لحظة البكاء خارج أسوار لندن (2)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم عندما قرأت قصة ( بستان النخيل ) للقاص دينيس جونسون ديفيز المستشرق الأنجليزي الذي قال عنه المفكر المعروف أدوارد سعيد   أنه رائد ترجمة الأدب العربي الحديث للأنجليزية ،  تلك  القصة  المأخوذة من مجموعته القصصية الكاملة  الصادرة بعنوان ( مصير سجين ) من دار كوارتت بلندن ، لمست بحق ذلك الجانب الذي كنا  نجهله عن العالم الداخلي للأمبراطورية البريطانية  الآفلة نجمها ،  و عن رؤية و أحاسيس و مشاعر فئة من أبناءها  الذين قادتهم قلوبهم و آحاسيسهم الى الجانب الآخر المجروح منها بخنجر الأستعمار وسهام العبودية .  في هذه القصة أستطاع الكاتب  أن يقود أي قارئ لها  بسيطا كان أو حصيفا  من خلال الكلمات و العبارت و الأوصاف البسيطة و الجميلة  التي صور بها  البيئة السودانية ، أستطاع  أن يقوده   الى براحات   مخزونه العاطفي الهائل الذي تختزنه ذاكرته  عن الجوانب  الأنسانية  و الثقافية  و الأجتماعية الجاذبة  التي   حفلت  بها  حياته و طفولته  في السودان  وظلت عالقة بذهنه  . كما  أنه  برع أيضا و في أطار  أدبي راقي في  أعادة طرح قضية  العلاقة الجدلية للأنسان الغربي بالشرق من وجهة رأي و فكر جديدين على الساحة الثقافية و الفكرية  للمجتمع الأوربي عبر  توصيل مجموعة من الأشارات و الرسائل الأيجابية  حولها  ( من خلال أحداث القصة)   للغرب  المتمترس تارة عبر مثقفيه بثقافة الأستعلاء على الشرق ، أو تارة أخرى عبر باحثيه بثقافة الجهل بلآخر ! ! ؟    هذا وأني أستميح القارئ الكريم عذرا  في أن  أخوض  في بداية مقالنا هذا  في لجج  المقاصد و المحاور التي أستقيناها  فهما و تحليلا وأدراكا  لما قراناه  بين السطور للعبارات التى جاءت في تلك  القصة القصيرة  ، على أن نعود  بعدها لطرق أبواب الأستنتاجات  أو الخواطر  التي  أنتابتنا   بعد  أن سلمنا  أنفسنا  لشجن العبير النفسي  المنبعث من روح الكتابة و  الذي أخاله قد جارى طوق الياسمين بهاءا ونضرا  . وأني لأحسب أنني  قد وجدت ضالتي في  هذا العمل  بعد  توالي  تكرار القرأءة و التمعن و التأمل في  في  متونه ، دون أن أنفي عن نفسي تهمة البحث وطلب المعرفة  لسيرة هذا المستشرق الأنجليزي الواسع النشاط  في  معمورتنا  الخضراء  بهوية  العروبة  و  الأسلام  ،  حتى أمزج في الأخير  محيط الحياة العامة للقاص  بوحى الكتابة الأدبية  ، وهذا لعمري مبلغ القياس النظري  لمعظم  الأدباء و الشعراء مع محيط بيئاتهم الطبيعية الملهمة للأبداع  . هذا وسوف ندخر ذكر جزء من  نشاط الكاتب الكبير الى آخر المقال  حتى ندلف سريعا  الى  محاور بيانه الأدبي  الذي  حملت    ( بستان النخيل )  لمحاته  و أشاراته  التالية و التي رأينا فيها   . . .   حب الكاتب الشديد لهذه الأرض و أرتباطه النفسي العميق  بالكثير من موجوداتها الثقافية و الأجتماعية .  سعيه  الشخصي لأزالة ثقافة الرفض و التوجس والريبة العمياء  التي تعشش في عقلية الأنسان الشرقي لكل ما يتعلق بالغرب ، و يرتبط بأهله دون أدنى أي تمييز . أعتقاده  بأمكانية تشكيل أطار أنساني و ثقافي و أجتماعي جديد يربط أنسان الشرق بأخيه في الغرب ، عبر ضرورة التواصل المستمر بين الطرفين و السعي الدؤوب  للتعريف بالحضارات التي شكلت واقعهما الآني المعاش  عبر حركة الترجمات للأعمال الأدبية  والتى كان له  هو نفسه دورا كبيرا فيها  .  