حريق برج قرينفيل في لندن.. رب صدفة ضارَّة

 


 

 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk

قد لا يعني اسم قرينفيل شيئاً كثيراً أو قليلاً عند الشَّعب السُّوداني اليوم، وبخاصة المحدثين من الشباب. ففي ليلة 14 حزيران (يونيو) 2017م نشب حريق هائل في برج قرينفيل في وسط مدينة لندن راح ضحيَّته عدد غير قليل من النَّاس، بما فيهم مواطنون سودانيُّون. ومن هؤلاء الضحايا – على سبيل المثال لا حصريَّاً – فرح وعمر حمدان وطفلهما البالغ من العمر ستة أشهر، ورانيا إبراهيم (30 سنة)، وعبد العزيز الوهبي (52 سنة) وزوجه فوزيَّة الوهبي (42 سنة) وأطفالهما الثلاثة: ياسين (21 سنة) ونور هدى (15 سنة) ومهدي (ثمان سنوات)، وفتحيَّة السنوسي وابنها أبو فراس (38 سنة) وابنتها يسرى إبراهيم (35 سنة)، وحامد كاني (61 سنة). وحسبما جاء في الإحصاء الأخير فإنَّ العدد الإجمالي للضحايا كان قد بلغ 80 شخصاً. فقد تعدَّدت الروايات والرواة عن مسبِّبات هذا الحريق المأساة، فمنهم من ذهب قائلاً بأنَّ الشرارة الأولى لهذا الحريق الجهنَّمي قد انطلقت من ثلاجة بها عطب كهربائي؛ ومنهم من استطرد قائلاً بأنَّ المسبَّب الرئيس للحريق نشأ من جرَّاء عطل كهربائي في البرج نفسه، حيث اشتكى ساكنو البرج مراراً وتكراراً لمجلس بلديَّة كينسيغتون وتشيلسي ومنظَّمة إدارة الإيجار من رداءة خدمات السلامة في البرج، ولكن لم تعرهم سلطات بلديَّة المدينة أي اعتبار، حتَّى تداعت الأشياء، وجاء ما لا يُحمد عقباه، مما أخذت الشرطة البريطانيَّة تعد ضحايا ذلكم الحدث الفاجع بأنَّ هناك ثمة جريمة ارتكبت مما يستدعي تقديم المتَّهمين – أفراداً كانوا أم شركة – للقضاء تحت تهم الإضرار بسلامة المواطنين والقتل غير العمد.
مهما يكن من شأن هذا الأمر، إذ يقع برج قرينفيل في حي كينسيغتون. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ كينسيغتون هي عبارة قصة مدينتين: فإنَّ الجزء الجنوبي من الحارة لغني في أكثر ما يكون الغنى. أما الجزء الشمالي الذي شهد الاحتراق فهو أكثر الأجزاء فقراً في الدولة كلها. ولكن كيف تطوَّرت المنطقتان لتمسيا أمتين مختلفتين – إذا جاز السؤال – في محازاة كل منهما؟ يعود هذا الانقسام الطبقي إلى القرن التاسع عشر الميلادي. ففي العام 1851م ظهرت موضة العرض العظيم في ميدان هايد بارك، بالتَّزامن مع تأسيس مدينة ألبريت والمتحف وكليَّة الإمبراطوريَّة، وقاعة ألبريت. وكان ذلك كله بتشجيع من الأمير ألبريت، مما ضاعف من ارتفاع شعبيَّة المدينة بالقرب من قصر كينسيغتون. أما الشمال فكانت الصورة أكثر قتامة، حيث يقف برج قرينفيل. وهذه البقعة كانت تعج بالمصانع المحليَّة والمخازن، وذلك بالتجاور مع سكك حديد الغرب العظيمة وقناة الاتحاد العظيم. إذ منحت السلطات الحكوميَّة الأرض الواقعة حول برج قرينفيل إلى مزارعي الخنازير وعمال الطوب وأصحاب الأعمال الفخاريَّة. وفي العام 1849م تفشَّى وباء الكوليرا والإسهال والتايفويد، مما أدَّى إلى مقتل كثر من الناس، حتى بلغ معدَّل الوفيات اثنين ونصف المرات مستوى بقيَّة لندن. وفي العام 1893م وصفت صحيفة "الديلي نيوز" المنطقة حول برج قرينفيل ب"الجهنَّم". وفي العام 1902م وجد الإصلاحي الاجتماعي تشارلز بوث فقراً مدقعاً، ومأساة عميقة غائرة في المنطقة أكثر من أي مكان آخر في مدينة لندن.
