الجزء الثالث (من 1865 – إلى اليوم -1937م)
The Story of Suakin (Part III- From 1865 to the present time)
J. F. E. Bloss جي. أف. أي. بلوس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما جاء في مقال طويل (من 42 صفحة) نشر عام 1937م بمجلة "السودان في مذكرات ومدونات Sudan Notes and Records " في عددها العشرين، عن تاريخ مدينة سواكن.
وفي هذا الجزء الثالث من المقال يتناول الكاتب جي. أف. أي. بلوس تاريخ المدينة من عام 1865م حتى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. و جي. أف. أي. بلوس طبيب بريطاني (متخصص في الصحة العامة) عمل في مختلف بقاع السودان مثل الخرطوم وبورتسودان وكردفان وشمال السودان وجنوبه بين عامي 1933 و1954م، وتوفي عام 1982م. وللرجل مقالات طبية عن تاريخ مرض النوم بالسودان، والتغذية عند القبائل النيلية وغير ذلك من موضوعات الصحة العامة.
ومنحت عائلة الكاتب مخطوطات كل مذكراته وصوره وأفلامه التي أنجزها في غضون سنوات عمله بالسودان لجامعة درم البريطانية.
المترجم
**** ****
منح الفرمان الذي أصدره سلطان تركيا للخديوي إسماعيل في عام 1865م ولديه حق وراثة السلطة من بعده، وأعطى مصر حق السيطرة على مينائي مصوع وسواكن، في مقابل دفع ضريبة سنوية إضافية. وكانت سنوات عهد الخديوي إسماعيل الباكرة سنوات رخاء غير مسبوق، أغرته بالإفراط في الاستدانة من أوروبا دون صعوبة تذكر. غير أن مشاريعه الفائقة الطموح وسوء إدارته لاقتصاد بلاده وثرواتها عجلت بإيصال مصر إلى درك الإفلاس، حتى أضطر إلى بيع أسهمه في قناة السويس للحكومة البريطانية.
وكان ميناء سواكن شديد الأهمية لمصر، ولا غرو، فقد كان هو الميناء الوحيد في السودان، وله موقع مركزي مميز للتجارة القادمة لمصر من الهند والحبشة والجزيرة العربية واليمن، وكان الميناء الوحيد للحجاج السودانيين والقادمين من غرب أفريقيا. لذا عمدت الحكومة المصرية لتطوير ذلك الميناء ومدينته قدر استطاعتها، وفي غضون الخمسين عاما التالية سمقت أهمية ذلك الميناء وعظم شأن المدينة.
وتم تعيين ممتاز باشا أول حاكم لميناء سواكن في بدايات عام 1866م. وفي عهده نما وتوسع العمران بالمدينة، وبنيت كثير من المنازل الجديدة، وصينت القديمة منها، كان من أشهرها مبنى "المديرية / المحافظة". وأدخل ممتاز باشا أيضا زراعة القطن في دلتا بركة، بعد أن استأجر الأرض من شيوخ المنطقة، ومنحهم بذور القطن ومعينات الزراعة الأخرى. وأتفق معهم على أن تنال الحكومة نصف القطن المنتج شريطة أن تخصم تكاليف البذور والمعينات الأخرى من النصف المتبقي، وتكفلت بحلج وتعبئة القطن المنتج في سواكن.
وقدم إلى سواكن العديد من التجار المصريين، وأقاموا لهم منازل ضخمة فخمة البناء، لم يقم أحد بصيانتها منذ أن أنشئت، بعد أن أفلس أصحابها، وكانت النتيجة أن غدت تلك المنازل غير صالحة ولا آمنة للسكن.
ومع تطور المدينة ونموها توسعت التجارة إلى حد ما، غير أن طلب مصر المستمر للأموال أجبر الحاكم على فرض ضرائب عالية وجمارك باهظة. وأدى عدم انتظام الشحن إلى حجز البضائع وتراكمها في الميناء مما أدى إلى ارتفاع تكاليف التخزين، وتقليص التجارة. وعلق بيكر أثناء مروره عبر سواكن في 1865م على امكانيات ميناء المدينة الكبير التي يعيقها عدم انتظام الشحن (المقصود هو الإنجليزي صمويل بيكر 1821 – 1893م، الرحالة المستكشف والضابط وحاكم جنوب السودان وشمال يوغندا. المترجم).