الأختلاف في العقائد و الأديان لا يمنع البتة من قيام مجتمع حضاري أنساني عالمي متسامح مع الآخر الغريب ، على قاعدة الحد الأدنى التي تربط الجميع بهدف فلاحة الأرض وعمارتها لما فيه خير للبشرية جمعاء  هذه  المقاصد التي عالجها الكاتب من خلال القصة أراد لها أن تستكين في العقل الغربي حتى يحدث عبرها المقاربة ، وسوف يظهر ذلك جليا لقارئ مقالنا حينما  ننقل له قطفات سريعة من بعض الجمل و العبارات التي سيقت في أحداثها  ، والتي أجلت لنا ماذهبنا أليه من تحليل و قراءة  أدبية  أعلاه عنوانها العريض  حب هذا الكاتب و المترجم الكبير للسودان وأهله عموما وللشرق العربي و الأسلامي  خصوصا   .   يقول الكاتب في بداية أحداث ( بستان النخيل )  في وصفه لطبيعة البيئة في السودان و تحديدا في الشمال . . ( توقفت الحمير الثلاثة خارج البوابة المذدوجة ذات الحليات المعدنية . كان الوقت في بداية الأصيل ، و ظلال الحمير و ركابها تميل بزاوية نحو السور الطيني العالي  الذي كان يطوق النخيل من ناحية ، والنيل يحده من الناحية المقابلة ) .  ثم  يقول أيضا ( كان الولد الأبيض – يقصد البريطاني – يحمى رأسه من حرارة الصيف السوداني الشديدة بقبعة واسعة من اللباد المذدوج ) ، ثم  في جزء آخر منها  ( كان بستان النخيل  المكان الذي يلعب فيه جعفر - السوداني أبن القرية -  مع الولد الأبيض بين النيل و الصحراء المحيطة به ) .   ثم يعكس للقارئ في جزء أخر طبيعة و نوعية طفولة الأنسان السوداني البسيطة بالقرية  ، عندما يمر على مسألة لعب بطلا القصة  (جعفر و دايفيد )  بالطين  حالهما  في  ذلك حال معظم أطفال السودان . . .   فيقول   ( أنتقل الولدان الى مكان منبسط في البستان  خلف الساقية حيث كانا قد وضعا بعض التماثيل الطينية لتجف في الشمس ) . وعن  تواضع الشخصية السودانية المتمخضة من محيط القرية الأجتماعي البسيط  ، و قدرتها الفطرية على كسر الحواجز النفسية مع الأخر الغريب خصوصا في الفوارق الطبقية منها ، أفردت له القصة الواقعة  التالية . .  ( قام الولد الأنجليزي بتقسيم قطع الحلوى التي أعدتها له أمه بينه وبين جعفر ، ولكن جعفر أصر أن يأخذ شاكر – خادم الولد الأبيض – نصيبا مماثلا لهما ، و وافق الولد الأنجليزي على مضض ! ) . حتى مسألة  التسامح الديني التي يتميز بها المجتمع السوداني المحافظ  عن بقية مجتمعات العالم الأسلامي الأخرى ، لم تفت عن ذهن القاص ولم ينسى أن يذكرها  بأشارة سريعة و ذكية في معرض القصة ، حينما يقول . . ( صرخ الولد الأبيض ، والذي كان أسمه الحقيقى دايفيد ، والذي كان يناديه جعفر  داؤود أنا الكسبان ! ) .كما أن القصة لم تتجاوز التنبيه  لمركب العاطفة الكبير الذي يعتمل  كيان الشخصية  السودانية  خصوصا في تفاعلها  مع  الأحداث الأجتماعية المهمة في  حياتها من الأفراح و الأتراح  ، حيث  يحكي ديفيد جونسون أيضا من خلال  الأحداث  ( عندما جاء الولد الأبيض الى سرادق عزاء صديق طفولته جعفر ، سأل بأرتبك هل يمكنني رؤيته . جلس الرجل العجوز – والده -  وأحاط الولد بذراعه قائلا لقد  دفن جعفر بلأمس ، وأحس الولد بدموع الرجل العجوز تتعلق  بلحيته البيضاء الخفيفة وبالبلل  على خده  ، كان أول مرة يشاهد فيها رجل بالغ يبكي ! ) .     