مهما يكن من شيء، فقد تمَّ تشييد برج قرينفيل العام 1974م، وتمَّت تسميته على شارع قرينفيل، وهو ذلكم الشارع الذي يعود تأريخه إلى القرن التاسع عشر الميلادي، والذي تمَّت تسميته هو الآخر على المارشال فرانسيس قرينفيل. إذاً، من ذا الذي يكون المارشال قرينفيل هذا الذي أخذ منه البرج اسمه، والذي احترق فيما بعد، وذهبت أرواح عزيزة من البشر ضحايا هذا الحريق المروع بمن فيهم السُّودانيُّون؟
اللورد الأول قرينفيل الذي عاش في الفترة ما بين (1841-1925م) كان قد قاتل في حرب الأنجلو-الزولو العام 1879م، والحرب الأنجلو-المصريَّة العام 1882م، وفي السُّودان العام 1888م، ثمَّ أمسى حاكماً لجزيرة مالطة، والقائد العام للجيش في أيرلندا، وسردار (القائد العام) الجيش المصري.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ السُّودان فد ارتبط بالبريطانيين منذ أمدٍ بعيد ارتباطاً يمكن تصنيفه إلى ثلاث طوائف. ففي الطائفة الأولى أخذ هذا الارتباط طابع الرَّحالة أو الجغرافيين الذين غامروا بمحض إرادتهم للتوغل إلى مداخل إفريقيا للالتقاء بأهليهم، والكتابة عنهم، ووصف أثنياتهم ومعبوداتهم وحيواتهم. وكان من ضمن هذه الطائفة لويس بوركارت، وهو الذي كان قد زار مملكة النُّوبة العام العام 1814م، ومن ثمَّ ترك لنا سجلاً حزيناً عن سوق تجارة الرِّق الرئيسة في شندي في ذلكم العهد البائس في مذكراته التي حملت عنوان "رحلات في أرض النُّوبا"، وبروس الذي زار مملكة سنار وكتب أسفاراً عن تسفاره في مملكة الفونج ومشارف الحبشة (إثيوبيا حاليَّاً)، وإقنيشس بالمي عن مديريَّة كردفان، وهو الذي أسهب في وصف حملات الرِّق في جبال النُّوبة العام 1824م، وويليام-جورج براون في دارفور وكردفان في كتابه المعنون "رحلات في إفريقيا ومصر وسوريا من العام 1792-1798م"، وعمر التونسي عما كتبه عن مملكة دارفور وهلمجرَّاً. ثمَّ إنَّ تقارير أولئك وهؤلاء قد تمَّ تسخيرها لخدمة الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في تجسس وتحسس مواقع القوَّة والموارد في الدويلات التي زاروها والشعوب التي اختلطوا بها.
