بقلم/ كمال الجزولى
فى غمرة انشغاله بنفى أن يكون تواتر (التظاهرات) الرافضة للأوضاع فى دارفور أمام مبنى سفارة السودان فى واشنطن هو السبب فى قرار إغلاقها مطلع الأسبوع الأخير من أغسطس المنصرم ، صرَّح وزير الخارجية السودانى بأن “التظاهرات لا تغيِّر ولا تبدِّل وقد تعوَّدنا عليها!” (الأضواء ، 26/8/04).
لو ان السيِّد الوزير استهدف بتصريحه هذا أن يرُدَّ على تحرُّك داخلى بحت لما لفت الانتباه ، دع أن يثير الدهشة ، اللهم إلا إذا كان يريد أن يثبت أن السياسة الخارجية هى امتداد للسياسة الداخلية .. بذات المناهج والأساليب! ذلك أن الرأى العام السودانى قد (تعوَّد) بالفعل أن تتجاهله الحكومة مهما علت صيحاته ، وأن تصُمَّ آذانها عن احتجاجاته فى أيَّة صورة جاءت!
أما والحكومة تشكو من أن (النظام العالمى) قد (تكالب) على (قصعتها) فى دارفور ، الأمر الذى يَستلزم ، بالعقل ، أن تسعى لإقناع (الشعوب) بأنها مظلومة ، ويستوجب ، بالمنطق ، أن تستعين بالحكمة التى تفترض ضرورة أن (يُسْعِد النطق إن لم يُسْعِد الحال) ، ثم يجئ ، مع ذلك كله ، تصريح السيِّد الوزير هازئاً (بالتظاهرات) ، مِمَّا يعنى الاستخفاف (بالشعوب) ، لا (بالحكام) ، فليس من المحتمل ، والأمر كذلك ، أن يختلف اثنان ، بأىِّ معيار دبلوماسى أو سياسى ، على كونه لم يُصِب أدنى قدر من التوفيق.
وبالفعل فإن أسوأ ما فى هذا التصريح أنه لا يخاطب ، فى حقيقته ، إدارة بوش ، بل المجتمع المدنى الأمريكى ، ومن خلاله شعوب العالم قاطبة ، أولئك الذين ما تنفك تهزُّ وجدانهم ، صباح مساء ، وتصدم ضمائرهم أنباء القتل والحرق والاغتصاب تمضغها وتثفلها الصحف ووكالات الأنباء على مدار الساعة ، علاوة على مشاهد الراكضين والراكضات فى الفضائيات باتجاهات البرارى كلها ، كأسراب نعام أغبش مذعور يهرب جوعان ظمآن من مصائر يراها هؤلاء الناس بالعين ، وينكرونها بالفطرة ، ولكنهم لا يملكون إزائها سوى الاحتجاج ، كما فى التقليد المتبع ، لدى سفارة البلد المعنى فى دولتهم.
وكما فى التقليد المتبع أيضاً فقد درج أعضاء هذه البعثات الدبلوماسية على استقبال مثل هذه (التظاهرات) بهدوء ثلجىٍّ ، والاستماع لتعبيراتها الغاضبة بالصبر الواجب ، سواء كانت مكتوبة أم شفاهية ، مع الوعد المؤكد برفعها لحكوماتهم ، صرف النظر عن كونهم متيقنين من أنها ، فى المحصلة النهائية ، “لن تغيِّر أو تبدِّل”! وما أكثر ما شهدنا مثل هذا السلوك من سفارات غربية فى الخرطوم ، سعياً لإعطاء انطباع قوى ، حتى وإن كان كاذباً ، بأن حكوماتها تحترم رأى الشعب المضيف ، وذلك يوم كان النظام يُيسِّر (للتظاهرات) المؤيِّدة له أن تشق طريقها إلى بوَّابات هذه السفارات!