وخلال الحملة البريطانية على الحبشة عام 1868م تَسَاءلَ البريطانيون عن أفضل الطرق لإيصال المؤن للقوات، واستقر رأيهم على أن سواكن تَفْضُلُ عَلَى مصوع في هذا الجانب. فكانت تلك المؤن تنقل من ميناء سواكن إلى كسلا على ظهور الجمال في رحلة تستغرق حوالي 16 إلى 20 يوما.
ثم زار بيكر سواكن مرة أخرى في 1869م ولاحظ هذه المرة أن عدد سكان المدينة لم يعد يتجاوز 8,000 نسمة، وهو عدد يقل كثيرا عن العدد الذي كان بالمدينة عند بدء الاحتلال المصري. وكان بيكر قد قدم للمدينة على ظهر مركب شراعي مصري، وأقام مع ممتاز باشا في داره. وفي ذات العام تم افتتاح قناة السويس، وغدا البحر الأحمر هو "الطريق السريع" للسفن المتجهة شرقا. وبدا أن أهمية ميناء سواكن ستتضاعف بسبب تلك الظروف الجديدة، وستكون قبلة التجار المصريين والأوربيين.
وزار سواكن أيضا ساوثويرس (المقصود هو الرحالة البريطاني الفانس س. ساوثوويرس، ومؤلف الكتاب الشهير Four thousand miles of African travel. المترجم) في عام 1872م، وتحدث عن إمكانيات مينائها، وأشار إلى أن الخديوي اشترى ميناءها من تركيا، وكيف أنها غدت ميناء السودان الأوحد. وفي ذلك التاريخ دخلت خدمة البَرْق (التلغراف) مدينة كسلا، واستقرت قبائل البجا في البر الرئيس (mainland) وأقاموا به قرية كبيرة.
وتشهد المباني العالية الضخمة التي شُيدت على الشاطئ بالحجر الجيري والمرجاني على إزدهار التجارة في ذلك الميناء. وكان الكاتب ريجبي، فني الكهرباء والمسئول عن البَرْق، قد طاف بالرحالة ساوثويرس وجماعته على معالم المدينة، وأظهر لهم كل الترحاب والرعاية والكرم. وأشار ساوثويرس في كتابه عن تلك الرحلة أن لسواكن تجارة متواضعة مع السويس وجدة ومصوع، وأن الخديوي كان قد بعث بآلات ضخمة لترحل إلى شاطيء نهر أتبرا لإقامة محلج للقطن، بينما كانت أرصفة الميناء تمتليء بالقطن.
وبعد مضي نصف عام على زيارة ساوثويرس أقبل على سواكن دي كوسون (المقصود هو ايميلس ألبرت دي كوسون، 1850 – 1889م، الرحالة البريطاني الذي عمل جنديا في سلاح النقل بسواكن في 1885م. المترجم) على ظهر الباخرة كوسير Kossier، وقابل حاكم المدينة، ورجلا عربيا اسمه أحمد أفندي، وعبروا إلى داخل المنطقة بواسطة هورى (لعله نوع من المراكب)، إذ لم تكن هنالك طرق معبدة. ولاحظ دى كوسون أن رصيف ميناء سواكن كان مكتظا بكميات كبيرة من القطن المتعفن تركت مهملة تحت شمس سواكن اللافحة في انتظار الشحن والنقل إلى السويس. وكتب يلوم من ترك، بإهمال وكسل بالغين، آلة بخارية ضخمة وصلت للميناء من مصر وتنتظر الترحيل إلى كسلا عبر الصحراء. وزعم الرجل أن سواكن ستكون ميناءً عظيماً لكل صادرات وواردات السودان إن قيض الله لها حاكما نشطا، لا سيما والسودان قُطر غني بالموارد الطبيعية مثل الجلود والسنامكي والعاج وعسل النحل، بالإضافة للقطن والصمغ العربي.
