الديمقراطية في السودان (3) Democracy in Sudan (3) ليو سيلبرلمان Leo Silberman ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما ورد في الجزء الثالث (والأخير) من مقال عن تاريخ كتابة الدستور والانتخابات والديمقراطية بالسودان في السنوات التي سبقت وتلت الحكم العسكري الأول، نشر في عام 1958م بالعدد الثالث من المجلد الثاني عشر لمجلة "الشؤون البرلمانية Parliamentary Affairs" التي تصدر عن دار نشر "أكسفورد أكاديميك". ولقد سبق لنا ترجمة مقالين نشرا في نفس المجلة هما "الانتخابات في السودان خلال عهد النظام العسكري" لأستاذ هندي بجامعة الخرطوم، و"الانتخابات العامة في السودان" للقاضي الهندي سوكومار سن والإداري السوداني مكي عباس. والكاتب ليو سيلبرلمان (1925 – 1960م) هو مؤرخ وعالم اجتماع بريطاني تخرج في جامعة لندن. وكان مهتما بالصراع في القرن الأفريقي، وبتاريخ شرق أفريقيا والسودان، وتحليل مجتمعاتها. وله عدد من الكتب والمقالات أهمها كتابه "أزمة في أفريقيا Crisis in Africa" ومقال طويل عن الصراع في القرن الإفريقي بعنوان: "لماذا تم التنازل عن هاود؟ Why the Haud was ceded". وتم استشارته كعالم اجتماع في إنشاء وتخطيط بعض المدن الأفريقية مثل نيروبي ومومباسا وبورت لويس وموريشيوس. يمكن النظر في مقالات مشابهة لهذا المقال مثل مقال البروفيسور البريطاني بيتر وودويرد المعنون "هل السودان قابل للحكم؟ بعض الأفكار حول تجربتي الديمقراطية الليبرالية والحكم العسكري"، ومقال البروفيسور الأمريكي وليام آدمز "عدم المساواة والديمقراطية في السودان عبر التاريخ". أسدى الكاتب في باب "الشكر والعرفان" الثناء على السيدين كي. جي. كروتكي وعثمان عبد السلام (من قدامى موظفي مصلحة الإحصاء) لتقديمهما له بعض النصائح والمقترحات بخصوص كتابة المقال. وبدوري أشكر الأستاذ صديق محمد عثمان لجلبه لي هذا المقال لترجمة بعض أجزائه. المترجم **** **** **** التدخل المصري ربما لم يؤثر كثيرا التدخل (أو الغزو) الذي حدث يوم 16 فبراير 1958م في نتائج الانتخابات، لكنه أكد على خطر الشِّقاق والانقسامات الداخلية، وضاعف من الخوف الكامن والاشفاق المستتر على الديمقراطية. ورفضت القوى الاستقلالية التدخلات المصرية، بل وناشدت حتى الصحف الشيوعية مصر بأن تتعقل. وأغلقت في السودان الصحف المصرية (لعل المقصود هو مكاتب تلك الصحف بالسودان. المترجم). وبدا المشهد بكلياته في ذلك الوقت وكأنه مناورات يصعب تفسيرها، ولا يمكن أن تقود إلا لانسحاب عبد الناصر، كما فعل يوم الانتخابات، بعد أن أحاطت الحكومة الجامعة العربية والأمم المتحدة علما بموعد الانتخابات. وقر عند حكومة عبد الله خليل أن مصر مصرة على اختبار أي ضعف محتمل في حكومته، أو أنها ترغب أن ترى في السودان حكومة مستكينة مطاوعة مهادنة. كان ما حدث في فبراير من عام 1958م هو التالي: عرف البند رقم 2/2 في الدستور الانتقالي حدود السودان كما كانت عليه مباشرة قبل "انتقال السلطة"(immediately before transfer). غير أن اتفاقية الحكم الثنائي في 1899م أوضحت أن حدود السودان الشمالية