صدي الزمان والأمكنة .. بقلم : د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي

 


 

 

 


بقلم : دكتور طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
المملكة المتحدة

لكل من الزمان والأمكنة حضوراً قوياً في حياتنا يظل رحيقها وصدي ذكرياتها الخوالي بلسماً يشفي تراكمات ضغوط الحياة التي صارت جداً سريعة ومعقدة الأطوار. وما قول الشاعر كم منزل فى الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل لدليل على أننا مهما ننتقل أو نسافر وتتحسن أحوالنا في بلاد ظروفها أرحب تظل داخل الجوانح قديم ذكريات الطفولة والمدارس ومراحل الصبا والمراهقة وما بعدها من مرحلة مثل دخول الجامعة أو خلافها من حياة عملية. فصور الماضي قد تلوح أحياناً فى خاطر المرء فجأة أو بفعل حدث ما أو خلال رؤية منامية. وعلى كل حال أعتقد أن إجترار ذكريات الماضي ( وصفاً أو كتابة شعراً ورسماً) لفيه فى بعض الأحيان علاج نفسي ومجاني من غير مضاعفات جانبية

من دواعي الغبطة والسرور أن أعود إلي أرض الوطن الحبيب نهاية كل عام لكي ألتقي مرة أخري بالأهل والأحباب. هذه المرة وفقنى الله أن أجمع الأهل والأصدقاء و من الصحاب الكثير من عشاق الفن التشكيلي خلال إقامة معرضي الفني ( صدي الزمان والأمكنة ) الخامس من نوعه في السودان، والثالث علي أرض مركز شبرين للفنون ودراسات الحضارة، بالخرطوم في حي الرياض. كان ذلك في الفترة ٢٢-٢٩ من ديسمبر ٢٠١٦

هذه المرة جاء المعرض مرتكزاً علي اللونين الأسود والأبيض . أردت أن أبرز للمشاهد ما فيهما من جماليات قد لا يتنبه لها المواطن الذى ليس له علاقة بالفنون، أو لأنه قد تعود عليهما أثناء حياته اليومية. إضافة إلي ذلك نجد أن من المواطنين من لا يفضل اللون الأسود مثلاً عند إختياره الأزياء أو أشياء أخري. ذلك ربما للأسف لم تقع أبصاره وغيره علي المواطن الحقيقية لجمال هذا اللون ووجوده القوي في ما حولنا من أشياء بل حتي في كل المخلوقات بما فيها الإنسان نفسه. في عالم الصناعة مثل السيارات والأجهزة الأليكترونية والملابس الفاخرة غالية الثمن نجد أن لللون الأسود أكبر مساحة فيها من غيره من الألوان الأخري بما فيها الأبيض بالتحديد. والحقيقة الغائبة لدي الكثير هي أن كل اللونين يكملان بعضهما البعض ولا استغناء عنهما حتي في مجال التلوين بإستخدام الألوان الأخريات. كذلك لا يمكن لأي صورة أن تكتمل من غير إدراج اللون الأسود لكي يتم تكوين درجات الظلال المختلفة وبالتالي وضوح تفاصيل الرسوم أو الصور الفوتوغرافية.

كان المعرض عبارة عن أعمال وإن جاءت تجريدية اللمحات والتركيب هذه المرة فإن لفيها تحدي لما فات من السابقات لصعوبة الرسم بهذين اللونين والذي يحتاج إلي دقة ومهارة وصبر لتفادي الأخطاء التي لا يمكن إصلاحها. تلك الأعمال وإن إختلفت مساحاتها فإنها تحمل في أضابيرها لون وعمق هويتي الأفريقية السودانية النوبية عربية اللسان. وتعبر في أحيان عن خلجات نفسي وحنين مدفون في الجوانح لقصص وأحاجي عشت فيها متعة الطفولة الباكرة وجدتي المرأة المربية الصالحة أمنة بنت عبدالله كانت لا تتوانى كل ليالي الشتاء الباردة دامسة الظلام لتحكي لنا عن فاطمة السمحة وأبوزيد الهلالي وود أبكيشونة والغول والساحرات والعفاريت . كانت تعِّدُنا هكذا وتغني لنا لنكون نجوم غد مشرق وفرسان لا يعرفون الخوف ولا يترددون. ومن ثم دخلنا المدرسة الإبتدائية وكم كان فيها من روائع وطرب النشيد الحلو وأثر القصص الأسبوعية الجميلة وحصة الأعمال اليدوية الأسبوعية التي كنا نتظرها بشوق شديد . تلك كانت أياماً حلبي بخيال طفولة كان واسعاً لم تزحمه وتزاحمه تكنولوجيا متقدمة أو ما يشابه مثل أدوات هذا العصر الرقمي المذهل. هذا الخيال الرائع الخصب جاء هكذا نتيجة طبيعة البيئة السليمة وتلك التربية العفوية والحياة السهلة الجميلة التي أشبعتنا متعة وجمالاً. صرنا نكتشفه ونحسه في كل الأشياء حولنا . حتي عندما كبرنا وصار قدرنا العيش والترحال في أرض الله الواسعة في هذا العالم ، من ضمنها بلاد صرنا نشم في أجوائها و أزقتها عبق ألف ليلة وليلة ولوحات جميلة تتراءى لنا من أشعار العرب القدماء وحتي شعراء بادية السودان الغنية بالتراث والفنون الجميلة الراقية. وفي أروبا كذلك كانت شخوص تتراءى لنا من قبل شيكيسبير وجالرس ديكنز وبيرناردشو وغيرهم

