الأزمة المفتعلة في شرق السودان (2/2)
إن حدود السودان الجغرافية والسياسية الموجوده اليوم في السودان بل وفي كل أفريقيا هي من صنع الاستعمار أياً كان اسمه الامبراطورية البريطانية أو الاستعمار الايطالي أو الفرنسي أو الهولندي أو البلجيكي وغيرهم هو كله داخل ضمن أجندة الاستعمار في رغبته في أن يرث دولة الخلافة الإسلامية التركية التي أطلقوا عليها اسم (رجل أوربا المريض) ومع ظهور الثورة الصناعية في أوربا احتاج الأوربيون إلى المواد الخام والأولية لدولاب الصناعة الحديثة (وقتها) لذا قاموا بغزو أفريقيا القارة البكر. فرغبت بريطانيا في التمدد من الاسكندرية شمالاً حتي كيب تاون جنوباً لأنها كانت تفقد كميات كبيرة من الذهب الذي تستخرجه من جنوب أفريقيا في السفن التي تغرق في البحر فأرادت مد خط سكة حديد لنقل الذهب من جنوب أفريقيا وحتى الإسكندرية، وسعت فرنسا لاستعمار الدول من داكار غرباً حتى جيبوتي شرقاً وحدث الصدام في فشوده بين بريطانيا وفرنسا حيث تقاطعت مطامح ومطامع الدول الأوربية. وحيث أن هذه الدول هي مستعمرة كل بحسب رؤيته عبر الحكم المباشر أو غير المباشر تظل هي استعمار ولا فروق تذكر إذ كل يبحث عن مصلحته بريطانياً كانت أو ايطالياً. ولقد حارب البني عامر والحباب الذين شكّلوا أول نواة للجيش السوداني بفرقة سميت فرقة العرب الشرقية وشعارها السكين المعقوفة (الشوتال) وغيرهم من السودانيين المستعمر الايطالي وذلك تحت التاج البريطاني حتى ينال السودان استقلاله كما وعدت بريطانيا بأن الشعوب التي ستشارك معها في الحرب ستمنح حق تقرير المصير الشيء الذي حدث بنضال البني عامر والحباب في فرقة العرب الشرقية وإخوانهم من بقية السودان حيث حرروا كسلا ثم كرن وحاربوا في ليبيا التي خلّد ذكرى معاركها الشاعر الصاغ محمود أبوبكر الحلنقي الذي تطوع للحرب مع بريطانيا أملاً في أن تعطي بريطانيا السودان حق تقرير المصير وذلك في قصيدته
(صه يا كنار وضع يمينك في يدي) وكذلك غنت الفنانه عائشه الفلاتية أغنية (يجوا عايدين) تمجيدا لفرقة العرب الشرقية التي كان قائدها اليوزباشي حاج أغا وكانت كلها من البني عامر والحباب والقبائل التقرية كما كانت أول فرقة من الجيش السوداني تصل إلى الجنوب أيام تمر توريت فحافظت على وحدة السودان. كما حاربت الأورطة السودانية التي كان يقوم بتجنيدها الاستعمار التركي، في المكسيك والبلقان وكل هذا لمصلحة المستعمر. أي أن أبائنا وجدودنا في كل الأحوال كانوا وقوداً وجنوداً لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وتم استقدام الهنود للسودان ايضا للدفاع عن التاج البريطاني، إنها رغبة الاستعمار في البقاء والتمدد. فلا شكر لأي من الاستعماريين فقطرة دم كل بجاوي وسوداني هي اقيم من العروش وإن علت. وبعد كل هذه التضحيات أين ذهب رد الحقوق؟ نادي البجا العام 1958م، بحق الحياة ولا زال هذا المطلب مستمراً دون تنفيذ. حق الحياة يعني الاستقرار والبقاء والعمل والنماء وليس الاستمرارية داخل قمقم أو كهف أو صحراء بزعم أنه يفضل العيش بحرية فأين هي الحرية وكيف تكون؟
امنة ضرار شجاعتها وقدراتها ومؤهلاتها الأكاديمية وأدائها في زمن تخوف فيه البعض عن مناصرة قضية البجا هو الذي رأسها التنظيم ومررت بمعارك كثيرة مثل غيري ما أن ينجح الفعل إلا ويأتي ذوي النظرة الضيقة ليعتقدوا أنهم للرئاسة والقيادة، إلا أنه والحمد لله كان هنالك دائما مناضلون واعين بذلوا الكثير ولم ينجرفوا وراء هكذا تيار(بالتأكيد ساكتب عنهم وادوارهم ونضالاتهم إن مد الله في العمر). التف عدد من الحادبين حول الدعوة من جميع القبائل بل دعونا اخرين "من بينهم كاتب المقال" فالموضوع أكبر من أن يكون تنظيما سرياً (تحدثت عن هذا الموضوع كثيراً وأعتقد أنه متوفر في النت). وعندما دعاني السيد د. موسي محمد احمد للحضور لبداية التفاوض لبيت الدعوة ووجدت أن التفكير في أسمرا كان هو أن يقوم المقاتلون وحدهم بالتفاوض، واستغربت ذلك كيف يكون المقاتلون وحدهم مفاوضين والأمر يتعلق بالشرق كله وهناك تنظيم اثبت وجوداً في الداخل وله فروع في الخارج، وخاض معارك متعدده فكيف يجوز تركهم بعيداً. وبعد لأي تفهم السيد يماني قبرياب الأمر ووافق هو وموسي ومبروك بمشاركة الداخل وهو ما تم من مشاركة كل تلك الأعداد ومن بينهم كاتب المقال السابق للمساهمة. وهنا لا يسعني إلا أن أتقدم للذين استجابوا لمطالبي مشكورين فمملكة النرويج تكفلت بدفع الكم الهائل من مصروفات السكن والإعاشة. كما دفعت بريطانيا والنرويج تكلفة ورش رفع القدرات.
