الحملة على تعديلات القانون الجنائي لسنة 1991 باسم الشريعة الاسلامية مزايدة لا اساس لها
قبل أن يتم الاعلان عن التعديلات التي جرت على القانون الجنائي لسنة 1991 بدأت حملة ظالمة على السيد وزير العدل باسم حماية الشريعة الاسلامية وعلى الجهد الذي بذلته وزارته في تعديل القانون ، وتصويره كأنه هجمة على الدين، وازدادت الحملة شراسة بعد إصدار التعديل ونشره على الموقع الرسمي لوزارة العدل.
بنظرة فنية بعيدة عن المزايدات السياسية، فإن التعديلات على القانون الجنائي لم تتضمن مخالفة ظاهرة للشريعة الاسلامية، فلم تمس الحدود الثابتة المنضبطة التي اتفق عليها فقهاء المسلمين، وجاءت في غالبها ضبطاً لبعض النصوص وإلغاء للعقوبات المذلة التي ليس لها أساس. ويمكن الوصول لهذه النتيجة بدراسة سريعة للتعديلات ، يتضح منها ما يلي:
1- أكبر تعديل على القانون هو الذي ألغى جريمة الردة واستعاض عنها بجريمة تكفير الأشخاص والطوائف. وهذا التعديل تفكيك طبيعي للتمكين التشريعي في عهد الانقاذ، أدرجته الانقاذ لأول مرة في القانون بعد استلامها للسلطة ولم يسبق أن ورد في أي تشريع سابق في القانون السوداني، وحتى تشريعات سبتمبر 1983 التي أدخلت الحدود في القانون السوداني لأول مرة لم تتضمن بصورة صريحة تجريماً للردة. وهي جريمة غير متفق عليها فقهاً. فما فعلته التعديلات بهذا الخصوص أنها أعادت الحال إلى ما كان عليه الحال قبل 1991، ومالت إلى كفة الرأي الفقهي الذي يعتد بالحرية الدينية ولا يرى بأسها في اختيار الشخص الديانة التي يراها حقاً بكامل حريته واستعداده لتحمل المسؤولية.
2- لم تؤثر التعديلات بصور جوهرية على جريمة شرب الخمر بالنسبة للمسلمين وهو الحد الذي يتمسك به الذين يعترضون على التعديلات، فقد كانت النص كما حدده البند (1) من المادة (78) (من يشرب خمراً أو يحوزها أو يصنعها يعاقب بالجلد أربعين جلدة إذا كان مسلماً). وما جرى في هذا الشأن هو حذف عبارة (يحوزها أو يصنعها) لأنها لا تدخل ضمن تعريف الحد من ناحية فقهية، وإنما الحيازة والصناعة جريمة تعزيرية، وجاء التعديل لضبط تعريف جريمة شرب الخمر وقصرها على المتفق عليه وحذف الفعل المادي غير ذي الصلة. وكذلك لأن صناعة الخمر وحيازتها جرمت في المادة (79) بالنسبة للمسلم. ومن ثم يكون الهدف من استبعادها من المادة (78) هو عدم تكرار الفعل المجرم أكثر من مرة دون مسوغ.
3- تم تعديل المادة (79) بما يسمح لغير المسلم بالتعامل في الخمر صنعا وتعاملاً، وهذا أمر سار عليه عدد من فقهاء المسلمين من بينهم الإمام أبو حنيفة وصاحباه، الذين يعدون الخمر لغير المسلم مالاً متقوماً لا يجوز التعدي عليه، ويتعين على المسلم أن يضمنه له في حالة إتلافه. ومن المهم ملاحظة أن التعديل أبقى على جريمة وإزعاج الآخرين من خلال شرب الخمر أو الشرب في مكان عام. فالتعديل الجوهري الذي أحدثته المادة هو السماح لغير المسلمين بصناعة الخمر والتعامل فيها مع التقيد بعدم شربها في مكان عام أو إزعاج الاخرين أو استفزازهم من خلال الشرب، وهذا أمر يجد سنده في كثير من المدارس الفقهية.