ولم تكن هنالك بالميناء من باخرة خلا باخرة دي كوسون وقليل من المراكب الشراعية الصغيرة التي كان يستخدمها بعض الأعراب في التجارة بين سواكن وجدة ومصوع. وعندما كان دي كوسون وجماعته على شاطيء الميناء قاموا باختبار بنادقهم وأطلقوا بعض الأعيرة النارية. ومن الطريف أن واحدا من الأهالي أسرع بإعادة رصاصة من تلك التي أطلقتها مجموعة دي كوسون، وزعم أنها اخترقت خيمة أحد كبار شيوخ المنطقة وأنه يطلب عَطيَّة (بقشيشا) نظير إعادته لها.
وتفاوتت أرقام حجم التجارة التي عبرت ميناء سواكن، فقد أظهر كتاب الإحصاء المصري السنوي الصادر عام 1872م أنه لم تغادر ميناء سواكن سوى 18 باخرة بلغت حمولتها الكاملة 4,331 طنا. وشملت تفاصيل تلك الحمولة 3,460 قنطارا من الصمغ العربي أرسلت إلى السويس، و13,670 قنطارا إلى جدة، التي أرسل إليها أيضا 30,042 كيلوجراما من العاج (ثمنه 54 قرشا للأقة)، و4,514 أردب سمسم (سعر أردبه بين 70 – 140 قرشا). وتشي تلك الأرقام بضعف اِنتاج ذلك العام. وذكر البريطاني وايلد (هو أ. ب. وايلد، أحد ضباط الجيش البريطاني. المترجم) والمقيم بعدن في عام 1874م أن التجار في سواكن ومصوع كانوا وكلاء استيراد وتصدير للبيوتات التجارية في جدة، ولا يعملون بغير تجارة الرقيق، الذي كانوا يقومون بتصديره بطريق غير مباشرة للقاهرة والقسطنطينية، ولم يكن هنالك إلا عدد قليل جدا من العاملين في تجارة حقيقية مشرفة. غير أن الطلب على الرقيق كان كبيرا جدا، ولم يتورع حتى كبار المسئولين من حشو جيوبهم بالمال من ريع تلك التجارة، التي ظل الخديوي يعد باستئصالها.
ولم تكن هنالك تجارة قائمة بين السودان والقارة الأوربية قبل قدوم التجار الأغاريق والكروات والصرب. وكان كل العاج القادم من دارفور وكردفان يُرسل إلى سواكن، حيث يستقبله التجار الإنجليز أو وكلاؤهم الهنود. ولا تفرض عليه أي جمارك عند نقله من الميناء بقوارب صغيرة لسفن أكبر تتجه إلى الهند. وبالإضافة لذلك كان العاج يصدر أيضا لمصر وأوروبا. وكان نقل شحنة العاج من الخرطوم إلى لندن عن طريق سواكن يستغرق ستة أسابيع كاملة، ورغم ذلك فهو أرخص طرق النقل. وظلت المنتجات المصدرة عبر سواكن ولسنوات طويلة هي العاج والصمغ العربي والقهوة الحبشية، والذهب من سنار، والسنامكي وريش النعام من دارفور وكردفان، والجلود من كسلا، والقطن وزيت السمسم والأبقار من قبائل محلية مختلفة. وزادت الواردات بالطبع، وشمل ذلك البضائع الأوربية مثل السكر والشموع والصابون والأرز والأقمشة من مانشستر، والأواني المنزلية والبضائع المعدنية من بيرمنجهام. وتنقل تلك البضائع من ميناء سواكن بقوافل الجمال إلى بربر وكسلا، اللتين كانتا تعدان مركزا التوزيع لكل أجزاء السودان والحبشة.