أما أصحاب الطائفة الثانية فهم ينتمون إلى أولئك الذين خدموا في حكومة التركيَّة-المصريَّة (1821-1885م) في السُّودان، ومع ذلك كانوا في الأصل من البريطانيين والأجانب الآخرين الذين لا ريب في أنَّهم كانوا في خدمة الإمبراطوريَّة بشكل أو بآخر، ولعلَّنا نذكر منهم الجنرال تشارلز غوردون وصمويل بيكر وآخرين. والجنرال غوردون (1833-1885م)، برغم مما كان يتميَّز به من صغر الحجم نسبيَّاً، كان يملك عينين زرقاويَّتين بارزتين خارقتين، وهما الميزة الشائعة التي كانت تتصف بها أسرته. وفي الحديث معه كان يبدو أنَّه يحدِّق إليك بإمعان، وكان السُّودانيُّون يقولون عنه إنَّهم لا يستطيعون أن يكذِّبوا في حضرته وأمام نظرته.
أما الطائفة الثالثة فهي التي انخرطت في عمل عسكري ضد السُّودانيين في أهليهم وأنظمتهم ومنهم ضابط الاستخبارات البريطاني فالنتاين بيكر باشا في حروباته ضد البجة في شرق السُّودان أيَّام المهديَّة والجنرال تشارلز غوردون، وقرينفيل إيَّاه، وهوراتيو هيربيرت كيتشنر (1850-1916م)، وهو الذي كان قد عزم على التطوُّع في تجريدة المارشال قارنيت جوزيف وولسلي المرسلة لإخماد تمرُّد ملك أشانتي في مداخيل غرب إفريقيا، وإذا بكيتشنر يبعث برسالة إلى شقيقته ميلي في نيوزيلاندا قائلاً: "إذا تلقيت الأوامر بالتحرُّك إلى إفريقيا، فإنَّني لسوف أكون سعيداً بالذهاب، ثمَّ إنَّ ما قد تسمعيه عنِّي في اللحظة القادمة أنَّني أُذبِّح الزنوج بالدستة (وكلمة الزنوج هنا كما كتبها كيتشنر في الخطاب تعني المعنى العنصري الاستحقاري للكلمة). وكيتشنر، أيضاً، هو الذي أنشأ قوات الميدان العبابدة (Ababdeh Field Forces) الصَّديقة للاستعانة بهم في العمليات العسكريَّة في السُّودان، وبلغ تعداد أفرادها 1.500 شخصاً، حتى وجد إطراءً دافئاً في كل من القاهرة ولندن، ومن ثمَّ تمَّ تنصيبه المفوَّض السَّامي للعرب، وبذا بات يجمع المعلومات الاستخباراتيَّة. وريكس (ريغينالد) وينغيت، وهو الذي كان يُلقَّب ب"الفارس الأبيض"، قد استطاع أن يؤسِّس شبكة محكَّمة من الجواسيس والاتصالات وسط حاشية الخليفة عبد الله التعايشي وداخل بيته. وهل احتاجت الشُّعوب الجرمانيَّة التي كانت تُنعت بالبربريين إلى تحطيم الأسوار، أو احتفار الأنفاق، أو صعود السِّلالم المدرَّجة كي تدق حصون وقلاع الأمبراطوريَّة الرومانيَّة وتهدِّها؟ كلا! بل إنَّ أحداَ قد فتح أبواب المدينة وأدخلها. أفلم أقل لكم قبيلئذٍ إنَّ السُّودانيين أخذوا يحاربون بعضهم بعضاً، ويقتتلون فيما بينهم! إذاً، قرينفيل ينتمي إلى المجموعة الثالثة التي خاضت معركة شعواء ضد جنود الأنصار المهدويين في ظروف اقتصاديَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة حرجة، وهي تلك الحال التي كانت تمر بها دولة الخليفة عبد الله يومذاك.
