حَوْليَّاتُ الحُلْمِ الانْسَانِى
السَّادِسُ والعِشْرُونَ مِنْ يُونيو (2)
كمال الجزولى
(1)
(1/1) حالت أسفار طارئة دون تمكننا ، طوال يوليو المنصرم ، من استكمال حلقات هذا المقال كما وعدنا ، فمعذرة. وكنا حيَّينا ، فى الحلقة الأولى ، ذكرى السادس والعشرين من يونيو ، اليوم العالمى لمناهضة التعذيب. وقلنا إنه ما من ممارسة يقشعرَّ لها الضميرُ الإنسانى كقهر المستضعَف بإذلاله ، وليس أكثر انحطاطاً مِمَّن لا يجد فى نفسه ذرة واعز من دين أو خلق يحول دون استقوائه ، فى لحظةٍ ما ، بسلطةٍ ما ، لارتكاب عمل شنيع كهذا.
(1/2) وقلنا إنه ، وعلى الرغم من أن آلاف الناس ما زالوا يتعرَّضون سنوياً (للتعذيب) فى أكثر من مئة بلد ، إلا أن البشريَّة تمكنت ، مع ذلك ، من رفع قضية (مناهضته) إلى قلب أولويَّاتها فوق كلِّ ما ناء به ضميرها من أوزار ، كونها عرفت أساليب التعذيب منذ أقدم العصور مقترنة أكثر شئ بأنظمة ومناهج الاعتراف الجنائى. ففى 10/12/1948م أصدرت الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة (الاعلان العالمى لحقوق الانسان) الذى ينصُّ على عدم تعريض أىِّ إنسان للتعذيب ، ثم رفدته فى ذات الاتجاه بوثيقة أساسيَّة ذات صفة إلزاميَّة صدرت فى 16/12/1966م ودخلت حيِّز التنفيذ فى 23/3/1976م ، وهى (العهد الدولى للحقوق المدنيَّة والسياسيَّة) مع (البروتوكول الاختيارى الثانى) الملحق بها. كما اعتمدت فى 9/12/1975م (إعلان حماية جميع الأشخاص من التعرُّض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة والعقوبة القاسية أو اللا إنسانيَّة أو المهينة) ، حيث تحدَّدت معاملة الأشخاص المقبوض عليهم باتساق مع (قواعد الحدِّ الأدنى المعياريَّة لمعاملة المسجونين ـ Standard Minimum Rules for the Treatment of Prisoners) التى صدرت عن (مؤتمر الأمم المتحدة الأول بجنيف حول منع الجريمة ومعاملة المجرمين لسنة 1955م) ، واعتمدت من قِبَل (المجلس الاقتصادى ـ الاجتماعى للأمم المتحدة) عام 1957م. كذلك أجازت الجمعيَّة العامَّة فى 10/12/1984م المشروع الذى أعدته (اللجنة الدولية لحقوق الانسان) ، والذى حوَّل ذلك (الاعلان) إلى (اتفاقية) دخلت حيِّز التنفيذ فى 26/6/1986م ، وهو التاريخ الذى اعتمدته الجمعيَّة العامَّة فى ديسمبر 1997م يوماً عالمياً لمناهضة التعذيب.
(1/3) وأوضحنا أن الاتفاقيَّة تعرِّف التعذيب ، وتلزم أطرافها بتحريمه ، وتنشئ لجنة خاصة لمناهضته ، كما وأن فقهاء القانون الدولى والجنائى يقطعون بأن التعذيب غير مبرَّر ، لا أخلاقاً ولا قانوناً ، علاوة على كونه عملياً بلا طائل ، حيث لا تنتج عنه ، فى الغالب ، سوى إفادات زائفة. وهكذا فإن اهتمام القانون الدولى آخذ فى الازدياد بحقوق الانسان ، وبخاصة من زاوية مناهضة التعذيب ، حتى أصبح هذا الاهتمام يشكل ، مع الاهتمام بقضايا السلام وحماية البيئة والحق فى التنمية .. الخ ، أو ما يُعرف بحقوق الجيل الثالث ، تكريساً مُرَكَّزاً لعُصارة ما تمَّ إنجازه أصلاً بالنسبة لحقوق الجيل الأول (المدنيَّة والسياسيَّة) والجيل الثانى (الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة).