ما حدث في امبسيرا كان مهماً لأن توضع النقاط على الحروف؛ مهم لأن نؤسس لعدالة لابد من ترسيخها وليست انقلاب تقري على بداويت ويبدو أن ذاكرة كاتب المقال خانته فلم يكن الاستاذ صالح عمار موجوداً في امبسيرا أو حتي أسمرا إذ أنه كان طالباً بجامعة الخرطوم ولم يكن له فسحة من الزمن لحضور التفاوض أو المشاركة فيه وسيرته الذاتية واضحة لا لبس فيها. وذاكرة الآخر ليست بالضعف الذي تعتقد.
اتفاقية الشرق إذا كانت هزيلة فهي نتيجة جهدك أنت وغيرك حين اعتقدتم أنكم بذلتم جهدا يقدر، بوضوح أكثر فهي ليست جهد القيادة الثلاثية موسي وآمنة ومبروك بل جهد جميع من كان يقاتل ومن جاء من الداخل. توقيعها كان مهماً في إعتراف الحكومة آنذاك بأن للشرق قضية والشيء الثاني المهم هو أنها أنشأت تنظيماً ضم كل مكونات الشرق وهذين الانجازين لا ينكرهما إلا مكابر، ولكن تنفيذها صاحبه ضعف في شق الترتيبات الأمنية وهي برمتها كانت في أياديكم؛ أيضاً في الشق الاقتصادي وهو أيضاً برمته كان في أياديكم صندوق إعادة إعمار وتنمية الشرق إذ أن اداءه تحول كثيراً عن ما خطط له فبدل أن يدعم التعليم بحيث يجد أبناء وبنات البجا حظهم من تعليم الأساس والثانوي فيحصلوا على وظائف، دعمت بعض الجامعات لمصلحة دكتوراه فخرية لا تضيف شيئا حتي كلمتها لا تعني علماً.
قانون الجنسية واضح في السودان بل كل الدول تهتم بهذا الشأن وليس السودان بدعة في ذلك وعمّار سوداني أصيل بغض النظر عن لأي قبيلة ينتمي وهو خريج جامعة الخرطوم ومن كلية مرموقة وناضل وكافح وقام بتعريف العالم بقضية الشرق المنسية حتى باللغة الانجليزية مما أهله لنيل جائزة مرموقة، أم عندما يكون نضال تريدونه أن يتقدم الصفوف ثم تقولون له انزوي جاء أصحاب الأرض ليستمتعوا بمخرجات نضالك، ومن هم أصحاب الأرض أليس من تسمى الأرض باسمهم، فقد كانت قبائل البجا الأصلية تسمى باسم الأرض التي يمتلكونها فأصحاب سنكات (الاسم جاء من سنكيت ومعناها الأرض المرتفعة) هم السنكاتكناب الذين تم طردهم من أرضهم إلى ارتريا ولم يبق منهم في سنكات غير آل إبراهيم السنكاتي (سنكاتيا)، أما الملهيتكناب (فهم أصحاب الأرض التي تمتد بين نهري بركه والقاش ثم نهر أتبره) ولقد انتشرت سلسلة مساجدهم التي تعلم القرآن في كل منطقة القاش ويطلق على المسجد الواحد اسم (إبري إمسقد) أي المسجد الواسع الذي كان يسع ألف تلميذ.
استغرب أمرك وأنت الذي قدمت لرئيس مؤتمر البجا قبل فترة استقالة مسببة وارسلت لي نسخة منها ؛ أترى نسيت مضمونها.
لم يعد المثل البجاوي الذي يقول "المقيم يرحل ويخلي الأرض للقادم حديثاً فاعلاً ولا عادلاً اليوم؛ إذاً، صوت الخوف هذا لا مبرر له فنحن نقبل على العقد الثالث من الألفية الثالثة. الآن الوجود لتخطيط المدن اخذ شكلاً آخر وكذا الاستثمار المحلي والاقليمي والعالمي فلم تعد الأرض فقط لتتحول لقبور إنما لتصبح جنة الله في الأرض والناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ. يظل حق الحياة مقدم على غيره والأمر واضح فلم تعد مقولة نطلع ليه الجبل ولا ينزل لينا هو وهي مقولة قصد بها تعميق الفقر والجهل والمرض وسط البجا الذين قدموا تضحيات كثيرة للسودان في كل الحقب كما أنهم جعلوا إقليمهم نموذجاً مثالياً للتعايش السلمي لجميع القوميات السودانية حتى أصبح سوداناً مصغراً. ونحن نسعى لأن يعيش الجميع فيه في تآخ وسلام وانتاج بدلاً من الفتن المفتعلة التي يروح ضحيتها الأبرياء وتدمر مساكن الفقراء. والله الموفق.