وفي أمر شقاوة الأحوال إبَّان ما عُرِف بمجاعة سنة ستة، وحين كان النَّاس تموت بمئات الآلاف، دار النقاش التالي بين شيخ هرم في أم درمان وبين موظَّف بريطاني أثناء الحكم الثنائي (البريطاني-المصري) (1898-1956م). فقد قال الشيخ العجوز: "إنِّي لمندهش – يا جنابك – ما إذا كانت لديك أيَّة فكرة عمَّا حدث في ذلك العام المروع حين لم يجرؤ أحد على التسكُّع ليلاً في الظلام ريثما يُقتل ويُؤكل؟ لقد شاهدت جمهوراً من النَّاس يندفعون بأوانٍ من القرع حيث يُذبح الثور، وذلك في سبيل الحصول على الدَّم المسفوح حين يتدفَّق من الحيوان المحتضر، ومن ثمَّ يتشاجرون مع بعضهم بعضاً حول الدَّم المسكوب على الأرض، والذي هو عبارة عن خليط بين الرَّمل والوسخ. عرفت أحد الرِّجال الذي جاء إلى أم درمان من الغرب، وبرغم من أنَّه حُذِّر من عدم الخروج حينما يأتي الظلام ويجن الليل غير أنَّه لم ينصاع للأمر؛ ومن ثمَّ لم يراه أحد من بعد. ولكن تمَّ العثور على جزء من الجمجمة بعد بضع أيام، وتأكَّدنا بأنَّ هذه الجمجمة هي كل ما تبقَّى منه. كانت المجاعة سيئة في كل مكان، حيث فشلت الأمطار وأكل الجراد المحاصيل القليلة التي كانت موجودة. ثمَّ كانت الضِّباع تشق طريقها إلى وسط المدن وتفرُّ بالموتى والمحتضرين. الحمد لله لحضور الإنكليز، الذين أخرجونا من هذا الخوف المرعب من المجاعة!" هذا ما كان من أمر الشيخ العجوز في تحادثه مع الموظَّف البريطاني آنذاك، وهو يصف الحال التي وصلت إليها البلاد والعباد إبَّان ما أسمته الناس يومئذٍ بمجاعة سنة ستة في مجتمع غرق في لجج العوز.
ووسط هذه الأجواء والظروف الاجتماعيَّة السيئة بعث الخليفة عبد الله بقواته إلى حرب مصر. على أيَّة حال، فقد تعدَّدت الروايات حول الأسباب التي دفعت الخليفة عبد الله أن يبعث بحملة قوامها آلاف من الرِّجال المقاتلين والنِّساء والأطفال إلى هذه الجبهة القتالية وذلك في عام ذي مسغبة، وهو العام الذي عُرِف بمجاعة سنة ستة (1306ه أي في العام 1888-1889م)، كما أسلفنا الذكر. لقد تعلَّمنا صغاراً في المدرسة الأوليَّة بأنَّ الخليفة كان يحمل حقداً دفيناً تجاه قائد الحملة الأمير عبد الرحمن النجومي. فقد قيل أثناء حصار مدينة الأبيض بواسطة أنصار المهدي العام 1883م، أشار الخليفة عبد الله إلى المهدي بالهجوم على المدينة دون أيَّة اعتبارات تكتيكيَّة وعسكريَّة، مما اعتبره ود النجومي تهوراً وليس بإستراتيجيَّة حربيَّة ذات جدوى. ففي تلك الأثناء استخف النجومي بمشورة الخليفة عبد الله، بل استفزَّاه أمام المهدي في حضرة أمراء الأنصار الآخرين، مما أغضب الخليفة عبد الله وكتم غيظه في نفسه حتى جاء اليوم الموعود، وأرسله إلى محاربة الأتراك-المصريين في توشكي مع علمه بكل هذه النواقص في العتاد والروح المعنويَّة للجنود الدراويش. لقد جاءت هذه الحملة في أعقاب الرسائل التي بعث بها الخليفة عبد الله ذاته في نيسان (أبريل) 1887م إلى كل من الخديوي محمد توفيق في مصر، والملكة فيكتوريا في بريطانيا، والسلطان العثماني عبد الحميد الثاني لاعتناق المهديَّة والتصديق بها.