(1/4) ولكننا استدركنا ، مع ذلك كله ، بأن ثمة مزيداً من الجهد يُنتظر أن يُبذل قبل أن تتحقق الانسانيَّة تماماً من محو وصمة التعذيب نهائياً من على جبينها. وهو جهد متعدِّد الأوجه ومن الخطل حصره فى إطار الأمم المتحدة والعلاقات الدبلوماسيَّة والأنشطة التقليديَّة لمنظمات المجتمع المدنى. فالأعمق أثراً من القاعدة القانونيَّة الدوليَّة الناشئة من تواثق الدول هو الثقافة التى تشكِّل الواعز الذاتى النابع من ديناميَّات العقل والوجدان الجمعيَّين ، والتى غالباً ما تتشكل لدى مختلف الشعوب والجماعات على منظومات نضيدة من ترميزات القيم المعتقديَّة الخيِّرة والمثل المتأصِّلة فى صميم الفطرة السليمة.
(1/5) وفى السياق تمنَّيْنا على المنظمة السودانيَّة لضحايا التعذيب إثراء خطابها بما يبرز نظرة مختلف الأديان والثقافات فى بلادنا لهذه الممارسة ، ويكرِّس الموقف الأخلاقى النهائى منها لدى منظومة التنوُّع السودانى. ففى كلِّ دين حكمته النبيلة المقدَّسة ، وفى كلِّ ثقافة عنصرها الانسانى الرفيع. ووعدنا بأن نلقى ، فى هذه الحلقة الثانية ، نظرة عامة على أساليب ومناهج التعذيب كما عرفتها البشريَّة عبر مسيرة تطوُّرها الطويلة باتجاه استكمال مقوِّمات إنسانيَّتها ، قبل أن نعرض ، فى الحلقة الأخيرة ، لموقف الاسلام من هذه الممارسة ، ليس باعتباره دين الجماعة المستعربة المسلمة السودانيَّة فحسب ، بل ولكونه يتداخل أيضاً فى النسيج الثقافى لتكوينات إثنيَّة مغايرة تنتمى إليها مجموعات معتبرة من مسلمين غير مستعربين فى بلادنا ، الأمر الذى يفترض التأثير المتبادل بين أنظمة القيم ، مِمَّا نعِدُّه من حُسن فأل الوحدة الوطنيَّة المأمولة. وفى ما يلى نواصل:
(2)
(2/1) كانت براءة المشتبه فيه تختبر فى المجتمع البدائى primitive society بتعريضه للوحوش وغيرها من الأشياء الضارة ، فإن كان بريئاً فإن الآلهة سوف تنجيه! وقد اعتمِد هذا النظام لاحقاً فى القانون الانجليزى القديم تحت مصطلح (قضاء الرب ـ Judicium Del أو Judgement of God). ويُطلق على نظام المحاكمة الذى يطبق بموجبه مصطلح Ordeal ومعناه (المِحْنَة!) أو (المحاكمة بالتعذيب!) وهى نوعان: أحدهما (تعذيب النار ـ Fire Ordeal) بأن يُجبر المتهم على الامساك بحديدة مُحمَّاة فى النار لدرجة التوهُّج ، أو السير حافى القدمين ، معصوب العينين ، على قطع من الحديد المُحمَّى بذات الدرجة! أما الآخر فيتفرَّع بطريقتين: الأولى (إختبار الماء الساخن ـ Hot Fire Ordeal) بإغراق ذراع الشخص فى ماء يغلى ، فإن سَلِمَتْ ثبتت براءته! والأخرى (إختبار الماء البارد ـ Cold Water Ordeal) بإلقائه فى نهر أو بحيرة دون تمكينه من القيام بأيَّة حركة سباحة ، فإن هبط إلى القاع كان ذلك (دليلاً كاملاً!) على إدانته (محمد محى الدين عوض ؛ الاثبات بين الازدواج والوحدة ، 1974م ، ص 18). وفى صور أخرى لهذا النظام كان المتهم يُجبر على تعاطى السم أو وضع لسانه على النار ، فإن كان بريئاً فلن يؤثر فيه السم أو تحرق لسانه النار! (أحمد نشأت ؛ رسالة الاثبات ، ج 2 ، ص 22).