كانت هي خط عرض 22° شمال. ثم تم الاتفاق بين لورد كرومر ووزير الداخلية المصري في عام 1902م على "حدود إدارية" جديدة. ولم تكن تلك الاتفاقية بحوزة الحكومة السودانية عندما قامت الحكومة المصرية في 1/ 2/ 1958م بصورة مفاجئة بالمطالبة بإلغاء بنود تلك الاتفاقية الأخيرة، والعودة لاتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899م. (ورد في مصادر أخرى أن مصر أرسلت للسودان مذكرة في 29 يناير عام 1958م تحتجّ فيها على نيّة السودان عقد انتخابات في منطقة حلايب باعتبار أنها تتبع لمصر بموجب اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899م. المترجم). وظهرت مسألة الحدود كمسألة معلقة أخرى بين السودان ومصر. وليست هنالك أي أهمية كبيرة لمنطقة حلايب المتنازع عليها، رغم ما يقال عن وجود بعض المعادن بها، والتي قامت شركتان مصريتان بالتنقيب عنها. غير أنه ذكر في بعض الوثائق القديمة أن الفراعنة قاموا في أزمان سحيقة بالتنقيب عن الذهب في تلك المنطقة. وفي منطقة وادي حلفا سيقوم "السد العالي" الجدد بغمر أجزاء من تلك المنطقة بالمياه. وسيجبر ذلك سكان المناطق المتأثرة على الرحيل منها. وفوجئ بعض سكان المنطقة في فبراير من ذلك العام بقدوم ثلاثة بواخر مصرية تجر معها صنادل وهي تحمل هدايا لهم. ولعل ذلك كان من باب الاسترضاء. وكان على ظهر تلك البواخر ضباط في الجيش المصري في لباس مدني، ومعهم أسلحة خبئوها تحت سطح البواخر. واكتشفت القوات السودانية تلك الأسلحة. وأظهر ذلك التدخل حالة التوتر العصبي الحاد الذي أصاب الحكومة المصرية. وسيدرك القارئ بعد قليل السبب في ذلك. يؤمن الكثيرون بأن مصر لا ترى في السودان إلا جزءً من أراضيها الجنوبية. وفي سنوات الحكم الثنائي لم تكن مصر تشير لحكومة السودان إلا بـ "إدارة السودان". وصرح المتحدث الرسمي باسم مصر، حسب ما جاء في الصفحة التاسعة والعشرين من كتاب مكي عباس المعنون "المسألة السودانية"، بالتالي: "لم تغز مصر السودان وتحتلها بالمعنى الذي يفهم من أوروبا وتاريخها. فالاحتلال (أو الفتح بالمفهوم الاسلامي) لبلد آخر لا بد أن يكون لبلد أهلها على غير الإسلام. ولكن ما حدث عند دخول مصر للسودان هو ظاهرة معروفة عند طلاب التاريخ الإسلامي، متعلقة بنقل السلطة من ممالك متعددة، صغيرة ومنقسمة على نفسها، إلى سلطان واحد أكثر قدرة على مقابلة الاحتياجات الحديثة للسكان، وعلى قيادتهم لبلوغ غايات أرفع وأجل. وكان ذلك هو منطق محمد علي في سعيه لبناء سلطة واحدة على كافة أرجاء أرض الآباء". كذلك غضبت مصر من بريطانيا لإجبارها إياها على إخلاء السودان عام 1924م. وكانت مصر، تعد المهدي منذ ظهوره نبيا كاذبا. وهنالك الآن مسألة مياه النيل. وكان قد ورد في "سجلات الإمبراطورية الإسلامية"، التي كتبت في القرن الثالث عشر أن ملك الحبشة قام بالفعل بمنع (أو تحويل) مياه النيل الأزرق عن مصر، حتى استرضاه سلطان مصر بإرسال البطريرك القبطي محملا بالهدايا. وصار الخوف في مصر من فقدان بعض أو كل مياه النيل فكرة ثابتة (idée fixe) في عقول المصريين لا يمكن تغييرها عبر كل العصور. وكان