في الثاني من أكتوبر، بينما أجاز مجلس الوزراء الخميس موجهّات موازنة العام 2018، قبل يوم من إعلان رفع العقوبات، وهو ما آثار تساؤلات فيم العجلة، ألم يكن حرياً بالحكومة الانتظار قليلاً لتكون برامجها المستقبلية مستندة إلى هذه التطور الذي يفترض الجميع أهميته؟.
كرّر وزير المالية والتخطيط الاقتصادي مرتين في رده على أسئلة الصحافيين لعدم انتظار القرار الأمريكي بقوله "إن العقوبات لن تؤثر علينا كثيراً، برنامجنا هو برنامجنا، لأن وجهتنا الاقتصادية محددة ببرامج واضحة مضمنة في مخرجات الحوار الوطني، والخطة الاستراتيجية الثالثة للدولة 2017-2020، والبرنامج الخماسي للإصلاح الاقتصادي، وبرنامج حكومة الوفاق الوطني التي قدمها رئيس الوزراء، لذلك الوجهة محددة وكذلك الفرص المتاحة أمام الاقتصاد السوداني، رفع الحظر يُعظّم هذه الفرص، ويسرّع من معدلات النمو الاقتصادي".
لا شك أن رد الوزير ليس مبرراً مقنعاً بما يكفي لما ظهر جلياً من تقليل الحكومة من شأن قرار رفع العقوبات، باعتباره مجرد خطوة مساعدة، وليس عاملاً حاسماً في رسم توجهات الاقتصاد السوداني مع الإقرار بكل التعقيدات التي خلفها على مدار عقدين، ومع كل التحرّكات التي انخرطت فيها على مدار السبعة عشر عاماً الماضية لرفعها، وهو ما يفتح الباب أمام تكهنّات عن استحقاقات أمريكية لاحقة، مثيرة لقلق الخرطوم، لإكمال شروط واشنطن تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة في ظل إعلانها صراحة عن احتفاظها بكروت ضغط بإبقاء السودان في لائحة الدول الراعية للإرهاب، والحفاظ على الأمر التنفيذي 13400 الصادر في 2006 بخصوص العقوبات حول دارفور.
طغى إحساس عام بأن الترحيب الحار برفع العقوبات الأمريكية كان ذا طابع شعبي أكثر منه رسمياً بالقدر ذاته، صحيح أن ترحيباً حكومياً مراسمياً بالقرار صدر من قبل أكثر من طرف رسمي، إلا أن المراقبين لم يلمسوا درجة التفاعل الحار المنتظر، كشأن ذلك الاحتفاء الحكومي الطاغي الذي رافق رفع العقوبات مؤقتاً عند صدورها لأول مرة في يناير الماضي، في خواتيم عهد الرئيس باراك أوباما. ولعل إقدام الحكومة على تجديد وجهتها الاقتصادية دون انتظار للقرار، بمعنى أن الأمور ستمضي كما هو عليه، كان أن أحد ملامح ردة الفعل الرسمية المتحفظة بدرجة ما، ولعل ذلك ما يطرح جملة تساؤلات حول هذه الملاحظات.
من الواضح أنه في قمة ردود الفعل الإعلامية الأنية التي اندفعت في تناول القرار الأمريكي بكثير الترحيب والتفاؤل الزائد، لم تلتفت كثيراً للمعطيات الأمريكية التي حدثت بواشنطن لإتخاذ هذه الخطوة، والتي وردت بتفاصيل في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية المعنون " تقرير حول مُحافظة حكومة السودان علي الاجراءات الايجابية" الذي جرت الإشارة إليه في البيان الصحافي المقتضب للناطق بإسم الوزارة الذي أعلن فيه إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة بالأمرين التنفيذيين.
من المؤكد أن إدراك الحكومة لمضمون التقرير، الذي مال إلى التعسف والاشتراط ولم يظهر ما يشير إلى ود دبلوماسي متبادل، وأن الطريق الذي يتوجب عليها قطعه لا يزال طويلاً لمقابلة الاشتراطات الأمريكية المتحركة لرفع العقوبات كافة والوصول إلى عتبة التطبيع بين البلدين، هو ما أملى عليها هذا الموقف المتحفظ، وألا تسرف في التعويل على الخطوة التي تمت على أهميتها حتى لا ترتفع توقعات الرأي العام، ثم تجد نفسها تحت ضغوطه عندما يكتشف سريعاً أن الأمور ليست بهذه البساطة التي تبدو بها، وأن الأحوال الاقتصادية التي يعولون على آثارها إيجابية لن تتحسن في مستقبل منظور.