(2/2) أشكال هذا النظام كانت معروفة أيضاً لدى عرب الجاهليَّة ، حيث كان المشتبه فيه يُعَرَّض ، بعد تحليفه ، إلى طاسة مُحَمَّاة فى النار حتى تحمر ، ثم يُرغم على لعقها بلسانه ، فإن كان بريئاً لم يُصب بسوء! وكان الرجل الذى يَعرض النار على أولئك المتهمين الحالفين يُسمَّى (المُهَوِّل). وفى إحدى قصائده التى يصف فيها حماراً وحشياً يُصوِّر أوس بن حجر الحالف وهو يشيح بوجهه عن النار التى يقرِّبها منه (المُهَوِّل) بقوله:
إذا استقبلته الشمسُ صدَّ بوجههِ
كما صدَّ عن نار المُهَوِّل حالفُ
وما يزال هذا النظام معروفاً وسط البدو فى صحراء سيناء (أحمد موسى سالم ؛ قصص القرآن فى مواجهة أدب الرواية والمسرح ، 1977م ، ص 191).
(2/3) وعند قدماء المصريين كان التعذيب أيضاً من الوسائل (المشروعة!) لحمل المشتبه فيهم على الاعتراف. ففى عهد الأسرة العشرين ، خلال القرن الحادى عشر قبل الميلاد ، كان الاله آمون يُستفتى فى المسائل الجنائيَّة ، حيث يمثل المتهم أمام (تمثاله!) ، ويسرد رئيس الكهنة الوقائع ، ثم يسأله عمَّا إذا كان هذا المتهم بريئاً ، فإن هزَّ (التمثال!) رأسه بالايجاب أخلى سبيل المتهم! أما إذا لم يفعل فإن المتهم ، حالَ إصراره على الانكار ، يُعاد إلى السجن لتعذيبه حتى يعترف! وكان المتهم يُرغم ، قبل مثوله أمام تمثال الاله ، على أداء قسم نصُّه: “لئن كذبت لأعودنَّ إلى السجن ولأسلمنَّ إلى الحراس”! ومن ثمَّ فإن خياره الغالب كان الاعتراف تفادياً للتعذيب (د. سامى حسن نشأت ؛ شرح قانون تحقيق الجنايات ، 1981م ، ص 19).
(2/4) ومارس الاغريق القدماء نظام تعذيب المتهم ، وأرسى أرسطو نفسه أساسه الفلسفى معتبراً إياه (خير وسيلة!) للحصول على الاعتراف. كما مارسه الرومان أيضاً ، ولا سيَّما فى أواخر عصر الجمهوريَّة. وامتدَّ الزمن الذى اعتبر التعذيب خلاله وسيلة مشروعة حتى الثورة البرجوازيَّة العظمى فى فرنسا عام 1789م. والغالب أن نظام (الاستجواب مع التعذيب) هو ، فى جذوره ، نظام رومانى نما فى أواخر العصر الجمهورى وبدايات العصر الامبراطورى. وكان مقصوراً ، أول أمره ، على الأرقاء وأهل المستعمرات ، ثم ما لبث أن طال المواطنين الرومانيين أنفسهم مع مطالع الحقبة الامبراطوريَّة ، وذلك فى جرائم الخيانة العظمى ، قبل أن يصار إلى تطبيقه فى كلِّ الاحوال.
(2/5) وفى التاريخ القروسطى الأوربى ، وبخاصة فى ملابسات المواجهة التى احتدمت بين العلماء والاكليروس الكنسى ، استخدم التعذيب كوسيلة للحصول على الاعتراف confession سواء فى النظام الاتهامى الذى ساد لاحقاً فى انجلترا وأمريكا وسائر البلدان التى نهلت من القانون الانجلوسكسونى ، أو فى نظام التحقيق الفرنسى (القارى ـ Continental). ففى انجلترا كان الاعتراف ينتزع ، خلال القرون الأربعة عشر الأولى للميلاد ، بالتعذيب. ومع ذلك فقد اعتبر مقبولاً أمام القضاء (Nokes; G.D. An Introduction to Evidence, p. 293). وكانت الطريقة السائدة هى إلقاء المتهم شبه عار فى كهف مظلم تحت الأرض ، ووضع ثقل من الحديد فوق جسده ، وتقديم الخبز الفاسد والماء الآسن له حتى يعترف أو يقضى نحبه! (اللواء محمود عبد الرحيم؛ التحقيق الجنائى العملى والفنى والتطبيقى، 1963م ، ص 11).