4- أثار المشككون غباراً كثيفاً حول التعديل على جريمة ممارسة الدعارة وربطوا بينها وبين حد الزنا، ومن البين أن التعديلات لم تمس حد الزنا وأبقت عليه دون تعديل، وإنما أجرت تعديلات على جريمة ممارسة الدعارة، وهي جريمة مستقلة عن الزنا حيث كان النص الأصلي في القانون يجرم وجود الشخص في مكان للدعارة بحيث يحتمل أن يقوم بممارسة أفعال جنسية أو يتكسب من ممارستها، بينما ذهب النص الجديد إلى ضبط الفعل المجرم بصورة أكثر تحديداً ومنطقية واستبعد مجرد الفعل الاحتمالي إلى القصد، فعرفها بأنها وجود شخص في مكان الدعارة بقصد تقديم خدمة ذات طبيعة جنسية لآخر بمقابل أو بدونه مع عدم وجود أي علاقة شرعية تربط بينهما، وحدد لها عقوبة لا تتجاوز ثلاث سنوات. كما عرف التعديل محل الدعارة بأنه أي مكان معد لممارسة الدعارة أو سبقت إدانة حائزيه أو تكررت الشكوى منه للجهات المختصة. وعليه فإن التعديل للمادة المجرمة لممارسة الدعارة تعديل أكثر دقة مما كان وارداً في النص الأصلي.
5- نحت التعديلات إلى إزالة غلواء عقوبة الجلد المقررة في كثير من الجرائم دون مبرر، وهي عقوبة غير لائقة ومذلة للكرامة الانسانية نفر عنها النبي الكريم، حيث ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله). فأعادت التعديلات للقانون اعتداده بالعقوبات التي تعارفت عليها التشريعات السودانية المتعاقبة.
فالحملة ضد التعديلات باسم حماية الشريعة الاسلامية حملة ليس لها اساس ولا تعدو أن تكون إثارة لمشاعر دينية دون مبرر. ولكن ذلك لا يمنع من توجيه النقد لها على أساس مدني بعيداً عن إثارة المشاعر الدينية، ومن ذلك:
1- أن المجلس التشريعي المعني بإجازة التشريعات ومن بينها التعديلات محل الحوار، والذي استوجبته الوثيقة الدستورية تم التغاضي عنه تماماً من ناحية مؤسسية ، رغم مرور الفترة الزمنية التي حددتها له الوثيقة وهي تسعين يوماً من تاريخ التوقيع على الوثيقة. صحيح أن الوثيقة الدستورية منحت سلطة التشريع لمجلسي السيادة والوزراء في حالة غياب المجلس التشريعي، إلا أن ذلك لا يعني الاحتفاظ بهذه السلطة دون حد. فقد انتهت فترة صلاحية المجلسين لاستخدام هذه السلطة وأصبحت ممارستهم لها من باب الأمر الواقع وليس من باب السند الدستوري.
2- كان يتعين أن تمر مثل هذه التعديلات بمفوضية الاصلاح القانوني التي نصت عليها الوثيقة الدستورية، حتى تجد حظها من الدراسة الوافية والتشاور مع الجهات المعنية، وقد نجم عن العجلة في إصدار هذه التعديلات أخطاء بينة منها ما يلي:
أ- بموجب التعديلات على القانون الجنائي فقد تم إلغاء المادة التي نصت على جريمة الردة ، إلا أن تعريف الحد في مستهل القانون ظل متضمنا جريمة الردة ولم يتم تعديله. وكان يتعين تعديل التعريف وحذف جريمة الردة منه.
ب- ذكر النص المعدل المستبدل بجريمة الردة ، تجريم إعلان ردة الآخرين، إلا أنه ربط ذلك بإهدار الدم، مما أفقد النص معناه ولم يمنع صور التكفير للآخرين التي تتم على المنابر العامة ولا الأماكن المفتوحة.
ج- لازمت التعديلات أخطاء لغة وأخطاء طباعية مخزية ومن ذلك ما تضمنه مستهل التشريع الذي اورد (ووقع مجلس السيادة القانون الآتي نصه) في حين أن حق الإجازة والتوقيع على القانون يتعين أن يتم بواسطة مجلسي السيادة والوزراء مجتمعين وليس مجلس السيادة وحده.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com