وكانت تلك القوافل تغادر مدينة سواكن مرة كل ثلاثة أشهر من مبنى يسمى "الوكالة" (تسمى أيضا كرفان سرايا). و"الوكالة" هي أكبر مبنى بالمدينة، وكانت تتكون من غرف عديدة للتجار ومخازن واسطبلات ضخمة. وقد قام ببنائها الشناوي بك، أحد كبار تجار سواكن في عام 1881م مستخدما المسترقين المسخرين. ولم يكن الشناوي في بداية أمره إلا موظفا حكوميا صغيرا يتقاضى راتبا شهريا لا يزيد عن جنيه ونصف. وكان يقبل على تلك الوكالة طائفة كبيرة من سكان المدينة ليشهدوا عمليات تحميل جمال القوافل (والتي كان يبلغ عدد جمال الواحدة منها من 500 إلى 1,000). وأقبل إلى سواكن جيسي (المقصود هو الضابط والرحالة الإيطالي رومولو جيسي باشا، الذي عاش بين 1831 و1881م، والذي عينه غردون حاكما لجنوب السودان بعد أن كان قد عرفه أثناء حرب القرم. المترجم) على ظهر مركب بخاري اسمها "الزقازيق" في أبريل من عام 1874م، في معية عددٍ من موظفي الجنرال غردون، ومهندس فرنسي وممثلة كوميدية فرنسية. وكان غردون نفسه قد لاحظ تعفن البضائع على رصيف ميناء سواكن وهي تقبع تحت الشمس في انتظار التصدير أو الترحيل لبربر أو كسلا. ولاحظ أن (التجار) المصريين يستدينون الأموال بمعدلات كبيرة، وبأسعار فائدة فاحشة قد تصل إلى 30%، ولا يحاولون تقليل مصروفاتهم قط. وكانت السفن والبواخر كثيرا ما تتحاشى غشيان ميناء سواكن لعدم ضمان وجود بضائع تحملها من هناك عند عودتها. غير أن الأحوال تغيرت تدريجيا بعد أن زاد الطلب المحلي على المنتجات المستوردة. ومع إزياد حركة تجارة الاستيراد والتصدير انتعشت الحركة التجارية بالبلاد عموما بين عامي 1874 و1883م، وبلغت سواكن في تلك الفترة ذروة عظمتها.
ونشر دكتور ويلهام جينكر (1840 – 1892م) كتابا بعنوان "رحلات في أفريقيا Travels in Africa" وصف فيه مدينة سواكن بأنها "ابنة البحر"، فهي محاطة بمياه البحر، وبيوتها مبنية من الحجر الجيري المرجاني، وتعتمد في معيشتها على الميناء .... وهي الميناء الوحيد في شرق السودان، لذا فهي تتمتع بازدهار كبير، ولا غرو، فدخلها من جمارك التصدير كان يبلغ سنويا أكثر من 60,000 جنيه إسترليني. وأهم ما كان يصدر عبر ميناء سواكن هم الرقيق .... وذم الكاتب حاكم سواكن وقال إنه قد جمع في شخصه كل صفات "الطاغية الشرقي" المرذولة.
ويعيش في الجزيرة ذلك الحاكم وأعضاء حكومته والتجار من الأوربيين والمصريين وزعماء القبائل المحلية. وعلى القيف (Geyf) أقيمت بيوت الأهالي والسوق، والذي خصص فيه شارع كامل للحلاقين الذين يقومون بحلق شَّعْرُ رجال البجا الزائرين للمدينة. وبالمدينة أيضا طبيب يقوم بين حين وآخر بفرض حجر صحي على البضائع القادمة من الشرق. عمل سينجور كونتي طبيبا في ميناء سواكن في عام 1874م، وكان أكثر ما يخشاه هو انتشار أوبئة الكوليرا والطاعون والجدري.
وبُعَيْدَ الاحتلال المصري للميناء، وُضع ساحل البحر الأحمر بكامله تحت إدارة حاكم واحد، وأُقيم مركزه في مصوع، بينما بقي نائبه في سواكن. وحل منزينقر بك محل ممتاز باشا في عام 1872م عند ذهابه لمصوع، وحل علي رضا باشا محل منزينقر بك في 1877م.
وفي عام 1877م عُين الجنرال غردون حاكما عاما على السودان. وجاء – للمرة الثانية - للخرطوم عبر سواكن. وفي زيارته الثانية أمر ببناء طريق معبد بين الجزيرة والبر. وبالفعل قام عمال من سجناء المدينة ببناء ذلك الطريق في نحو ستة أشهر في 1879م. وذكرت السيدة اسبيدي أنه لم يكن هنالك طريق معبد بين الجزيرة والبر في فبراير من عام 1878م، ولكن عند عودتها في يوليو من ذات العام كان ذلك الطريق معبدا (المقصودة هي البريطانية كوراينا ماري اسبيدي مؤلفة كتاب "جولاتي في السودان My Wanderings in the Soudan" والتي قضت بسواكن أياما قليلة في عام 1878م وهي في طريقها إلى كسلا لقضاء جزء من شهر العسل مع عريسها. ومكثت السيدة اسبيدي وزوجها أياما في ضيافة علي رضا باشا نائب الحاكم. ووصفته في كتابها بالبخل الشديد لتخصيصه لهما غرفا لا أثاث فيها، ودون توفير أي وسيلة لغسل الملابس. ووصفته بالكسل أيضا، إذ لم يكن يؤدي أي عمل طوال الأسبوع، ويقوم يوم الجمعة بقيادة موكب كبير للمسجد لأداء الصلاة الأسبوعية، ثم يقضي باقي اليوم في البيت يدخن الشيشة بلا انقطاع.