(2/6) ومنذ القرن الثالث عشر الميلادى بدأت فى الانتشار فى أوربا ، وبخاصة فى إيطاليا ، المحاكم سيئة الصيت التى دخلت التاريخ باسم (محاكم التفتيش ـ Inquisition) ، وذلك بدعوى ملاحقة الهراطقة باسم الكنيسة الكاثوليكيَّة ، على حين كانت ، فى حقيقتها ، واحدة من أبشع صفحات الاستهداف للفكر السياسى المعارض للاقطاع آنذاك. وقد اتخذت تلك المحاكم شكل المؤسسات القضائيَّة المستقلة عن جهاز الدولة ، والتى تتبع مباشرة للبابا وممثليه. وبلغت أوج نشاطها خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ، ونشرت ، بإجراءاتها السريَّة ، الرعب والفزع على أوسع نطاق (التاريخ الشامل للعالم “بالروسيَّة” ، المجلد 3 ، موسكو 1957م ، ص 398). وقد صارت لمصطلح (محاكم التفتيش) ، فى ما بعد ، دلالة تنسحب على كل تحقيق تعسُّفى arbitrary ، أو استجواب قاس لا يقيم اعتباراً لحقوق الانسان الأساسيَّة ، وبخاصة فى ما يتصل بالتعذيب لأغراض انتزاع الاعترافات من متهمى الرأى والضمير.
(2/7) هكذا نستطيع أن نرى إجمالاً ، وبوضوح ، أن تاريخ المجتمعات البشريَّة ، من أقدم وأكثر أشكالها بدائيَّة وحتى عقابيل القرون الوسطى فى أوربا نفسها التى ملكت العالم بأسره فى عصر الاستعمار التقليدى ، وفرضت مركزويَّتها الحضاريَّة والثقافيَّة عليه ، مرزوء إلى حدٍّ فاجع بسيرة التعذيب كوسيلة لانتزاع الاعتراف. وللمزيد من الدقة فقد اعتبرت هذه الممارسة اللاإنسانيَّة ، طوال الحقبة الممتدة من القرن الثانى عشر الميلادى وحتى الثورة الفرنسيَّة أواخر القرن الثامن عشر ، من النظم الاجرائيَّة الطبيعيَّة فى التشريعات الأوربيَّة. فحيثما عجز الاتهام عن الحصول على أدلة حاسمة ، أو بالأحرى حيثما لم يستطع المحقق “أن يحصُل من المتهم على شئ” ، حسب تعبير (الأمر الملكى الفرنسى لسنة 1539م) ، فإن اللجوء إلى التعذيب كان يقع ضربة لازب ، بل وكان يبدو عادياً بالنسبة للذهن العام فى تلك الدرجة من تطور الفكر الأوربى. وكانت لكل إقليم طرقه فى التعذيب ، ولكل محكمة أساليبها الخاصة التى تعرف بها. فقد قضى (الأمر الملكى الفرنسى لسنة 1670م) ، مثلاً ، بأن يستجوب المتهم ثلاث مرَّات: قبل التعذيب ، وأثناءه ، وبعده. وسُمِّى هذا الأخير (إستجواب المرتبة) نسبة إلى (المرتبة) التى كان يُطرحُ عليها المتهم بعد عمليَّة التعذيب. وكان يُطلق على الاستجواب كله بمراحله الثلاث (الاستجواب التحضيرى ـ Question Preparatoire) تمييزاً له عن استجواب تعذيبى آخر أصطلِح عليه (بالاستجواب النهائى ـ Question Definitive) ، وهو الذى يخضع له المحكوم عليه بالاعدام للحصول منه ، بعد الحكم عليه ، على بيانات ضد شركائه accomplices (سامى صادق الملا ؛ إعتراف المتهم ، دراسة مقارنة ، 1969م ، ص 8 ـ Encyclopedia Britanica, v. 22, London 1965, p. 314).