إنني أشكر من الأعماق البروفيسور شبرين علي تشجيعه ودعمه المستمر لشخصي الضعيف لكي لا أترك هذه الهواية فتموت . من غير هذا التشجيع القوي المستمر ربما لم ير ذلك المعرض وسابقاته النور كمولود جديد في عالم الحقيقة التشكيلية. التعلق بالفنون لا يتعارض مع مهنتي كطبيب ممارس. علي العكس هذه العلاقة تزيدني تميزاً وجمالاً في أداء عملي وتعاملى حتي في لغة تخاطبى مع المرضي وكذلك مع زملائي من أطباء وهيئة تمريض. تنمية الحس الفني خاصية إيجابية يدركها المرء في تذوق كل ما يشاهد من ممتع و جمال خلال حياته اليومية.

المعرض وجد قبولاً ونجاحاً منقطع النظير والحمد لله. وأقيمت في ختام العرض ندوة نقدية بحضور لفيف من أساتذة الفنون الرواد بإدارة الأستاذ التشكيلي والناقد المعروف محمد حسين الفكي. كان محور الحديث عن أهمية الفنون في حياة الإنسان وأهمية الألوان في تربية الذائقة والسلوك وأهمية اللون الأسود وصعوبة التعامل معه كما تبين في المعرض. أيضاً كان هناك نقاش طويل عن الهوية وتعرضهم لذكر الغابة والصحراء و ماهية الجمال عند الشعوب المختلفة وأن اللون خاصة الأسود هو سيد الألوان . ركز الأستاذ محمد حسين علي أن الجمال وتقيمه شعور شخصي وفي حالات كثيرة ربما لا يكون في المظهر أو الشكل، إنما عقيدة ومفهوم مجازي وتعمق في جوهر الأشياء. أيضاً قد يكون نتيجة قبول عادات متوارثة نتيجة ثقافات تختلف هي بإختلاف الزمان والمكان. مثلاً الشلوخ ووشم الشفاه و" مشاط" الشعر عند نساء السودان سابقاً كانت سمة الجمال للحسان وقد حفلت بها أغاني الحقيبة وآشعار الغزل فى ذلك الزمن. أيضاً كمثال آخر تعرض الأستاذ محمد حسين الفكى إلي ذكر الشعور بجمال حجاب المرأة عندنا نتيجة علاقته بعقيدتنا الدينية في حين قد يرونه قبيحاً في بلاد أخرى لم تتعود عليه أعينهم أو لا تتقبله ثقافتهم . شمل الحديث أهمية العودة إلي تدريس الفنون بالمدارس وحبذا أن يكون منذ بدايات الأساس . وأشاد الجميع بالمخزون والتنوع الفني المميز الذي يتمتع به السودان دون غيره نتيجة تراكمات حضارية تمتد آلاف السنين قبل ميلاد المسيح وكذلك نتيجة تعدد الإثنيات بثقافاتها المختلفة. من جانبهم تقدم مشكورين كل من الأساتذة شبرين وحسين جمعان "الذي شرفني بإفتتاح المعرض" ومحمد حسين الفكي بالتعليق كتابة عن المعرض وسوف أضمن ذلك في مقالة قادمة قريباً بإذن الله

الشكر مرة أخري لهذه الضيافة الكريمة التي يقدمها دائماً مركز شبرين للفنون لكل فنان تشكيلي لكي يتمكن من عرض أعماله من غير أجر يطالب به. هذا لعمري قمة الأريحية والكرم والفرصة الذهبية التي يوفرها الأستاذ شبرين لتلاميذه المحترفين الذين بفضل الله تخطت أعمالهم الحدود إلي الأسواق والمتاحف العالمية. لذلك أوصي كل أهل التشكيل أن يغتنموها ويكثرون من الدعاء بأحسن الجزاء والشفاء للبروفيسور أحمد محمد شبرين وأسرته الكريمة. هذا المركز يتميز ببراح المساحة الكافية لإستيعاب أكبر معرض وأكبر عدد من الزوار كما أنه يتميز بسهولة الوصول إليه من غير عناء

الشكر لكل الضيوف الكرام وأساتذة الفنون العديدين الذين تشرفت بحضورهم وملاحظاتهم والقنوات الفضائية المميزة ( النيل الأزرق والشروق وسودانية ٢٤) والكاتبة الصحفية القديرة السيدة تيسير حسين (صحيفة الإنتباهة اليومية) علي كرمهم وتغطيتهم فعاليات المعرض. كذلك أشكر أشقائي و كل من حضر وعلي تكرمهم بوقتهم الثمين. أتمني صادقاً للكل أن يكونوا قد وجدوا في بعض هذه الأعمال ما بعث في نفوسهم نوستالجيا ذلك الزمن الجميل وذكريات بواكير الصبا أو وقفات ذات معني أثناء رحلة الحياة عبوراً بمحطاتها المختلفة. وسيظل اللون الأسود في إعتباري سيد الألوان ورمز الجمال والإغراء والخلود علي هذه الأرض حتي تموت. هنيئاً لأهل السودان السمر الغر الميامين الكرماء بخاصية التفرد بهذا اللون الجميل والحمد لله.

عبدالمنعم
drabdelmoneim@yahoo.com

 

آراء