ومر دكتور ويلهام جينكر مرة أخرى عبر سواكن في ديسمبر من عام 1879وهو في طريقة لجنوب السودان، ولاحظ تحسنا ملحوظا في الميناء والمدينة، فقد رُصف مدخل الميناء بكتل مرجانية بيضاء تبهر الناظرين، واكتمل الطريق المعبد الخارج من الميناء للبر، وكانت شركة راباتينو للنقل تقوم برحلات شهرية منتظمة إلى سواكن والحديدة والسويس وجدة. واستقر في الميناء تجار إيطاليون وألمان وفرنسيون.
وأعلن الخديوي في عام 1881م عن إنشاء "شرق السودان" مديرية منفصلة ومستقلة عن باقي السودان، لها "حاكم عام" خاص بها، وعين علاء الدين باشا حاكما عاما لها بدءً من عام 1882م. وفرح الناس في سواكن فرحا شديدا بذلك التغيير، فقد كان علي رضا باشا مُبْغَضا من الأهالي. ووصف ف. ل. جيمس ، والذي كان واحدا ممن أتوا على ظهر السفينة التي حملت نبأ تغيير الحاكم، مظاهر الفرح الغامرة التي غمرت الأهالي والأجانب بالمدينة. وذكر أنه ومن معه كانوا ضيوفا على الحاكم، ولم يكونوا مضطرين للاقامة في فندق حقير صغير يملكه أحد الأغاريق اسماه "فندق السودان Le Hotel du Soudan"، غير أنهم أضطروا لإرسال ملابسهم إليه لتقوم زوجة ذلك الإغريقي بغسلها في مقابل سعر باهظ بلغ دولارين لكل دستة من الملابس ، صغرت أم كبرت.
وزار دكتور جوزيه ويليامز سواكن في ديسمبر من عام 1881م، وشاهد نحو تسعة أطنان من العاج في الميناء تنتظر الشحن والتصدير. ورأي أيضا ستين رجلا عربيا يجولون في الأسواق وأرجلهم مقيدة بالسلاسل. وعند السؤال تبين له أن أولئك الأعراب كانوا بين مجموعة أكبر من الرجال قدمت إلى سواكن لمبادلة ما كان معهم من الإبل، غير أن السلطات استولت على إبلهم لعدم قدرتهم على دفع ما عليها من مكوس. وأضطر اولئك الرجال لدفع مبلغ مئة دولار لمن سجنهم ليسمح لهم بالتجول في المدينة والبحث عن طعام يسد رمقهم. ولما عين علاء الدين باشا حاكما جديدا (في مكان علي رضا باشا) أمر بإطلاق سراحهم.