بعض الخبراء الثِقات مثل سي تي بوك والسير صمويل بيكر، منذ عام 1888م، يشاطرون المصريين في تخوفهم من نقص مياه النيل في أي سنة من السنوات. وفي أعوام المهدية فقد المهندسون المصريون مصدر المعلومات التي كانت تأتيهم من مقياس للنيل (Nilometer) كان في الخرطوم. فصاروا في حيرة عاجزة عما سيأتي به فيضان العام من تأثير على كمية المياه التي ستصل إلى مصر. ولما حاول الفرنسيون والبلجيك والاثيوبيون الاقتراب من منابع النيل، ردت بريطانيا بحدة على محاولاتهم تلك. وإن علمنا بأن بريطانيا كانت إبان وجودها في مصر لا ترضى بأن تقترب أي دولة من مياه النيل، وحرصت أشد الحرص على مصالح مصر المائية، فهل تلام مصر على قيامها بذات الدور المدافع الآن؟ ولا يجب أن ننسى أن مصر هي من دفعت تكاليف "إعادة ضم" السودان في عام 1898م. ولم تساهم بريطانيا، وهي في أوج قوتها الاقتصادية، سوى بثلث تكاليف تلك الحملة (والبالغة نحو 800,000 جنيها استرلينيا). وفي هذا الأمر كتب ونستون تشرشل عام 1933م في الصفحة رقم 362 من كتابه "حرب النهر": " ... وتكفلت مصر بدفع بقية المبالغ المطلوبة. فذلك البلد العجيب، يشبه الجمال (التي تعتمد عليها في غالب ثروتها)، والتي لا تلجأ لمصادر الطاقة المعتادة في غذائها، بل تلجأ لما تخزنه في الغرفة الخامسة من معدتها. ويعجب حتى أكثر العارفين بحال مصر كيف أنها استطاعت تحمل غالب تكاليف تلك الحملة رغم وضعها الاقتصادي الحرج". وبقيت مصر فخورة بدورها في (استعادة السودان)، ولكنها لم تغفر لبريطانيا قط وضعها في المَحَل الثّاني أو كما يقال على "المقعد الخلفي" في إدارة السودان. وتابع المصريون بقلق أراضي السودان الزراعية تتمدد من 100,000 فدان إلى مليون ونصف من الأَفْدِنة. ومرة أخرى يقارن تشرشل في صفحة 363 من كتابه "حرب النهر" بين بين دلتا مصر الخضراء الخصبة وبين النباتات والأشجار في السودان، ويرى أن السودان هو "الجذور" وأن مصر هي "السيقان" لنبتة واحدة: "تأتي المياه – وهي عصب حياة الدلتا – من السودان، وتمر عبر مجراها تحمل الطَمْي، الذي تمتصه الأشجار عبر سيقانها فيبدو صلاح ثمارها. واستفادة مصر من تلك المياه القادمة عبر السودان واضحة لا تحتاج لدليل. غير أن مصر لا تستفيد بمفردها. فالفائدة مشتركة بينها وبين السودان، وإذا سلمنا بأن السودان هو من ناحية طبيعية وجغرافية جزء لا يتجزأ من مصر، فيجب أن ألا تعد مصر أقل أهمية لنمو وتطور السودان. فما فائدة الأرض الخصبة والجذور إذا قطعت السيقان، وهي لا تنمو وتزدهر إلا إذا استطالت في الهواء الطلق؟ وهنا يتضح – بكل بساطة وأمانة – سبب قيام حرب النهر، ألا وهو توحيد المنطقتين اللتين لا يمكن أن تظلا منفصلتين إلى الأبد، وأن توحد الشعبين اللذين تعتمد رفاهيتهما في المستقبل على البقاء معا، وأن توحد طاقاتهما سويا من أجل تحقيق مصالحهما المشتركة". وفي قرننا العشرين يجب أن تكون المحيطات، والمياه الإقليمية وحددوها المرسومة، والهواء والفضاء، ومياه الأنهار مصدر وحدة للشعوب ولس مصدر تقسيم وفرقة. هكذا كتب ونستون تشرشل (الليبرالي في شبابه) في أمل، مقللا من