بين الستار الحديدى… و ستار الفقر..!! … بقلم السفير أحمد عبد الوهاب جبارة الله

 


 

 

 
ahmedgubartalla@yahoo.com
عندما أطلق السياسى البريطانى المحنك السير ونستون شيرشل عبارته الشهيره  " الستار الحديدى " فى أعقاب الحرب العالمية الثانيه فى خطبته فى فولتون بالولايات المتحده الإمريكيه ، حدد الرجل معالم قسمة العالم بين الغرب والشرق أى بين المعسكر الرأسمالى الغربى والمعسكر الإشتراكى الشرقى . وتعارف الدارسون والممارسون لعلم السياسه على ذلك الخط الفاصل بين عالمين متنافسين فى كل مجالات الحياه  ونشب بينهما ما عرف إصطلاحآ بعصر الحرب البارده الذى إنتهى بانهيار الإتحاد السوفيتى وسقوط حائط برلين فى أواخر  القرن العشرين . و لم يعد ستار ونستون شيرشل الحديدى قائمآ ، وبزغ عصر جديد فى العلاقات الدوليه تعارفنا على تسميته بعصر العولمه تارة وعصر القطبية الأحادية تارة أخرى . ولعل ونستون شيرشل لم يكن يدرى بالتحديد متى سيرفع ستاره الحديدى الذى شطر العالم شرقآ وغربآ..ومضى دون أن يشهد ذلك الحدث الدرامى الذى وقع بعد نصف قرن بالتمام والكمال.
وبرغم إصرار المهتمين والمفكرين فى ميدان العلاقات الدوليه على تسمية القرن الحادى والعشرين بعصر العولمة والأحاديه، إلا أننى لا أجد فى ذلك ما ينصف أكثر من نصف سكان العالم الذين يعيشون فى النصف الجنوبى من الكرة الأرضيه . ويؤرقنى كثيرآ أن نظل اسرى فى دائرة الفكر الإقتصادى الذى  يختصر العالم كله فى هموم العالم المتقدم وقضاياه ، ويميل إلى المجاملة وذر الكثير من الرماد فى عيون ضحايا الجوع والفقر والأوبئة فى بلدان " العالم الثالث " ... ومن أخطر الظواهر البشريه فى مجال العلاقات الدوليه ، تلك النزعه القمعيه فى إطلاق المصطلحات والمسميات التى تهدف الى تزيين القبيح وتشويش المفاهيم بصورة أربكت ذهنية الكثير من الدارسين  والممارسين على حد سواء. ويحضرنى هنا ذلك المصطلح الإستعمارى الشهير الذى أطلقته الدوائر الإستعمارية الأوروبية فى تكالبها على القارة الإفريقيه ، ألا وهو مصطلح " عبء الرجل الأبيض " .. وكانوا يقصدون به أن المستعمرين (بكسر الميم) يتحملون عبء تحضير وتطوير الشعوب المستعمره (بفتح الميم)...ولم يكن فى ذلك سوى عنجهية عنصرية لم تنطل على أحد فى البلدان التى قهرها الإستعمار واستنزف ثرواتها وحطم كياناتها الإجتماعية . وفى مقابلة ذلك، لا يفوتنى أن أنوه إلى جهد المؤرخ الكبير فى الشئون الإفريقيه، بازل ديفيدسون الذى رد على هذه الفرية التضليلية الإستعماريه بعنوان ومضمون كتابه الشهير " عبء الرجل الأسود" فى مقابل اطروحة "عبء الرجل الأبيض "...
ومن هنا يفرض منطق الأشياء علينا أن نبحث عن مصطلحات ومسميات تعبر عن واقع وحقائق عالمنا المعاصر . وهذا هو " عبء الإنسان فى العالم الثالث " الذى يجد نفسه فى معظم الأحيان فى خانة المتلقى والمستقبل..!! ويثور السؤال مرة أخرى : ما هو المصطلح المعبر عن عالم اليوم بالنسبة للأغلبية العظمى من البشر؟ والإجابة هنا – فى تقديرى – لا نجدها فى ستار ونستون شرشل الذى سقط بالتقادم ، ولا فى مفهوم العولمة والقطبية الاحاديه الذى تلوكه الألسن فى كل أنحاء المعموره...الإجابة نجدها - أيها القارئ الكريم- فى العبارة الداوية المعبره التى أطلقها أستاذنا ا لمفكر الإقتصادى الباكستانى  محبوب الحق منذ ثلاثة عقود مضت فيما أسماه " ستار الفقر " . وهو مفهوم يجسد الإنقسام المؤسف بين شمال العالم وجنوبه ، فى إطار الصيحة الكبرى التى أطلقها الناشطون والمفكرون فى العالم الثالث فى العقدين  السا بع والثامن من القرن العشرين  سعيآ وراء ما اصطلح على تسميته – وقتها -  بالنظام الإقتصادى العالمى الجديد. وأذكرأننى شرفت بلقاء المفكر الفذ محبوب الحق فى مطلع الأعوام الثمانينات عندما كان الرجل خبيرآ بالبنك الدولى فى واشنطن وكنت وقتها مستشارآ بالسفارة السودانية هناك. ولا زلت أذكر ملاحظاته وتعليقاته حول   "ستار الفقر " والحقائق المخيفه التى تفصل بين شمال العالم وجنوبه والتى تحتم على العالم منهجية خلاقة وشامله لسد الفجوة الكبيرة بين عالمين يعيشان فى عالم واحد !!  