ومع ارتفاع وتيرة الحركة التجارية بسواكن، والغلاء المتصاعد لتكلفة النقل بالجمال من سواكن لبربر وكسلا (والذي وصل إلى 14 جنيها للرحلة في الإتجاه الواحد) بدأ تفكير المسئولين بالمدينة في إقامة خط سكة حديد يربط سواكن مع مدن البلاد الداخلية. وكان التفكير في إقامة ذلك الخط قد بدأ منذ عام 1877م، وعرض على غردون في سنوات لاحقة، ولكن عارض الفكرة بعض الأجانب بدعوى أن ذلك الخط الحديدي سيلحق الضرر بالأهالي، رغم أن الأهالي أنفسهم كانوا يؤيدون إنشاء ذلك الخط (لم يشر الكاتب للكيفية التي تم بها استطلاع آراء أولئك "الأهالي". المترجم). وأقترحت لجنة فنية مصرية أن يمر الخط الحديدي المقترح من سواكن إلى كسلا ثم إلى قوز رجب ومنها للخرطوم. وكانت ميزة ذلك الخط الحديدي المقترح أنه يمر بمناطق إنتاج القطن. غير أن المعترضين أشاروا إلى صعوبات فنية جمة تعترض إقامة ذلك الخط. ثم أقترح أن يمتد الخط الحديدي من القاهرة إلى الخرطوم محاذيا للنيل. ولكن سرعان ما تم التخلي عن ذلك المقترح بعد أن روجعت التجارب السابقة عند إنشاء خط حديد من القاهرة لأسوان. وأخيرا أقترح أن يمتد الخط الحديدي من سواكن إلى بربر ومنها إلى الخرطوم. وكان ذلك الخط الحديدي هو أقل الخطوط المقترحة صعوبة من الناحية الفنية. واختتمت اللجنة الفنية تقريرها بالجملة التالية: "وفي الختام ترى اللجنة أن إنشاء ذلك الخط الحديدي من سواكن إلى بربر ضروري جدا لرفاهية وتقدم السودان".
ولم تنفذ توصيات تلك اللجنة بإقامة الخط وذلك لعدم الاستقرار الذي بدأ ينتشر في أصقاع البلاد، وظهور عثمان دقنة في مشهد الأحداث بشرق السودان. وبدأ تأثير ذلك الرجل، ومنذ عام 1883م، يُحس في سواكن.
وكان عثمان دقنة قد بدأ يحرض الأهالي على التمرد منذ عام 1877م عندما صادرت باخرة حربية بريطانية اسمها H.M.S. Swan من ميناء شيخ برغوث (مكان ميناء بورتسودان الحالى الذى يتقدمه قبر يُزعم أنه للشيخ برغوث – المترجم) أحد قواربه الممتلئ بالرقيق. وكان فقدانه لذلك القارب وحمولته مصدر صدمة قوية له. وتمت بعد ذلك مصادرة أملاكه في سواكن وجدة، وسُجن مع إخوانه الثلاثة. ثم عمل بعد إطلاق سراحه في توريد المياه لمحلج للقطن يملكه رجل اسمه الياس دباس. غير أنه استمر في الهجوم على الحكومة، وفي تأليب بعض أصدقائه ومعارفه عليها بخطبه الثورية. ورفض معظم هؤلاء ما كان عثمان دقنه يقوله لهم، إذ لم يكن معروفا عندهم بالأمانة. وطُرد الرجل في 1878م إلى بربر، ولكنه كان يأتي أحيانا لسواكن لقضاء بعض المهام التجارية. وقدم على سواكن في عام 1882م ومكث فيها ستة أشهر، جمع في غضونها حوله ثلة من الناقمين على الحكومة، والذين أقسموا له يمين الولاء لمجابهتها بشتى السبل. ثم انتقل عثمان دقنة إلى الأبيض بعد سماعه لنبأ سقوطها في يد المهدي، وبايعه على السمع والطاعة فنصبه المهدي أميرا على شرق السودان، وزوده قبيل أوبته لسواكن بعدد كبير من الرسائل التي تؤيد مهديته وتذكر عجائب كراماته وانتصاراته.
ولم يكن لعثمان دقنة أنصار كثر بين قبائل تلال البحر الأحمر، غير أنه في عودته الأخيرة بعد مبايعة المهدي لقى الرجل - للعجب - ترحابا وتأييدا كبيرا عند أفراد تلك القبائل ، ومن الزعيم الديني الأكبر في المنطقة الشيخ الطاهر المجذوب. وما إن أتى شهر أغسطس من عام 1883م حتى كان عثمان دقنة قد جمع عددا كافيا من الرجال المقاتلين لمهاجمة سنكات، وكانت بها الحامية (القلعة) الرئيسة في طريق سواكن – بربر. وقصة الثورة في شرق البلاد معروفة للجميع وليس هنالك من داعٍ لتكرارها هنا (وتجد في كتاب "التاريخ الرسمي لحملات السودان بين عامي 1884 – 1885" لمؤلفه كولفيل Colville، جانبا منها). ولقي عثمان دقنة الهزيمة في المعارك الباكرة التي خاضاها، مما أدى لانفضاض عدد من المقاتلين من حوله وفقدانه لشعبيته وسمعته باعتباره قائدا حربيا مؤزَّرا.