شأن الاختلافات في العالم، وعوامل الفرقة والانقسام فيه من عادات متباينة وأعراق مختلفة، ومن تنافس المصالح، خاصة في عالم التجارة الحرة الذي أتى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. وحتى إن تغاضينا عن الخوف المتأصل عند سكان أرض المصب من أن يعمد سكان المنبع إلى إيقاف جريان مياه النيل عنهم، يمكن القول بأن مصر والسودان أخفقتا في الوصول لاتفاق حول ما متوسطه 84 ميليارد متر مكعب من المياه تأتي عبر النيل سنويا. وكانت اتفاقية 1929م قد خصصت 48 ميليارد متر مكعب من المياه لمصر، و4 ميليارد متر مكعب للسودان. غير أن السودان لم يكن طرفا في تلك الاتفاقية (غير المتكافئة) التي عقدت يومها بين مصر وبريطانيا. وفي عام 1955م تخلت مصر عن 8 ميليارد متر مكعب من المياه للسودان. وفي العام الماضي (أي عام 1957م) أبدت مصر استعدادها للتخلي عن 11 ميليارد متر مكعب أخرى مما جملته 81 ميليارد متر مكعب (بحسب الحسابات المصرية) أو 84 ميليارد متر مكعب (بحسب الحسابات السودانية) مما يحمله النيل سنويا من مياه. ومن جانبه طالب السودان بـ 35 أو 28 ميليارد متر مكعب من مياه النيل. وقد تم التوصل لهذين الرقمين بناء على مساحات الأراضي التي يتوقع أن يرويها في أرضيه، أو بحسب عدد السكان، على التوالي. وقام السودان مؤخرا، بخفض مطلبه إلى 18 ميليارد متر مكعب. وما زال المصريون يصرون على أن السودان يبالغ في تقدير احتياجاته المائية. فقد صدر عن وزارة الري السودانية كتيب عام 1955م يعرض موقف السودان من قضية المياه مع مصر، وجاء في الصفحة رقم 44 من ذلك الكتيب عرضا لوجهة النظر المصرية ما نصه: ".... وبما أن السودان ... بالإضافة لما يحصل عليه من أمطار كافية ... الفقدان في القنوات بسبب عدم نفاذية التربة قليل جدا بالمقارنة مع الفقدان في القنوات المصرية ...". وإن علمنا أن جملة ما تستخدمه الدولتان الآن من مياه لا يتعدى 52 ميليارد متر مكعب، وأن الخزان الجديد في الروصيرص لن يحجز سوى 3 ميليارد متر مكعب من المياه، وأن خزان سنار لا يؤثر البتة على نصيب مصر من المياه، إذن لأدركنا أن هنالك بين مصر والسودان ما هو أهم وأبعد مدى من قضية المياه (والتي لا يبدو أنها تنقص أي من القطرين). أرى أن المشكلة الحقيقة بينهما تكمن في استقلال السودان، وفي مستقبل النيل كله، وفي تسويق القطن. وتواجه مصر الآن مشاكل عديدة في بيع قطنها، ويواجه السودان ذات المشاكل. غير أنهما يتوسعان في زراعته، مع غيرهما من الدول الإفريقية. ولا يبدو مستقبل القطن طويل التيلة مضمونا في المستقبل. ولمصر نشاط دعائي ضخم في شرق أفريقيا (القرن الإفريقي) ولها فرع لحزب المؤتمر الأوغندي بالقاهرة – أيعقل ألا يكون لها نشاط مماثل يؤثر على السودان؟ يمكن للسودان أن يعترض على قيام السد العالي حتى يتم حسم أمر تقسيم مياه النيل. فقد كان المصريون على استعداد بالمغامرة بخوض حرب بسبب تمويل بناء السد العالي، وبسبب تأميم قناة السويس، وكانوا مستعدين للقبول بعون السوفيتي من أجل إنشائه. ويمكننا أن نتفهم قلق مصر والسودان في مسألة العلاقات والمياه، وإغراء عبد الناصر وشراءه لأقلام كتاب الصحف السودانية، وسعيه للتأثير على النقابات السودانية وعلى ولاءات نواب البرلمان. ولا بد أن تتحلى مصر بقدر يفوق الحد البشري من ضبط النفس لتبقى ساكنة دون أن تتخل في الانتخابات السودانية، خاصة إن أدركت أن نتائج تلك الانتخابات لن تكون كما تهوى. وستكون حكومة السودان بالغة السذاجة إن لم تخش أو تتحسب من التدخل والتخريب المحتمل، خاصة وهي بلد حديث الاستقلال، وعامر بالاختلافات الأثنية وغيرها، ويعاني من كثير من المشاكل الاقتصادية والمالية. من الانتخابات إلى تعليق الديمقراطية زادت الانتخابات الأخيرة من نصيب حزب الأمة (نال فيها 63 مقعدا في مقابل 52 مقعدا فيما سبق). ولكنه ظل رغم ذلك يحتاج إلى 25 مقعدا ليحوز الأغلبية البرلمانية المطلقة. وكان لا بد له من الائتلاف مع حزب ما ليكون الحكومة. ولم تحرز الأحزاب الصغيرة أي تقدم. ويبدو أن الناخبين قد رأوا أن المنافسة في شمال البلاد هبي بين الأحزاب الثلاثة الرئيسة. وكان لحزب الأمة أصدقاء في الجنوب. وصوت بالفعل عشرة من النواب الجنوبيين لصالح عبد الله خليل كرئيس للوزراء عند اجتماع البرلمان في مارس عام 1958م، وليس للمرشح الجنوبي استاني لاوس بيساما (الذي نال 25 صوتا فقط). ولم يصوت أي نائب جنوبي لصالح إسماعيل الأزهري كرئيس للوزراء. ولا غرو، فقد وقع التمرد في الجنوب إبان حكمه. ونال عبد الله خليل في البرلمان 103 صوتا من جملة 173. وبناء على ذلك خصص لحزب الأمة (ولأصدقائه الجنوبيين) 10 مقاعد وزارية، و6 لحزب الشعب الديمقراطي الذي ائتلف معه (وكان قد نال في الانتخابات الأخيرة 27 مقعدا في البرلمان، في مقابل 39 مقعدا في الانتخابات التي سبقتها). وعين علي عبد الرحمن رئيس ذلك الحزب وزيرا للتجارة والصناعة والتموين. وكان قد سبق ذلك تعيينه عضوا في مجلس الشيوخ. وسبقت اعلان الحكومة لتشكيلتها الأخيرة مفاوضات مطولة بين الأحزاب الثلاثة الرئيسة، واشتراطات عديدة من هذا الطرف أو ذاك (كان من بينها اشتراط حزب الأمة استبعاد العناصر الموالية لمصر في الحزبين الآخرين من أي تشكيل محتمل لحكومة ائتلافية). واختلفت تلك الأحزاب (كما تسرب من اجتماعاتهم المطولة) حتى في مد خط السكة حديد لمناطق في الشرق أو الغرب. فحزب الامة كان يرغب في مد ذلك الخط الحديدي حتى الفاشر، حيث مناطق نفوذه التقليدية في الغرب، بينما كان الحزبان الأخيران يرغبان في مد خط سكة حديد موازي للخط الحالي المتجه شرقا لبورتسودان (حيث مناطق نفوذهما التقليدية). واختلفوا حتى في أمور مثل تسوية القضية الجزائرية وطبيعة العلاقات مع مصر، والتجارة مع اليمن! غير أن تفاصيل تلك الاختلافات لم تعلن لجماهير الشعب، فلم يكن هنالك من الأحزاب من كان يرغب في الإفصاح علنا عن موقفه، سواء أكان مع مصر أو ضدها. وفي مرة من المرات أعرب إسماعيل الأزهري عن رغبته في رؤية بلاده تتبنى دستورا نيابيا على النمط الأمريكي، وليس على نمط ويستمينستر البريطاني. ولم ينس النواب الفائزون في انتخابات 1958م أنفسهم، فبدأوا أول ما بدأوا برفع مرتباتهم من 55 ج إلى 120ج مما أثار حفيظة غالب سكان