وفي  جانب أخر من القصة   يبرز لنا الكاتب  روح الأتصال و المحبة العميقة التي يكنها للسودان و لشعبه الطيب المعطاء  ، حينما  تصور ذلك أيضا أحداث (  بستان النخيل )  في محتواها  الأدبي الرفيع  العلاقة الحميمة التى جمعت الولد الأبيض دايفيد ( البريطاني )  بصديق طفولته جعفر ( السوداني) ،  والتي لم  يكتب لها  أن تنتهى أو تنقطع حتى بعد أن عرف الولد الأبيض بخبر وفاة جعفر  . . .  حيث  يقول  ( كان  ديفيد – الولد الأبيض – يأكل العشاء ، وكانت أمه تجلس بجواره وتقرأ له ، ثم دخل والده وعلى وجهه نظرة جادة دون أن يقول شيئا ولكنه أشار لزوجته بالخروج معه من الغرفة . وعندما عادت الأم  قالت له  يبدو أن شيئا حدث لجعفر ، ثم أتجهت نحوه و أحتضنته باكية أن جعفر مات ! سأل الولد هل يمكنني رؤيته ! ! ؟ ) .  وبعيدا عن مدارها السوداني الضيق الذي تخصصت فيه القصة  و تناولناه أعلاه ، ذكرنا  أن ( بستان النخيل) قد نجحت في صوغ بعد أيجابي لعلاقة  الغرب بالشرق  حينما  أراد الكاتب أن يخاطب بها المجتمع البريطاني ، ويظهر ذلك في  أعادة  طرحه  لقضية   جدلية  العلاقة بين الأنسان الغربي بأخيه  في  الشرق من منظور جديد وبجرأة أدبية حقة .   فيحمد ل( بستان النخيل ) انها سارت عكس تيار النظرة و الموجة التقليدية الفكرية و الثقافية  للباحثين و المثقفين  سواء  في الشرق أو الغرب ،  والتي ترى  أستحالة التلاق  بين الطرفين  لعوامل اللغة و الدين و الثقافة  و رأت ( بستان النخيل ) الأمر في غير ذلك ،  وهي في هذا الصعيد  تظل  كأول الغيث  أو كبصيص الضوء في نهاية النفق المظلم ، و الذي يمهد الطريق  ليسترشد و يسير الآخرين  خلف أمل أو سراب التغيير ، و ألتقاط القفاز  للمبادرة بشتى الصور لتصحيح  مسار  هذه العلاقة  الجدلية المتقلبة الأطوار و المتوترة  ! ! ؟ويبقى  الأهم   بالنسبة  لمثقفي  الشرق عموما  و السودان خصوصا   ضرورة  التوصل لتصور  أستراتيجي ما  من وحي وألهام   تجربة هذه القصة  القصيرة ، والتي حملت  ديفيد  جونسون  ليكتب  للقارئ البريطاني  و الغربي بأوربا  ويخاطبه  عبر  السودان و شعبه  من  رحيق  ذكرياته  العطرة في بلد المليون ميل مربع ، يبقى الأهم أن  تنقلهم هذا الخارطة (  كمهمومين بلأدب العربي  الحديث )   الى علياء التفكر في محاولة  تجسير الهوة بين القطبين عبر حركة التواصل الثقافي البناء المستمر بينهما .  فنحن على ثقة بأن  مثقفينا ومبدعينا  جيدي  الصنعة الأدبية  لهم من  الكتابات والمنتوج الثقافي  ما  يتجاوز عتبة التفرد و التميز ، ألا أنها ( وهذا صوت عتابنا لها ) نراها  ترزح منذ أمد بعيد في حلقة مفرغة و تحت دائرة المحلية  القميئة ضيقة الأفق   من متواليات اللت و العجن في قضايا صراع  الهويات تارة  ( من نحن عربا كنا أم أفارقة ، أهل صحراء  أم من الغابة  ، أأنحدر من الهاشميين أم من  جدنا  منقو ) ،  ثم  تارة أخرى في  أدب المساجلات العقيمة وغير المفيدة  ( على الأقل أدبيا )  المنحصرة  في فلك  معطيات صراع الداخل  المحلي ! ! ؟