الشاهد أنه ، وإن يكن من غير المستبعد ، بحسب الحال ، أن يلجأ جهاز الدبلوماسية فى أىِّ بلد إلى لغة الجفاء الماسخة لدى مخاطبته (لحكومة) بلد آخر ، إلا أنه ليس من المفهوم أو المهضوم ، فى كل الأحوال ، أن يستخدم هذا الجهاز مثل هذه اللغة لدى مخاطبته (للناس) العاديين فى ذلك البلد ، دع أن يفعل هذا رئيس الجهاز شخصياً بقوله لأولئك (الناس) الذين يعبِّرون عمَّا يعدُّونه تضامناً نبيلاً منهم مع مواطنيه هو فى ما يتعرضون له من مآسى: “إن كلَّ ما تقولونه لا قيمة له .. فهو يدخل من هنا ويخرج من هنا” ، مشيراً بطرف سبابته إلى كلتى أذنيه على التوالى!
وما يزيد الأمر غرابة أن السيِّد الوزير قد عَمَد ، صراحة ، للكيل ، فى مناسبة أخرى ، بمكيال آخر ، عندما “طالب المجتمع المدنى السودانى بالقيام بدوره تجاه الأسرى الفلسطينيين فى السجون الاسرائيلية!” (الصحافة ، 26/8/04). فما تراها القوة التى يتصور السيِّد الوزير أن تستخدمها جماهير عزلاء لا تملك صواريخ ترجم بها إسرائيل ، وإن رغِبَت ، أو قوات (كوماندوز) تحرر بها هؤلاء الأسرى ، وإن تمنت؟! وما تراه ، إذن ، الدور الذى يتصور أن يقوم به المجتمع المدنى ، فى هذه الحالة ، سوى الاعلان الصارخ عن تضامنه القوى مع هؤلاء الأسرى ، وإطلاق تعبيراته الاحتجاجية بشتى الأشكال ، ومن بينها ، بالطبع ، (التظاهرات) الغاضبة على أسلوب معاملتهم فى السجون الإسرائيلية؟! أفلو فعلوا ، وردَّ عليهم وزير خارجية إسرائيل بأن “ما يقولون لا قيمة له” ، أتراه سوف يغضب وزير خارجية السودان ، ناهيك عن أن يجد منطقاً يرفض به هذا الرد؟! أم أن سيادته يعتقد ، حقاً ، أن بمستطاعه أكل كعكته والاحتفاظ بها فى نفس الوقت؟!
ولعل مِمَّا يفاقم من حالة الاستغراب ، على نحو خاص ، أن السيِّد الوزير لم يكن محتاجاً أصلاً لأن يقول ما قال! فقد وردت عبارته محل هذا النقد فى سياق تبريره لإغلاق سفارته فى واشنطن ، حيث كان حديثه منصباً على الصعوبات التى واجهتها هذه السفارة جراء قرار البنك الأمريكى الذى تتعامل عن طريقه بقفل حسابها لديه ، الأمر الذى جعلها تخفق فى سداد مستحقات العاملين وفواتير خدمات الكهرباء والهاتف .. الخ ، علاوة على تخوفها من المساءلة عن مصادر أموالها وأوجه صرفها (الأضواء ، 26/8/04).
فما الذى اضطر السيِّد الوزير للانزلاق مِمَّا هو فيه إلى الزراية بالمواطنين الأمريكيين الذين درجوا على التعبير عن احتجاجهم على الأوضاع فى دارفور أمام مبنى السفارة ، والسخرية منهم ، وتبخيس مواقفهم ، علماً بأن فيهم بعض صناع الرأى فى ذلك البلد من كتاب وأدباء وسينمائيين وصحفيين وغيرهم؟!
أخشى أن تكون الاجابة هى أن سيادته ، والذى يُعتبَر من أعقل عقلاء النخبة الحاكمة ، قد شعر بالاستفزاز مِمَّا تردِّده بعض أجهزة الاعلام العالمية التى ترجع السبب الحقيقى فى قرار الاغلاق إلى تلك (التظاهرات) ، وليس إلى أىِّ شئ آخر (الرأى العـام ، 26/8/04) ، لأن ذلك ، إن كان ، كذلك ، فسوف يكون ، لعمرى ، هو عين العذر الأقبح من الذنب!