البلاد. وواصل النواب في تقديم مشاريع قوانين لم تفلح إلا في إغضاب الكثيرين مثل منع العُرْي في الجنوب، والسيطرة على المدارس الكنسية، ومساواة أجور العمال في الشمال والجنوب! (ذكر الكاتب في الهامش أن البرلمان الذي تم انتخابه في 28 فبراير 1958م كان به 43 نائبا جنوبيا، منهم ثلاثة يحملون أسماء عربية، وزعم أن عملية استيعاب جنوبيين في الوظائف التي شغرت بمغادرة المستعمرينSouthernization ، لم تحدث بصورة ملحوظة في البلاد إلا في عالم السياسيين وليس غيرهم. المترجم). وتجاهل أعضاء ذلك البرلمان الأزمة الاقتصادية الحادة التي كانت تأخذ برقاب البلاد والعباد في ذلك العام. فقد انخفضت أرصدة البلاد من 62 مليون جنيه إلى 6 ملايين فقط، وارتفع عجز الميزان التجاري إلى 16.5 مليون. وتواصل الحظر التجاري المصري على البلاد، وبقيت الحكومة متوجسة من فتح باب للمعاملات مع الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا التي تتبع له. وفي ذات الوقت أحجم المستثمرون الغربيون عن المغامرة بالدخول في أي نوع من الاستثمار الجاد بالبلاد، ربما بسبب أزمة السويس التي جعلت الشرق الأوسط برمته – في نظرهم - منطقة غير مستقرة ولا آمنة. وكان السودانيون يأملون أن تلتفت البلاد، بعد أن نالت استقلالها، للتصنيع. وجاءت المعونة الأميركية للبلاد أخيرا، بعد احتجاجات عليها في الاعلام الأمريكي، لأن السودان (متضامنا مع بعض الدول العربية) كان قد أدان التدخل العسكري الأمريكي في لبنان (جاء ذلك التدخل بناء على طلب من رئيس الوزراء اللبناني كميل شمعون في 15يوليو 1985م لإيقاف الحرب الأهلية التي كانت ستنشب بين المسحيين المارونيين والمسلمين في لبنان. وبقيت القوات الأميركية لثلاثة أشهر بلبنان بعد انتهاء عملية "الخفاش الأزرق" كما سموها. المترجم). وامتنع نائب رئيس الوزارة عن التصويت عندما عرض أمر قبول المعونة الأمريكية على البرلمان. وتجاهل وزير التجارة نصيحة وكيل وزارته بخصوص مشروع لمناقشة تبادل تجاري مع الاتحاد السوفيتي للبلاد. وقبلت الحكومة والبرلمان قرضا قدره 39 مليون دولار من البنك الدولي، ولكن بفائدة بلغت 5.5%. وكان البنك الدولي قد اشترط قبل أن يمنح السودان قرضا أن توافق مصر على إقامة السودان لخزان الروصيرص (والذي تبلغ تكاليف إنشائه 42 مليون ج). وقدر ما تحتاجه الخطة الخمسية لتنمية البلاد بمبالغ كانت تفاصيلها: 42 مليون ج لخزان الروصيرص، و35 مليون ج للسكة حديد، و15 مليون للبريد والتلغراف. وبقيت هنالك مشاريع أخرى تنتظر التمويل مثل امتداد المناقل، وإنشاء المصانع، والمدارس.
نهاية النظام الديمقراطي تحدث رئيس الوزراء عبد الله خليل في يوم 13 نوفمبر 1958م عن رغبته في اعتزال العمل السياسي. وكانت صحيفة الأيام، أحد أهم الصحف السودانية (لوقت قصير)، قد وصفت حكومته بأنها "أسوأ حكومة تمر على السودان". وبعد يومين من تصريح عبد الله خليل (15 نوفمبر) قدم ثلاثة وزراء (أحدهم وزير الخارجية) استقالتهم. وفي يوم 17 نوفمبر تم تأجيل جلسات البرلمان. وفي مساء ذات اليوم وقع انقلاب عسكري أطاح بالحكومة المدنية. لقد كانت الطريقة