ووصل سواكن في نوفمبر من عام 1883م سليمان باشا نيازي بعد أن عين حاكما عاما لشرق السودان. وفي طريقه لسواكن توقف الرجل في مدينة سنكات، بعد أن أمر بتسيير جنود من حامية سواكن لسنكات لزيادة تأمينه في المدينة أثناء وجوده بها. غير أن تلك الحملة تعرضت وهي في طريقها لسنكات لكمين نصبه لها من تبقى لعثمان دقنة من جند، وتم القضاء على كل رجالها. وبقي سليمان باشا نيازي في حماية من كان بسنكات من جنود الحكومة. وأعاد ذلك الانتصار لعثمان دقنة هيبته وسمعته قائدا منصورا لجيش أنصار المهدي، فانضم لصفوفه قاضي سواكن مع آخرين من علية القوم فيها، وتوجه من بعد ذلك بجيشه نحو طوكر (يمكن معرفة المزيد عن مؤيدي عثمان دقنة في مقال التاجر النمساوي جودو ليفي المترجم المعنون " ستة عشر يوما في معسكر عثمان دقنة" وكتاب الإداري البريطاني هنري جاكسون عن الرجل. المترجم).
وتوجه السيد مونكريف القنصل البريطاني في سواكن وجنوده برفقة محمد طاهر من سواكن إلى ترنكتات في محاولة لإنقاذ طوكر. غير أن أنصار عثمان دقنة أفلحوا في الإنقضاض على مونكريف وجنده وقضوا عليهم جميعا. وحلت بجنود الحكومة في سواكن هزيمة أخرى، فقد بعث سليمان باشا نيازي في منتصف نوفمبر بحملة سيئة التوقيت والإعداد لإنقاذ سنكات، غير أنها تعرضت أيضا لكمين نصبه لها أنصار عثمان دقنة وقضوا عليها تماما عند آبار تاماي. وتدهورت الأحوال في سواكن بعد ذلك من سيء إلى أسوأ. وبقيت دفاعات المدنية تعتمد على نحو 300 فرد من جنود مشكوك في ولائهم للحكومة، وعلى قلعة حربية صغيرة قرب سوق للأهالي، ومدفعين من نوع "كروب" وثلاثة مدافع جبلية وبنادق عتيقة من عهد الملك جورج الأول. وبالقرب من تلك القلعة كان هنالك السجن، وهو مبني من الحجارة والطين، وبه ثكنة للجيش. وكان يرسو على شاطئ الميناء زورقان مصريان عليهما مدفعان، غير أنهما كانتا تستخدمان سكنا لاثنين من الباشوات المصريين آثرا العيش في القاربين طلبا للحماية والأمان، وهجرا سكنهما المريح في بيوت سواكن.
وأنقسم الأهالي لفسطاطين فيما يتعلق بثورة عثمان دقنة ضد الحكومة. فالغالبية العظمى كانت تقف في صف الحكومة رغم فقرها. ولا عجب، فأمنهم ومعائشهم كانا يعتمدان على وجود تلك الحكومة، ونجاح "الدراويش" في إسقاطها سيفقدهم بلا ريب مصدر أمنهم وعيشهم. أما بريطانيا فقد وقفت ضد ما كان يجري في السودان من تمرد، وحثت الحكومة المصرية على الإسراع بإخلاء الحاميات ودعوة تركيا للقيام بدورها في حماية موانئ البحر الأحمر. ووعدت الحكومة البريطانية بإرسال الأسطول الهندي لحماية موانئ البحر الأحمر، خاصة سواكن. فقدمت لسواكن السفينة البحرية H. M. Ranger في يوم 16 نوفمبرلحراسة مينائها، وكان وجودها مصدر إرتياح عظيم لدى سكان المدينة. ثم أتت سفينة بحرية بريطانية أخرى هي H. M. Woodlark في نهاية نوفمبر، وتبعها زورق حربي اسمه Coquette. وفي ذات الوقت أرسلت لسواكن تعزيزات عسكرية من مصر بقيادة العقيد هارينتون. ورغم كل تلك الإجراءت فقد ساد الترقب والخوف القادة المصريين في المدينة.