على أيَّة حال، ففي تموز (يوليو) بعث قرينفيل – قائد القوات المصريَّة – برسالة استفزازيَّة إلى النجومي طالباً منه الاستسلام، وردَّ النجومي برسالة استفزازيَّة هو الآخر أكَّد فيها ولاءه للخليفة عبد الله وإيمانه وثقته في عون الله. وأثناء بقاء القوَّة الأنصاريَّة في حامية دنقلا في الفترة ما بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1886م حتى أيار (مايو) 1889م قبيل بداية المعركة انهارت روح الجنود القتاليَّة، وأرعبت القوَّة السكان المحليين بأنشطتهم العدائيَّة، حتى جاء الأمير يونس الدكيم إلى دنقلا في شباط (فبراير) 1889م لتسلُّم مقاليد القيادة. وفي 3 آب (أغسطس) 1889م التقى الجمعان بالقرب من قرية توشكي، حيث تمَّت هزيمة قوات الخليفة عبد الله وقُتِل قائدها عبد الرحمن النجومي في المعركة إيَّاها، وهو الذي استبسل فيها، وأبلى بلاءً حسناً. وفي تلكم المعركة قاد قرينفيل الجنود المصريَّة اسماً، والسُّودانيَّة فعلاً وقواماً ضد قوات الأنصار. ومن هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ أغلب المعارك التي تمَّت بين السُّودانيين وبين المصريين منذ عهود الفراعنة حتى الغزو البريطاني-المصري العام 1898م كانت في الأصل معارك بين السُّودانيين أنفسهم، وبخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنَّه لم تكن هناك حدود سياسيَّة مرسومة بالمعنى الحديث للحدود، ثمَّ إنَّ المجنَّدين في القوات المصريَّة ظلوا منذ أقدم العصور يُجلبون من السُّودان إما في شكل العبيد المختطفين أو أسارى الحروب التي كانت تنشب بين هاتين الجارتين بين الفينة وأخرى.
وفي المعركة إيَّاها تمَّ أسر كثر من الأسرى بما فيهم ابن عبد الرحمن النجومي النافعابي الجعلي الفضلي العباسي الهاشمي القرشي – كما يزعم الجعليُّون في السُّودان حقاً كان أم كذباً – وهو ذاك الابن الذي كان يُدعى عبد الله، والذي كان يرافق أبيه ولم تتجاوز سنُّه ستة أعوام، فاحتضنته مصر وربَّته ثمَّ علَّمته، حتى تخرَّج في الكليَّة الحربيَّة العام 1918م ضمن دفعة اللواء محمد نجيب، وتدرَّج في الخدمة العسكريَّة حتى وصل إلى رتبة لواء،" كما جاء في وسائط الاتِّصال الاجتماعي. وقد أمسى عبد الله باشا النجومي فيما بعد الياور الخاص بالملك فاروق ثمَّ الرئيس الرَّاحل محمد نجيب، وتمَّ تعيينه مديراً لحديقة الحيوانات بالجيزة، وذلك نظراً لما أظهره من حب للطيور والحيوانات، وألَّف كتاباً بالإنكليزيَّة عن جميع الحيوانات في السُّودان ومصر. وعبد الله عبد الرحمن النجومي، الذي ولد العام 1887م، أمسى رئيساً للنَّادي السُّوداني بعين شمس، وتزوَّج ابنة أسرة مصريَّة هي كريمة الدكتور حسن حلمي بك باشمفتش صحة المطريَّة، ولم تنجب زوجه، والتي توفيت في 20 كانون الثاني (يناير) 1945م قبل أن يلتحق بها زوجها عبد الله العام 1966م (موسى عبد الله، نقلاً عن الباحث عبد الرحمن عوض، المتخصص في تأريخ السُّودان وعضو الجمعيَّة المصريَّة للدِّراسات التأريخيَّة). غير أنَّ السؤال الذي يتردَّد إلى أذهاننا هو ماذا كان يعرف هذه الطفل اليافع عن الطيور في السُّودان وهو الذي كان قد غادر البلاد في سن مبكرة ولم يعد إليها أبداً؟ والمدهش في الأمر أنَّ عبد الله لم تأخذه حمية والده وعزَّة وطنيَّته ليلفظ المصرنة والباشويَّة ويعود إلى السُّودان بحثاً عن أجداده وشجرة نسبه، ولم يضنه الألم إلى ميادين الصبا، وهو الذي كان قد فارق البلد بعد أن لهى في ربوعه بما يستميل العين، ونهل من ماء نيله. هذا ما كان من أمر الخليفة عبد الله والأمير ود النجومي وابنه والقائد الإنكليزي قرينفيل.