التي جاءت بها الحكومة (الانقلابية) الجديدة ممعنة في البرود واليسر، وكأن الأمر كان مدبرا. وكان الاعتدال الذي وسم الطريقة التي بدأت بها الحكومة الجديدة ممارسة سلطتها سلوكا "سوداني الطابع". فبدأ الحكام الجدد بتهذيب بالغ وتواضع في ممارسة شؤون حكمهم دون اعتقال أحد من الساسة والحكام والوزراء السابقين. وبارك السيدان (علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي) الانقلاب في بيانين أذيعا على الناس ونشرا في الصحف. ولما عين رئيس الحكومة كراع للجامعة، ذكره مدير الجامعة (ونائب الراعي) بمزايا التعيين، وضرورة احترام حرية البحث والتفكير في الجامعة، وهو أمر لا يمكن أن تؤدي أي جامعة وظائفها بدونه. ولكن في ذات الوقت يجب تذكر أن الحكومة الجديدة هي حكومة ديكتاتورية على كل حال، وليست محاسبة أمام الشعب، ولم تعبأ كثيرا برأي الشعب أو حتى بنيل ثقته. وقلصت تلك الحكومة من استقلالية "مفوضية الخدمة العامة"، وتبنت شعارا انصاريا قديما هو "ضد الفساد". كذلك اتهم الحكومة العسكرية الحكام السابقين بتعريض أمن البلاد إلى الخطر، وأدخلت مؤخرا الشيوعيين والمتعاطفين معهم السجون. وفي ذات الوقت أعلنت الحكومة العسكرية عن اعترافها بالصين الشيوعية، وأرسلت الوفود التجارية إلى الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية التي تدور في فلكه، ولكنها قامت بحل جميع النقابات دول تمييز. كان الوضع الاقتصادي للسودان في بداية عهد الحكومة العسكرية سيئا، فقبلت الحكومة بعون البنك الدولي وأمريكا. وفي ذات الوقت عملت الحكومة على سودنة البيوتات التجارية. أما في الجنوب فقد طالبت الحكومة بالإسراع في سودنة جميع مراحل التعليم. وفقد الجنوب التمثيل الدستوري في "مجلس السيادة" الذي كان قد حل هو أيضا. غير أن الوزير سانيتو دينق بقي في منصبه كوزير للثروة الحيوانية. ومع تحول السودان لحكم عسكري بدأت علاقاته مع مصر في الانفراج، إذ رفعت مصر الحظر التجاري الذي كانت قد فرضته على السودان. غير أن مسألة تقاسم مياه النيل بقيت دون حل يرضي الطرفين. وكان أكثر أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة معارضة لمصر هو اللواء أحمد عبد الوهاب (الذي تمت اقالته لاحقا من عضوية المجلس الأعلى ومجلس الوزراء). وكانت السلطة الأولى في البلاد في عهد الحكم العسكري الأول بيد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي كان مكونا من كبار ضباط الجيش. وترك هؤلاء أمر قيادة الجيش لمن هم أصغر رتبة منهم. وبدأ عدد المنتسبين للجيش صغيرا عندما تسنم كبار الضباط السلطة بالبلد، ولكنهم عملوا، عبر سنوات حكمهم، لزيادة عدد الجنود والضباط بالجيش. وترأس الفريق إبراهيم عبود المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو رجل ختمي الطائفة من مدينة سواكن بشرق السودان. وكان ساعده الأيمن هو اللواء حسن بشير نصر (في الاربعينيات من العمر)، ولعله أقرب للحزب الوطني الاتحادي. وكان هنالك أيضا اللواء أحمد عبد الوهاب (وعمره نحو 43 سنة)، وهو قريب من طائفة الأنصار، وله علاقة مصاهرة بعبد الله خليل، وكان