القراءة الفاحصة للتقرير الأمريكي ستجعل من اليسير للمحللين تفهم لماذا جاءت ردة فعل الخرطوم الرسمية متحفظة ومتحسبة، ذلك أنه مع إقراره بالتقدم الذي حققته الحكومة السودانية في خطة المسارات الخمسة، إلا أنه جاء مليئأ بالاستدراكات، والتحفظات، والاشتراطات الجديدة، والتهديد بالعودة لفرض عقوبات منتقاة في أي وقت، مما يمكن القول معه بصفة عامة أن لغته أقرب للتشدّد والافتقار للهجة الدبلوماسية الهادئة التي يمكن تفهم تمسّكها بالمطالب، ولكن ليس إلى درجة أن يكون التقرير محشوداً بالإنذارات والوعيد وكأنه وثيقة تنتظر الاستسلام لشروط مسبقة، وليست أجندة مطروحة للحوار والتفاهم في ظل التجاوب الكبير الذي تبديه الحكومة السودانية مع الانشغالات الأمريكية في العلاقات بين البلدين.
فقد بدأت الخارجية الأمريكية تقريرها بشكل صادم تحت عنوان جانبي "مخاوف الويلات المتحدة"، حيث ذكرت بوضوح في هذه الفقرة "لا يُشكل هذا التقرير اقراراً للتقدُم في جميع اجراءات سلوك حكومة السودان خلال فترة التقرير، بل لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية لديها مخاوف بشأن سجل السودان في 1- وقف اطلاق النار، 2- ارساء سيادة حُكم القانون في دارفور، 3- الافلات من العقاب في الجرائم السابقة، 4- تدخل الحكومة في العمليات الانسانية، 5- حقوق الانسان".
ففي هذه الققرة حشرت واشنطن ثلاثة اشتراطات جديدة بالغة التعقيد، فإيقاف إطلاق النار والعمليات الإنسانية من ضمن خطة المسارات الخمسة، أما الاشتراطات الجديدة فإثنان منهما متعلقان بالوضع في دارفور التي تعتبر الحكومة أن ملفها قد طُوي وأن الوضع فيها قد استتب، فهذان الشرطان فضلاً عن إعادتهما لفتح هذا الملف، فقد زادت الأمور ضغثاً على إبالة بإعادة التذكير بحضور ملف المحكمة الجنائية الدولية بشأن دارفور بكل تعقيداته المعروفة، وأما الشرط الآخر الجديد المتعلق بحقوق الإنسان فقضية دوّار ليس سهلاً مقايسة معايير التقدم فيها.
والمسألة الأخرى المفتاحية في قراءة معطيات القرار الأمريكي حسب تقرير الخارجية فهو ما سطرته بوضوح بقولها "رغم ذلك من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بالاجراءات الايجابية للمسارات الخمسة والاستفادة منها في مُعالجة المسارات المُثيرة للقلق السابقة"، وعلى الرغم من أن الاعتراف بوضوح بأن مصلحة الولايات المتحدة هو أمر تقريري، إلا أن التأكيد عليه يشير إلى حقيقة أنه مثلما فرضت الولايات المتحدة العقوبات على السودان لتحقيق مصالح معين، فإنها أيضاُ تبتغي من رفعها جزئياً في هذه الحدود خدمة مصالحها أيضاً، ومع بداهة هذا الأمر إلا أنه ضروري للتذكير به لأخذ البعض مسؤولين هنا الأمور بخفة واعتبار أن رفع العقوبات جاء هكذا لمجرد الحوار بين البلدين، وأنها اقتنعت ببراءة الحكومة وجديتها، ودورها الضروري للاستقرار، فهذه بلا شك تفسيرات فطيرة، فلا شئ مجاني في عالم السياسة والمصالح والعلاقات الدولية.