وزار المدينة اللواء سارتوريس على ظهر السفينة S.S. "Eldorado” ترافقه زوجه (ايرنستين إيزبيلا سارتوريس) وابنته بالتبني في يوم 12 من شهر ديسمبر. وسجلت السيدة سارتوريس في كتاب نشرته في عام 1885م بعنوان "ثلاثة أشهر في السودان Three months in the Soudan " بعض الملاحظات عن الحياة في سواكن المحاصرة. وكتبت عن مبنى "الوكالة" الذي كان يضم كما هائلا من البضائع المستوردة من مانشيستر التي تبلغ قيمتها ربع مليون من الجنيهات وقد بدأت تفسد، وعن الجنود المصريين الذين كانوا يحرسون بوابة الميناء وهم في حالة من الهزال والوهن الشديدين، ويرتدون أَسْمالا بالية. بينما كان السجناء في سواكن أفضل حالا من غيرهم، فقد كانوا يعيشون في حالة كسل ورغد (نسبي).
وضربت مثلا بحالة سيد قنديل (لعله أحد قادة ثورة عرابي المصرية، والذي نفي لسواكن بعد فشل تلك الثورة. المترجم) والذي كان مسجونا في سواكن لقيادته مظاهرة في الإسكندرية، وكان له في السجن طباخ خاص وعبدان يقومان على خدمته، وكانت ملابسه من الحرير الخالص، ويشاهد في الليل يلعب الورق مع زملائه السجناء ويحتسي معهم القهوة والبراندي. وكان تفسير مديرالسجن لكل ما يجري في سجنه هو أن هؤلاء السجناء كانوا قد تعودوا على نوع حياة معين طوال حياتهم، وهو لا يرى ضيرا في أن يواصل سجناؤه العيش في سجنه كما يحلو لهم شريطة أن يبقوا فيه ولا يحاولوا الفرار منه. وكتبت السيدة سارتوريس عن تمرد للباشبوزق المصريين ورفضهم القيام بتدريبات عسكرية حتى قام اللواء سارتوريس بجلدهم، ففعلوا ما أمروا به.
ولا عجب إذن، والأحوال كما وصفنا في سواكن، أن خشي الأهالي على أنفسهم من سقوط المدينة في يد "الدراويش". ولو قدر لعثمان دقنة مهاجمة سواكن في تلك الأيام لأفلح دون ريب في الاستيلاء عليها دون صعوبة تذكر. غير أن وصول الجنود البريطانيين مع تعزيزات جديدة من المصريين أنقذ سواكن من ذلك المصير. وكانت السفن الحربية البريطانية تستعرض قوتها بإطلاق قذائفها في الهواء كل ليل. وأثار ذلك في البدء بعض الخوف في نفوس أهالي المدينة، ونفوس جيش "الدراويش" الذي كان يعسكر حولها.
غير أن تكاثر أعداد الجنود في سواكن أثار مشكلة جديدة هي توفير الطعام لكل تلك الأفواه. وأضطرت السلطات لمصادرة أبقار المواطنين بعد دفع قيمتها لأصاحبها. وشجع ذلك لاحقا أصحاب البهائم على جلب المزيد من أنعامهم للمدينة وبيعها للحكومة والأغنياء من السكان.
وتعاقب وصول القادة الانجليز للمدينة، فحل بها الأدميرال هيوت علي ظهر السفينة H.M.S. “Euryalus في 16 ديسمبر، وتلاه اللواء بيكر بعد أسبوع. وأقيم بالمدينة في عيد الميلاد من عام 1883م عرض عسكري كبير، أعقبه يوم رياضي للاعبي الكريكيت والتنس. وفي يوم 31 ديسمبر قام كبير عائلة الميرغني بزيارة سواكن، حيث أقيم على شرف وصوله حفل استقبال ضخم. ولما كان الميرغني عدوا لدودا للمهدية، فقد كان البريطانيون يأملون في أن يستميل رجال القبائل المحلية للوقوف ضد عثمان دقنة غير أنه أتضح لاحقا أن نفوذ الرجل في أوساط الأهالي خارج سواكن كان ضعيفا.
alibadreldin@hotmail.com