في بريطانيا قُبَيلَ قيام الانقلاب في 17 نوفمبر 1958م، يرأس وفدا من الجيش لشراء أسلحة منها. وصدم الأنصار وحزب الأمة في عام 1959م بوفاة زعيمهم السيد عبد الرحمن المهدي. وخلفه في ذلك المنصب ابنه الأكبر السيد الصديق. وبوفاته شعر الكثيرون أن عهدا من تاريخ السودان قد ولى. وأن إزاحة السيدين الأزهري وعبد الله خليل عن المشهد السياسي (ومنحهما معاشا من الدولة) أكدت أنه مهما يحدث في البلاد، فليست هنالك عودة سهلة إلى الأيام التي سبقت 17 نوفمبر. وكان قدامى البرلمانيين قد تعرضوا بالنقاش لضرورة (أو عدم ضرورة) الاسراع بإزالة تمثالي غردون وكتشنر. وقررت الحكومة الجديدة، في وسط مشاغلها العديدة المتنوعة، أن تزيل التمثالين. وبالفعل ازالتهما بطريقة كريمة في احتفال رسمي. ولم يكن للتمثالين بالطبع (وهما يحتلان موقعين بارزين بين القصر الجمهوري ووزارة المالية) مكان في السودان الحديث. غير أن الخرطوم مدينة فقيرة في مختلف أنواع الفنون، خاصة المنحوتات. وستكون الخرطوم أكثر فقرا بفقدانها للتمثالين الذين يمثلان جزءً من تاريخها. وأذكر هنا أن تمثال غردون – بملامحه الدقيقة - وهو يتأرجح برفق على جمله، قد أعدمه – بروعة لا تقاوم - فنان ذلك اليوم!
سواء في بلدان ما بعد الاستعمار وهكذا سقط آخر نظام ديمقراطي عربي. هل هنالك من درس يستفاد في سقوط ذلك النظام؟ أم يجب علينا أن نبدي العجب والتعجب من تلك الدول التي احتفظت بعد نيلها للاستقلال بالحقوق الديمقراطية التي نالوها لمواطنيهم وهم تحت الوصاية البريطانية؟ وعندما تتعرض الوحدة الوطنية، والأمن الداخلي والخارجي، والثقة في الاقتصاد إلى الخطر، هل سيقاوم المسؤول التنفيذي في دولة حديثة الاستقلال اغراء تعليق الدستور؟ هل سيقوم النظام الديكتاتوري حينها بإنقاذ البلاد؟ ومن سيخلف الفريق عبود؟ ينبغي على الدول المستعمرة، والتي تناقش حاليا كيفية كتابة دساتيرها بحيث تغدو أكثر تمثيلا لغالب أفراد الشعب بصورة عامة، أن تعي ذلك الدرس، وأن تعلم أن ما تحتاجه ليس هو النصح في أمور ثانوية مثل كيفية معالجة مشكلتي تسجيل الناخبين، وموازنة سلطات الحكومة المركزية وحكومات والاقاليم في دستور فيدرالي، بل التفكر في اجابات عن الأسئلة ذات الأثر البعيد التي ذكرناها آنفا. ولا شك عندي في أن غياب المناقشات حول تلك الأسئلة الحيوية، ليس فقط في المستعمرات، بل في بريطانيا وأمريكا لهو أمر مقلق حقا. وماذا عن العلاقة بين القوات المسلحة والحكومة؟ وماذا عن الطريقة التي يمكن بها تعليم / تدريب النواب على مناقشة الأمور القومية عوضا عن الانشغال بالتوافه من الأمور الثانوية، خاصة مع وجود أزمات قومية تهم الجميع؟ وكيف لحزب معارضة ينتمي لمنطقة جغرافية معينة أن يتحاشى الأفعال والأقوال التخريبية؟ يجب أن ينصح النواب بالتدرب على التعامل مع تلك الأمور البالغة الحيوية. غير أن تقديم النصح يستلزم، للأسف، علما ومعرفة. والمشاكل التي طرحناها هنا كبيرة وجديدة كل الجدة، للحد الذي لا يمكن أي فرد، مهما علا باعه في العلم والمعرفة، أن يقدم شيئا بمفرده، سوى أن يطرح تلك الأسئلة في الوقت الحاضر.