أما بعد، فاللافت في الأمر أنَّه حينما يشرع النَّاقدون والناقمون على حكم الخليفة عبد الله في انتقاد دولة المهديَّة لا ينظرون إلى عهده بأنَّه إرث إسلاموي ورثه من الأب الرُّوحي للثورة المهديَّة – أي محمد أحمد المهدي – والكوارث التي قد يجلبها التطرُّف الدِّيني أيَّاً ما كان، بل يلجأون إلى استدعاء العنصريَّة والجهويَّة في خلط مروع بين الدِّين والسياسة والعرق والجهة، وتلكم السمعة الملتبسة أصبحت حينئذٍ حديث النَّاس ومثار اهتمامهم على النحو الذي ارتأوه. وفي الحق كان الخليفة من قبيل التعايشة في دارفور، وهو القبيل المعروف بانتمائه إلى العروبة مهما يكن من شيء، ولكن عروبة غرب السُّودان لا تجد عضداً ونصيراً عند أهل البحر. ثم كان الخليفة، وإن كان هناك ثمة شيء يمكن أن يقال عن جوره، غير أنَّه كان عادلاً في الجور، وقد أتحفنا الدكتور الوليد آدم مادبو بمقال تأريخي نُشِر في صحيفة "سودانايل" الإلكترونيَّة، حيث سرد فيه جزءً من تجاوزات نظام الخليفة عبد الله والأحداث الفجائعيَّة في كردفان ودارفور، ولئلا يقول الأغيار أنَّ بطشه كان مقصوراً على أهل البحر والحاضرة، ولم يمتد ليشمل أهل البادية والغرَّابة.
ودولة المهديَّة هي المسؤولة المسؤوليَّة كلها عن تدمير مملكة تقلي، وذلك بعد أن عجزت الحكومة التركيَّة-المصريَّة (1821-1885م) أن تنال منها، أو تقضي عليها، وهي – أي الحكومة التركيَّة-المصريَّة – التي كانت تقع على مسافة قريبة منها في مديريَّة كردفان بالأُبيِّض، ومع ذلك لم تستطع هزيمتها أو إخضاعها برغم مما كان لديها من الجبروت والجند والسِّلاح النَّاري. أفلم تكن ضربة البداية الحرجة حين غدر إمام الأنصار محمد أحمد المهدي بمك تقلي آدم أم دبالو بعد أن استدعاه إلى الأُبيِّض وسار به نحو الخرطوم حتى مات في الرَّهد، وفؤاده يعتصر ألماً، وعقله يدمي دماً، وعيناه يتدفَّقان دموعاً مدراراً، وجبينه يتصبَّب عرقاً من حرارة الشَّمس وغدر المهدي بعد أن استجار الأخير به واستغاث. أما مستشار آدم أم دبالو القاضي ميرغني ود تميم فقد جاهر باكراً مراراً بمعارضته للمهدي، ووصفه بالرَّسول الكذوب، وأشار إلى أم دبالو بقتل المهدي لأنَّ الله قد أمر بقتل الرُّسل الكذبة، وإذا بالمهدي يعدمه فوراً حين مثُل أمامه في الأُبيِّض، وأمسى يردِّد استهجانه له بلا وجل. وبعدئذٍ لعلَّنا نذكر الحملات المتكرِّرة التي كان يرسلها الخليفة عبد الله إلى ديار تقلي حتى مزَّقت الأسرة الحاكمة شر ممزق، وحرَّقت القرى، وشرَّدت النَّاس، وأسرت من التقلاويين كثراً منهم.