وقد مضى محبوب الحق  ولكن صدى كلماته ودراساته وأبحاثه ما زال يتردد فى أذهاننا تاسيسا على   كتابه الذهبى " ستار الفقر .. خبارات للعالم الثالث ". ومن المؤسف حقآ أن العقود تمضى والحال فى حاله بالنسبة للفجوة بين العالم المتقدم إقتصاديآ ( الشمال) والعالم المتخلف إقتصاديآ ( الجنوب).. مع بعض الإستثناءات القليلة التى لا يمكن أن تعمم فيما عرف بالنمور الآسيويه.
 ويقينى أن القرن الحادى والعشرين لا يمكن أن نطلق عليه مصطلحآ سوى أنه قرن أعباء الإنسان فى العالم الثالث... وذلك مع الإحتفاظ بمفهوم ستار الفقر الذى تحدث عنه محبوب الحق منذ أكثر من ثلاثة عقود!  ويتجسد عبء الإنسان فى العالم الثالث ، فيما أسميه إجتهادآ ب " المتلازمة الرباعيه" التى تمسك بتلابيب أكثر من نصف سكان هذا العالم البالغ سكانه ما يتجاوز الستة بلايين ونصف البليون نسمه. ومن قبيل التوضيح ، فقد ذهب بعض الدارسين الى أن العالم الثالث إذا ما قيض له أن يلحق بمستوى التقدم الإقتصادى الذى يشهده شمال الكرة الأرضية اليوم ، فإن ذلك يحتاج الى جهد مضن لحوالى قرن ونصف أو ربما  قرنين من الزمان..هذا مع أفتراض توقف النمو فى عالم الشمال عند مستواه الآن !!!  هذا الطرح الإفتراضى ليس القصد منه تثبيط همة القارئ العزيز ولكنه فقط لتقريب الصوره بالنسبة للفجوة الإقتصادية التى نتحدث عنها.
  أما عن "المتلازمة الرباعية " التى تجسد هذه الفجوه  فبمكن تلخيصها فى الظواهر الأربعه التاليه :
وأول ظواهر المتلازمه ، هو  الفقر. وقد اصطلح العالم المعاصر على تعريفه ، أى الفقر بأنه " الوضعية المحاطه  بالحرمان الشديد من  الإحتياجات البشرية الأساسيه  ممثلة فى الغذاء والمأوى وخدمات التعليم والصحه والمياه النقيه" .. ذلك حسبما ورد  فى  الإعلان الدولى الصادر عن قمة التنمية الإجتماعيه عام 1995 .  هذا علاوة على ما أتى به البنك الدولى حول المفهوم المطلق للفقر الذى صنف الفقراء بأنهم يعيشون على أقل من دولار واحد فى اليوم!!! وتزداد الصورة وضوحآ هنا إذا ما علمنا  أن حوالى ثلث سكان العالم  ينتمون إلى هذه الفئه .. مع ملاحظة أن ذلك مصحوب بما يسمى  بمشكلة إختلال توزيع الثروة فى العالم  التى نبه لها الكثير من الساسه والدارسين  ، حيث أن  واحدآ بالمائه من سكان العالم  يستحوزون على ثمانين بالمائه من دخل هذا العالم .  وحتى الآن لم ينجح العالم فى التعامل مع هذه الظاهره بما نراه من أحوال فى العالم الثالث..ولدينا ما يتجاوز الثمانمائة مليون  شخص يعانون من المجاعه ومنهم 16 الف طفل  ، يموتون كل يوم ، لأسباب مرتبطة بالجوع . تلك واحدة من أعباء القرن الحادى والعشرين ولا سبيل إلى استقرار هذا العالم إلا بالتعامل الجدى والفعال مع  ظاهرة الفقر فى العالم الثالث والتى مازال التعامل معها خجولآ ومحدودآ ..بل ولا يرقى إلى مستوى فداحتها وحجمها الحقبقى . وصدق جورج برناردشو  عندما قال : " الفقر هو أفدح الشرور ..وأكبر الجرائم ".