فنحن بالكاد  في أمس الحاجة لنقلة فكرية و ثقافية  حضارية  تنقل أفق هذا  الكتابات الأدبية لمثقفينا  التي تعج بها صوالينهم  المغلقة  من دائرة المحلية  الى  مدار المحاولة و العمل عبرها  لأختراق المجتمع الغربي   ( البريطاني منه بالخصوص كمدخل للغرب )  ولو كان ذلك  بسياسة و أستراتيجية مقننة ومدروسة  من الدولة ،  ترعى المبدعين وتوفر لهم الآجواء المساعدة لذلك   لنستفيد  من هذا المعترك  فننقل للعالم   أصالة الحضارة الثرة ( عربية كانت أو أفريقية)  التي يتميز بها مجتمعنا السوداني ، كمجتمع متعدد الأديان و الثقافات  يعيش  في أرض كانت معبرا و جسرا للعديد من الحضارات ، لا أن يقوم بذلك  المستشرق الأنجليزي ديفيد  نيابة عنا ! ! ؟  .  فلو علمنا أن جهد الروايتين ( موسم الهجرة الى الشمال ) ، و ( عرس الزين )  التي عرفت الكثيرين من الغربيين عن بلد أسمه السودان  ،  لو علمنا أنهما  ما كانتا  لتجدا  الفرصة  في الرواج  والخروج   من حدود ( كرمول )  لتصلا  لما وصلتا أليه من عالمية   ، لولا جهود الكاتب ديفيد ( وليست الدولة التي خرج من صلبها الطيب صالح )  في ترجمتهما للأنجليزية   و عرضهما للمجتمع الغربي ليقرأها  ويطلع  من خلالهما على ثقافة و طبيعة مجتمعات ماخلف البحار عبر نموذج  السودان ومجتمعه المحلي   ،  لتيقنا تماما من فداحة العجز و الجمود و الخمول الذي نرزح  فيه حكاما و محكومين أو مسؤولين عن الشأن الثقافي و مثقفين  غير مبالين أبدا بالمآل السيء الذي سوف يترتب عليه هذا التصلب والجمود  الثقافي  الذي نحن فيه ،   أو حتى مجدر مبادرتنا في وسائل أعلامنا أو مراكزنا الثقافية   بطرح  التسؤالات  فيما بيننا  . .  عن  أين نحن من الحراك الأدبي الذي ينتظم  العالم الخارجي ؟ و ماهو وأين هو موقعنا الثقافي فيه ؟  وكيف يرانا الآخر ؟  وهل من فائدة ترجى من التواصل  معه  أم  من  الأفضل أن ننتظره  ليأتي  ألينا ويعرفنا  بنفسه  وجهده  فيوفر  بذلك  عنا المشاق   ! ! ؟  لقد دق  لنا ديفيد جونسون  عبر قصة  ( بستان النخيل ) أو من خلال جهده في  ترجمة  رواية ( موسم الهجرة للشمال) و ( عرس الزين ) أسفينا عميقا يعبر بصدق عن حقيقة  الغياب المر  التي يغص  فيه  سباتا عميقا  المعنيون في شأن  الثقافة في الوطن  ، دون أن نرمي اللوم كلية  على مبدعينا المغلوبين على أمرهم أو نعفيهم وهم  الذين أضحى  جزء منه  يسرح مقتا  في غياهب صحراء الشمال حاملا راية هويتها العربية ، أو أخرا  متداخلا    في أحراش وأدغال غابات الجنوب  تحت راية الهوية الأفريقية   ، والجميع  منهم   يختبئ تحت مظلة عقلية الصراع أو الرفض المستبين للأخر ( المحلي ) مدعيا أنه هو الوحيد الذي  يرزح تحت نير الأضطهاد و العزلة الثقافية  ! ! ؟    وسوف  يظل في الأخير فشلنا  التام   في  أدارة  شأننا العام الثقافي و الفكري  بأفق  عولمي وبأدوات و لغة العصر الحديث  ، وكذلك الحال عجزنا  المستبين عن  النضح   بما يمتلئ به أناءنا الفكري و الثقافي و الأجتماعي  الزاخر  بمكنون  أبداعي هائل ، سوف يكون كل ذلك  سبيلا و مدعاة  لأن نكون و نظل مسمرين دوما  في أنكفاءة داخلية تحت ظلال محلية و على ربا  شواغل سطحية و تناطح غزلاني  و  توهان للبوصلة  ! ! ؟

د.عبدالله البخاري الجعلي

 teetman3@hotmail.com

 

آراء