(3)
(3/1) لكن ، ولأن “التعذيب لا دين ولا مذهب ولا مبدأ له ، وأن كلَّ من يُلبسه ثوب عقيدة أو أيديولوجيا إنما يفعل ذلك لإشباع روح العدوانيَّة عنده ، ولإلغاء مفهوم الكرامة عند من يخالفه الرأى أو المعتقد” (هيثم مناع ؛ الضحيَّة والجلاد ، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان 1995م ، ص 36) ، وبرغم أنه بقى حتى الآن “مزروعاً فى معظم الثقافات البشريَّة التى لم تجر بعد إعادة النظر فى مكوِّناتها بشكل يستهدف أنسنتها” (المصدر نفسه ، ص 33) ، فإن النزعة التى ظلت تسود مع ذلك ، شيئاً فشيئاً ، عبر المسيرة الطويلة المعقدة لهذه المجتمعات على مدارج استكمال أشراطها الإنسانيَّة ، مدفوعة بواعز القيم المعتقديَّة من جهة ، والثقافة المستندة إلى الفطرة السليمة من الجهة الأخرى ، وربما كأثر من تفاقم مشاعر الحرج التشريعى لديها جرَّاء ذلك التاريخ المُثقل بالأوزار ، هى اعتبار (الأصل) فى (الاعتراف) أنه دليل مشوب بالشبهات ، ومن ثمَّ الاتجاه نحو توطين استبشاعه فى ثقافة حقوق الانسان ، والتقليل من أهميَّته فى كلٍّ من القانون والممارسة القضائيَّة.
(3/2) ففى منتصف القرن الثامن عشر ، ومع تطور مفهوم العدالة فى الفكر الانسانى ، هاجم الفلاسفة والمفكرون والكتاب الغربيون ، أمثال مونتسكيو وبكاريا وسيرفان وغيرهم ، استخدام تلك الأساليب الوحشيَّة. فنتج عن تلك الحملة التنويريَّة أن ألغى لويس السادس عشر (الاستجواب التحضيرى) عام 1780م ، كما ألغى (الاستجواب النهائى) عام 1788م ، ثم ما لبث أن صدر فى عام 1789م (الاعلان الفرنسى لحقوق الانسان والمواطن) فى مناخات الثورة البرجوازيَّة العظمى التى دفعت بقضيَّة توقير الكرامة الانسانيَّة إلى مكانة متقدمة.
(3/3) ولعل اللافت للنظر ، بوجه خاص ، أن (قانون التحقيق الجنائى الفرنسى) الذى صدر فى ذلك السياق قد أغفل أىَّ ذكر (للاعتراف) ، ناهيك عن تنظيمه. كما وأن (قانون العقوبات الفرنسى) نصَّ صراحة ، ولأول مرَّة ، على تجريم التعذيب ومعاقبة الموظف الذى يرتكبه. أما فى انجلترا فقد ظهر مبدأ (الاعتراف الاختيارى) عام 1775م ، ولم يعُد يُقبل فى الاثبات سوى الاعتراف الصادر عن إرادة حرَّة ، حيث تقرر أن ثمة افتراضاً قانونياً ينهض مع بداية كل محاكمة جنائيَّة تشتمل على اعتراف أدلى به خارج المحكمة بأنه غير اختيارى. فإذا لم يستطع الاتهام ، ابتداءً ، إثبات أن هذا الاعتراف قد أدلى به طواعية واختياراً فإنه لا يقبل كدليل فى الاثبات. وعلى حين استقرت القاعدة على أن المستوى المطلوب من الاتهام هو الاثبات دون أى شكًّ معقول beyond a reasonable doubt ، فإن الدفاع يكفيه فقط إثارة ظلٍّ من هذا الشك (سامى الملا ؛ ص 3 ـ 69).
(3/4) ويبدو أن هذه القاعدة مؤسَّسة جيداً على الحكمة اللاتينيَّة القديمة (nemo auditore perire volens ـ ليس ثمة من يرغب فى أن يهلك نفسه بنفسه). وقد ساد العمل بمبدأ (الاعتراف الاختيارى) ، منذ ذلك التاريخ ، فى تشريعات كلِّ بلدان العالم ، بما فى ذلك بلدان التشريعات اللاتينيَّة ، كفرنسا وألمانيا واليابان وهولندا والمقاطعات السويسريَّة المختلفة ، وبلدان التشريعات الانجلوسكسونيَّة أو الأنجلوأمريكيَّة ، كإنجلترا وأمريكا والهند ونيجيريا والسودان ، علاوة على البلدان الاشتراكيَّة كالاتحاد السوفيتى السابق (م. ل. ياكوب ، الاجراءات الجنائيَّة السوفيتيَّة “بالروسيَّة” ، موسكو 1968م ، ص 147).
(نواصل)