وانتقل التقرير في الفقرة التالية مباشرة ليحدد "الادوات التي ستُعالج بها الادارة الامريكية مخاوفها تجاه السودان"، وهي تضع سلوك الحكومة تحت الرقابة "ستحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية بعدد من الادوات لمعالجة المخاوف المستمرة في السودان منها الامر التنفيذي ١٣٤٠٠ بتاريخ ٢٦ ابريل ٢٠٠٦ وهي العقوبات المُتعلقة بدارفور واستمرار ادراج السودان في قائمة الدول الراعية للارهاب مما يترك اثراً حول المُساعدات الخارجية الامريكية للسودان وحظر بيع الاسلحة والمواد التي يُمكن ان يُستخدم فيها"، وكما هو واضح لم تترد واشنطن في الإفصاح صراحة عن وسائلها لاستمرار فرض الضغوط على الخرطوم للاستجابة لمطالبها.
أما فقرة الحريات الدينية في السودان في تقرير الخارجية الأمريكية فقد كشفت عن حجم الضغوط والتدخل الذي تعرضت له الحكومة السودانية، فقد ورد فيه "سنواصل الضغط من أجل إدخال تحسينات على الحرية الدينية في السودان، ولا تزال حوادث هدم الممتلكات والمباني الكنسية، والتي ترتبط شكلياً بالنزاعات على الأراضي، إلى جانب المشاكل المستمرة الأخرى التي وثقت في تقريرنا السنوي عن حقوق الإنسان وتقرير الحرية الدينية الدولية ، وهي مصدر قلق كبير".
وأضاف التقرير " وفي إطار المضي قدماً، أعربت الحكومة السودانية عن رغبتها في اتخاذ خطوات من أجل التصدي لتسمية بلدها مُقيداً لحرية العبادة، وأيدت مبادرة من مكتب وزارة الخارجية وحقوق الإنسان ومكتب العمل الدولي التابع لوزارة الخارجية للعمل مع الجماعات الدينية بشأن قضايا تسجيل الملكية".
لقد كانت أكثر الأمور آسفاً التي كشفها تقرير الخارجية حجم التدخل الأمريكي في "نظام العدالة السوداني" المفترض استقلاليته حيث جاء فيه "كنتيجة مباشرة لمشاركتنا، بالاشتراك مع ضغط الكونغرس ومشاركة وزارة الخارجية التشيكية ، عفت الحكومة السودانية عن رجل دين تشيكي وهو بيتر جاسيك واثنين من زملائه الذين حكم عليهم بالسجن لمدة 12 عاما بسبب التجسس".
واختتم التقرير بتهديد صريح "لدي حكومة الولايات المُتحدة الامريكية كافة السلطات والصلاحيات لفرض عقوبات مُحددة علي اشخاص واهداف في حالة حدوث اي خروقات في مجالات التعاون المُختلفة السابقة".
عموماً ليس المقصود من الإشارة إلى مضمون التقرير الأمريكي الدعوة لمواجهة أو مواقف متعنتة، أو رفض التعاون، ولكن يجب على الحكومة أن تطلع الرأي العام على حقيقة مجريات الأمور، لأن يكون على بصيرة من حقيقة ما يجري في هذا الملف، وأن يكف المسؤولون عن إعطاء صورة زاهية لما جرى وكأنه نزهة حوار، بل كانت هناك تنازلات كبيرة، بل وتنازلات مؤلمة، وهذا أمر تفرضه موازين القوى الراهنة، وليست المشكلة في تقديم تنازلات في حد ذاتها لتحقيق مصالح أرجح، ولكن لا ينبغي أن يتم ذلك في الخفاء، ثم يُعلن للرأي العام خلاف ما يجري في الكواليس.
خلاصة الأمر أن الإدارة الأمريكية تركت السقف مفتوحاً أمام متطلبات تخفيف ضغوطها على الحكومة السودانية سواء عن طريق إبقائها تحت ضغط عقوبات مصوبة الأهداف على خلفية قضية دارفور، وأيضاً لائحة الإرهاب التي تنص على أن من بين مطلوبات أحد مسارين لإلغاء الإدراج فيها أن يكون هناك تغيير جوهري في قيادة وسياسة الدولة المعنية، ولعل هذا هو ما يثير قلق البعض في النخبة الحاكمة في الخرطوم من أن رفع العقوبات الاقتصادية ليس سوى رأس جبل الجليد لما هو آت، والتمهيد له بالتخفيف على المواطنين والتضييق على السلطة الحاكمة.
khalidtigani@gmail.com