الانتخابات والحوار: المهزلة والمأساة .. ببقلم: نبيل أديب عبدالله/ المحامي
" يقول هيجل فى مكان ما، أن التاريخ يكرر نفسه. ولكنه نسي أن يقول أن المرة الأولى تكون فى شكل مأساة، والمرة الثانية تكون فى شكل مهزلة" كارل ماركس 18 برومير لويس بونابرت
ليس من المناسب الحديث عن الإنتخابات المقبلة وليس من المناسب تجاهلها. وكون أن الحديث عن الإنتخابات المقبلة ليس مناسباً، سببه إفتقاد الإنتخابات لأي جدية تجعل الحديث عنها مشوقاً، أو حتى لافتاً لنظر القارئ. ومن جهة أخرى فإن تجاهلها مع هذا الكم الهائل من أخبارها الذي يملأ الصفحات الأولى من كل الصحف، يبدو على الأقل من الناحية الشكلية، كالعرض خارج الطار. ولكن هنالك في ثتايا الموضوع أكثر مما يلاقي العين للوهلة الأولى. إفتقاد الإنتخابات للجدية يتمثل في كونها ليست بإنتخابات حقيقية، لأنه بغض النظر عن صور وتصريحات الصديق الأصم، فهي تظل إنتخابات نتيجتها معروفه سلفاً، ليس بسبب شعبية الحزب الذي سيفوز بها، ولكن لأنها إنتخابات تم حسمها قبل خوضها بزمن طويل. ورغم عدم جدية الإنتخابات إلا أنها تظل بعيدة الأثر على الواقع السياسي. ما يريده الحزب الحاكم من الإنتخابات هو الحصول على شرعية ليحكم بها في الخمس سنوات مقبلة. الإنتخابات الجاري الإعداد لها هي إنتخابات لا تستطيع الأحزاب المعارضة المنافسة فيها، لأنها أحزاب من حيث الواقع غير مسموح لها بممارسة نشاطها السياسي بشكل عادي، وبغض النظر عن نصوص القانون والدستور تتعامل أجهزة الدولة مع قياداتها وناشطيها كخارجين عن القانون، يتكرر إعتقالهم أو محاكمتهم، لأسباب تتعلق بممارستهم لنشاطهم الحزبي العادي. بعد أن أمنت القيادة منافسة المعارضة، عملت على منع أي صوت مستقل عنها من داخل حزبها من الوصول للبرلمان المقبل، بإجراء تعديل دستوري – بشكل غير دستوري ــ يقضي بتعيين الولاة بدلاً عن إنتخابهم. ثم عدلت لائحة الحزب لكي لا يترشح أي من عضوية الحزب للبرلمان القومي، أو الولائي، ما لم يكن مرضياً عنه من المركز. الإصرار على إجراء إنتخابات بين مرشحين تتم مباركة ترشيحاتهم بواسطة قيادة الحزب الحاكم، هو بحث عن شرعية زائفة تهدد إحتمال للتوصل لحل حقيقي لأزمة الحكم في السودان. الإنتخابات المقبلة لن تمنح الفائزين أي شرعية في نظر الشعب، ولا في نظر المجتمع الدولي، بل ستزيد في تعقيدات الازمة، وهذا ما يجعلها عديمة الجدوى. تبدو المسألة كلها عبثية على ضوء فداحة التكاليف المالية التي سيتم إنفاقها في إنتخابات لا يعترف بها الإ من سيفوز بها، إلا أنها في واقع الأمر كارثية، لأن الغرض من إجرائها هو سد الطريق بشرعية زائفة نحو السبيل الوحيد للخروج من أزمة الحكم، وهو الطريق الوحيد الذي يمكنه أن يمنح الحاكم، أيا كان، شرعية حقيقية. منذ طرح الدعوة للحوار الوطني في خطاب الوثبة، ورغم أنها دعوة لم تتم فقط من داخل المؤتمر الوطني، بل من قمة قيادته التي لا ينازعها في قيادتها أحد، ظل المؤتمر الوطني هو المعوِّق الرئيسي للحوار، وذلك بما يلجأ له من إجراءات تشكك في جدية الطرح وتُفرِغ الحوار من محتواه. لا مراء في أن إعتقال الإمام المهدي، ومريم الصادق، وإبراهيم الشيخ، بسبب