أما الظاهرة الثانيه فى المتلازمه ، فهى  مشكلة الديون الخارجيه ..  وهذه الديون تشكل عبئآ ثقيلا على كاهل البلدان الناميه والفقبره ، وقد انعقد الكثير من المؤتمرات على المستويات الدولية والإقليميه بحثآ عن حلول لهذه الظاهرة الخطيره .. وبرغم كل الإجتهادات التى لا تحصى فى هذا الصدد ، إلا أن العبء مازال قائمآ وثقيلا. وقد أتيحت لى فرصة الإشتراك فى عدد من هذه المحافل .. ولا أرى حلا جذريآ لهذه المعضله .  وفى كثير من الأحيان تتجاوز إستحقاقات خدمة الدين على بلد فقير ، تتجاوز دخل ذلك البلد من حصيلة صادراته !! حتى أن الزعيم التنزانى الراحل جوليوس نيريرى ، رفع صوته محتجا فى إحدى المرات  قائلا : هل المطلوب منا أن نترك شعوبنا تموت جوعا ونحن ندفع فوائد الديون الخارجيه؟ .. كما أن البعض قد مضى إلى أبعد من ذلك ، مثل الأستاذه آن لويس كولقان  ، فى ورقة نشرتها عام 2001  وصفت فيها تلك الديون بأنها " غير شرعيه ".. وذلك بالنظر إلى الظروف التى نشأت وتراكمت فيها تلك الديون ! وقد بلغ حجم الديون المستحقه على بلدان العالم الثالث مايتجاوز 2851 بليون دولار بنهاية عام 2006 بحسب ما أورده الأمين العام لمنظمة الأمم المتحده للتجارة والتنميه فى خطاب له أواخر عام 2007  . وبالنسبة للسودان فإنها تبلغ حوالى 32 بليونآ من الدولارات .. بمعنى أن كل مواطن يحمل على كاهله  حوالى الف دولار. وآفة الديون بالنسبة للبلدان فى العالم الثالث أنها تمثل إلتزامآ ماليآ خصمآ على رفاهية الأجيال القادمه . وإذا لم  يتحرك العالم  فى صورة أكثر فاعليه ، فإن كل الحديث عن فرص الإنعتاق من إسار هذه الديون  سيظل حديثآ لا طائل منه ولا فائده!                    
الظاهرة الثالثه هى آفة الغزوات والحروب الأهلية فى بلدان العالم الثالث . ومما يبعث على القلق أن القرن الحادى والعشرين قد شهد حتى الآن غزوات وحروب كبرى غير مسبوقه بالنظر إلى ما حدث فى كل من العراق وأفغانستان  كدولتين فى العالم الثالث. هذا علاوة على ما نشهده من مضاعفات فى الإحتراب الأهلى فى دول كالصومال والكونغو الديمقراطية وسريلانكا ودارفور فى السودان . ويبدو أن الرياح التى تهب من خارج الحدود تؤجج هذه الصراعات ولا يلوح فى الأفق أى تدخلات إيجابية تطفئ نيران هذه الصراعات . ويتساءل المرء حول تمركز هذه الغزوات والصراعات فى بلدان العالم الثالث وهى أشد ما تكون حوجة للهدوء والإستقرار للإلتفات الى ميادين التنمية ومحاربة الفقر والتخلف الإقتصادى. ويحضرنى فى هذا السياق   الكتاب الذى سطره  جيمس تروب عن كوفى أنان عندما وصف الأخير الصراع فى الكونغو الذى تجاوز أربعة عقود بأنه وضع شبيه بالهوة التى لا غرار لها .. حيث ترك العالم شعب الكونغو يغوص فى هذه الهاوية السحيقه. وبالنسبة لإفريقيا فتلك  ماساة كبرى ، وغيرها مما ذكرنا آنفآ من غزوات وصراعات  تدمى قلب القرن الحادى والعشرين .
ونأتى إلى الظاهرة الرابعه فى متلازمة هذا القرن بالنسبة لشعوب النصف الجنوبى للكرة الأرضيه ألا وهى آفة الأمراض الوبائية الفتاكه   . ونعنى بذلك الإيدز والملاريا بصفة خاصه. وهى فى تقديرى تشكل خطرآ ماحقآ وستظل وصمة فى جبين العالم المعاصر برغم ما بذل من جهود من الأمم المتحده وغيرها . ولا يصح لنا أن نتحدث عن حقوق الإنسان ونحن نرى الملايين فى العالم الثالث  وهم ضحابا الموت من جراء الإيدز والملاريا.
وأنا من الذين يصرون على تسمية الإيدز والملاريا بأنهما " أسلحة الدمار الشامل " فى بلدان العالم الثالث... ولا بد للعالم من ثورة صحية شامله تتجاوز ما نعرفه من هياكل وأطر للتعامل مع أسلحة الدمار هذه .
ذلك ما كان من أمر المتلازمة الرباعية التى  أراها  تحديآ للأداء الإنسانى والدولى فى القرن الحادى والعشرين.  ودعك مما يتهافتون عليه من مسميات العولمة ونهايات التاريخ .. وإن كان ستار ونستون شيرشل الحديدى قد هوى وانزاح ، فإن ستار الفقر الذى أشرنا إليه أعلاه مازال قائمآ  ومخيفآ ، خاصة ونحن نتحدث عما يسمى با لعبء الإيكولوجى للبشر على موارد الأرض والذى تفاقم بسلوك إقتصادى وسياسى لا يخلو من  صفات اللامبالاة والإسراف من قاطنى النصف الشمالى للكرة الأرضيه.
×سفير متقاعد عمل بوزارة الخارجيه والأمم المتحده.

 

آراء