إذاً، ما الذي دفع السُّودانيين دفعاً أو استاقهم استياقاً في الماضي للالتحاق بالجيش الغازي جهاراً، أو العمل كجواسيس للعدو سرِّاً، أو الهجرة فراراً كالتي نشهدها اليوم إلى جميع أصقاع العالم والمخاطرة بحيواتهم إلى درجة الانقراض في الصحاري، أو الموت غرقاً في البحار، أو الإقامة في أبراج لندن والموت حرقاً مع علمنا علم اليقين، وليس العلم اللَّدني، بأنَّه لا تدري نفس بأي أرض تموت؟ ثمَّ لِمَ هذا التبدُّل السريع في مواقف الجيش الأنصاري سواء بعد معركة فركة أو الحفير في تخوم دنقلا أو عطبرة أو كرري في أم درمان بعد الهزيمة المأساة في 2 أيلول (سبتمبر) 1898م؟ لا مندوحة في أنَّ العامل الرائس في هذا كله هو تكاثر أزمة الحكم وعدم توافق الشَّعب على أسلوب ومنهاج الحكم، وما يصطحب ذلكم الحكم من إطالة أمد الفرد المقرون بالظلم والاعتساف، الذي قد يجعل الشَّعب يأمل كل الأمل في التغيير، وقد يصل به القنوط واليأس إلى حد الاستغاثة بالجن أو الإنس. وكان عامل الشتات في هذا كله هو استحضار الدِّين بين الأمس واليوم لتحكيم شعبٍ لم يستقم أمره على دين واحد، ولا على أثنيَّة واحدة، ولا على لغة واحدة، ثمَّ لم يتثاقف أفراده بثقافة أحاديَّة.
ففي رسالته المؤرَّخة في 11 نيسان (أبريل) 1876م، وبعد أن خبر الأضاع الاجتماعيَّة والثقافيَّة لأهل السُّودان، خلص تشارلز غوردون – حاكم مديريَّة الاستوائيَّة آنذاك – إلى القول: "إنَّه من اليسر يسراً أن تستولي سلطة أجنبيَّة على هذا البلد (السُّودان). فإنَّ الرِّعاع ليسوا بمتزمِّتين، وإنَّهم لسوف يبتهجون في حال وجود حكومة جيِّدة، ومن ثمَّ يدعوا دينه – أي دين البلد – حالما يكون. إنَّ الحكومة (المصريَّة) هي التي في حاجة إلى الحضارة أكثر من الشَّعب السُّوداني." وكذلك كما في الماضي المهدوي أو الحاضر الإنقاذي فإنَّ المغامرات الخارجيَّة دون حسم الأمور الداخليَّة لتجلب الأزمات الاقتصاديَّة والفاقة والفاقد البشري وإيغار صدور حكومات بعينها لترد الصاع بصاعين أو أكثر. وفي نهاية الأمر يستوجب على القائمين بأمر النَّاس ابتكار وانتهاج وسائل عقلانيَّة لإدراة التنوُّع، وتوفير الرَّفاهيَّة للشَّعب في حدِّها الأدنى، وحل الصِّراعات بالمحاورة والمجادلة بالتي هي أحسن مع إعطاء كل ذي حق حقه، فالأرض واسعة لا تضيق بأحد، ولكن الضيق يكون في أخلاق الرِّجال وصدورهم، كما أنشد الشاعر عمرو بن الأهثم المنقري في قصيدة أوردها المفضَّل الضَّبي (المفضَّليات):
لَعَمْرُكَ ما ضاقت بِلادٌ بأهلها
ولكنَّ أخلاقَ الرِّجالِ تَضِيقُ

 

آراء