أراء أبدوها كمعارضين، أو نشاطات حزبية قاموا بها في بلد يحكم بدستور تعددي، كان معرقلاً للحوار، بأن تسبب في خروج حزب الأمة منه، وأدى لوقف أي حوار داخل الأحزاب المعارضة الأخرى للحاق به. ولما كان ذلك واضحاً، لا جدال حوله، فإن إعتقال فاروق وأمين عقب توقيعهما على نداء يحدد رؤية مجموعة معارضة لموقفها التفاوضي في الحوار، و بسبب ذلك التوقيع، لم يكن من الممكن تفسيره إلا بأنه ليس فقط إعراضاً عن الحوار، بل عرقلة متعمدة له. وجاءت مطالبة جهاز الأمن بحل حزب الامة تأكيداً لذلك. لقد كان الحوار الوطني ومازال هو الخيار الوحيد المتاح لحل أزمة الحكم، التي بدأت مع الإستقلال، وما زالت تلقي بظلالها الفادحة على كل العهود التي تعاقبت على حكم السودان. الحوار الوطني لم تبدأ الدعوة له بخطاب الوثبة فذلك الخطاب لم يكن إلا إعادة لطرح ما تم التوصل لضرورته، وتحديد موعده، في الساعات الأخيرة من حياة النظام الدمقراطي، بمسمى آخر، وهو المؤتمر الدستوري. لقد هدف ذلك المؤتمر للتوصل لتفاهم مشترك في قضايا السلام والحرية والتنمية والهوية، وهي نفس المواضيع التي أشار خطاب الوثبة، لضرورة التوصل لتفاهم مشترك حولها.
لم يسمح الإنقاذيون آنذاك للمؤتمر الدستوري بالإنعقاد، بالإنقلاب أولاً على النظام القائم، وبالدعوة بعد ذلك لمؤتمرهم الخاص، تحت إسم مؤتمر الحوار الوطني لقضايا السلام، حيث تم إعتماد أجندة مشروع أحادي يرى في تعدد الثقافات، والأعراف، والأديان، خطراً يتم التغلب عليه بصهرها في بوتقة واحدة. طافت الوفود بنتائج ذلك المؤتمر على الدول المختلفة لتسويقها وتم إعتمادها كالمشروع الرسمي لحل أزمة الحكم، فإزدادت نار الحرب الأهلية إشتعالاً وإزادت أزمة الحكم إستفحالاً ولم نحصد سوى حصاد الهشيم فإنفصل الجنوب رسمياً في يوليو 2011م ، ليفسح المجال لحروب أهلية جديدة.
ولكن الفرق في هذه المرة هو أن من إستبق الحوار الوطني ليفرض رؤاه بالإنقلاب، هو الذي يدعو لذلك الحوار. صحيح أن دعوته شابها كثير من التردد، حتى فقدت مصداقيتها أو كادت . وصحيح أن الطاقم الحاكم ليس على قلب رجل واحد من تلك الدعوة، فبعضه يرفضها ويعرقلها، وبعضه يطمح لإستغلالها للبقاء في السلطة بمسميات أخري. ولكن ذلك كله لا يغير من حقيقة أنها تظل السبيل الوحيد لإيجاد حل لأزمة الحكم بعد أن وضح لكل من يحفل بالنظر إلي مكونات الأزمة، أن فرض أيدويولجية أو منظور سياسي واحد، وإحتكار السلطة لمجموعة عرقية أو ثقافية واحدة، سيعقد من أزمة مستفحلة، وستكون نتيجته مزيد من الحرب، ومزيد من الإنشطارات . يظل الحوار الوطني العميق، هو السبيل الوحيد للتوصل لحل لأزمة الحكم، ويظل توفير الضمانات لذلك الحوار ليكون مُعبِّراً عن المكونات المختلفة لهذا الشعب المتعدد الأعراف والثقافات والرؤى السياسية، السبيل الوحيد لإستخلاص نتائج قادره على الخروج من الأزمة.
إذا كان التيار الذي أوقف المحاولة الأولى لإجراء الحوار الوطني بالإنقلاب، وبمؤتمر شكلي محددة قراراته مسبقاً، يحاول الأن ان يوقف المحاولة عن طريق إفراغه من المعنى أو بإنتخابات معروفة نتائجها مسبقاً فهل نحتاج لأن نذكره بمقولة ماركس؟
nabiladib@hotmail.com