(1)
عندما كنا اطفالا في خمسينات القرن الماضي، كنا نرافق اباءنا و اجدادنا في مناشطهم اليومية، و نذكر كيف كان يتم حرق نخلة اصابها مرض “الحركوش” – كلمة نوبية كانت تطلق علي النخلة التي تصاب بمرض يجعل النخلة تذبل و يصفر جريدها. و كانوا يعتقدون ان هذا مرض معدي و يجب ان تحرق النخلة المصابة. لكن عملية الحريق كانت تتم بعد اخذ الاحتياطات الكاملة التي تمنع انتشار الحريق : يتسلق النخلة شاب او اثنان لتقصير الجريد الناشف منعا لانتقال الحريق للنخيل المجاورة، ثم تجهز كميات من الماء في صفائح ، و تحاط النخلة بدائرة ترابية و تملا بالماء، و ترش النخلة بالجاز و يشعل فيها النار. لا نذكر ابدا انتشار النيران مسببة حريق. كما انهم كانوا يقومون بنظافة النخيل و الارض التي من حولها، و ايضا بصورة تمنع انتشار الحريق، تجمع الحشائش و ما ازيل من النخيل في حفرة دائرية محاطة بالتراب بارتفاع مناسب و تحرق.
تلك كانت حكمة و تدبير المزارعين الذين توارثوا مثل هذه العادات جيلا بعد جيل، في القرن العشرين. و الآن في القرن الواحد و العشرين، انتشرت حرائق النخيل بصورة مرعبة، و حصيلة الخسائر في كل مرة آلاف اشجار النخيل. و لم تسلم منطقة من مناطق النوبة من هذه الحرائق، في جزر موقة و نارنارتي، جزيرة صاي، صواردة …الخ هل يجوز ان نصدق ان هذه الحرائق عشوائية ؟ انا اظن (و ليس ذاك الظن الذي بعضه اثم) انها مدبرة.
(2)
بعد التجربة المريرة لمالات السد العالي ، كنا نعتقد ان السودانيين عموما، و النوبيون بصفة خاصة لن يقبلوا بناء سد الا اذا كانت ضرورتها تعني الحياة و الموت. لكن رغم ذلك اقبلت حكومة المؤتمر الوطني علي انشاء السدود معتبرة اياها موازية لحفر آبار البترول!! فانشات لها وزارة!!
وتقرر انشاء سدين في ارض النوبة، سدي كجبار و دال، و عارض مواطنوا المنطقة وقدم ابناءها المختصون دفوعات قوية في ان هذه السدزد لا جدوي لها:
النوبيون بكل فئاتهم، وبصفة خاصة المتخصصون في هندسة المياه والسدود، يرفضون قيام السدود للاسباب التاليه:
1. الآثار السالبة لهذه السدود لا يمكن الغاؤها (irrevocable)، بمعني انه لو تبين لنا عدم جدوى هذه السدود ستظل الآثار السالبة باقية وهي انالارض التي تغرق لا يمكن استعادتها حتى وان تم تدمير السدود، كما ان فاقد التبخر سيظل “متبخرة” وكلنا نعلم ان فاقد التبخر لها اثار سالبة على الاقتصاد بل وعلى المستوي السياسي.
2. الخيارات البديلة لتحقيق الفوائد المرجوة من هذه السدود، أكثر من خيار، وكل هذه الخيارات لا تؤدي الي السلبيات التي تتسبب فيها السدود. في الإمكان انتاج كمية الكهرباء المتوقعة من السدود بخزانات صغيرة على الشلالات لا تغرق الأرض لكنها تنتج الكهرباء، وذلك إضافة لبدائل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتي لن تكلف مليارات الدولارات.
3. يعتقد أبناء النوبة العلماء ان هذه السدود غير مجدية اقتصاديا وفيه اهدار كبير للمال العام الذي يمكن الاستفادة منه في مشاريع تنموية. وقبل شهور ايد هذا الراي وزير المالية السابق في حديث للصحف عندما صرح بانه ضد قيام السدود لأنها غير مجدية اقتصاديا وفي انشائها اهدار للمال العام.
4. المعروف تاريخيا في إدارة وزارة الري انها عندما تشرع في مشروع كالسدود، تجري دراسة الجدوى العلمية، وبالتنسيق مع وزارة المالية والوزارات الأخرى ذات الصلة تدرج المشروع في الخطة الشاملة للدولة والتي تسمي (الماستربلان)، وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة التنفيذ. وهذه السدود المقترحة تقترحها وحدة السدود التي تنقصها المعرفة العلمية والخبرة العملية. هذا على المستوي المحلي، اما على المستوي العالمي فقد أنشأ البنك الدولي في عام 1979 لجنة خاصة بالسدود، اختير لها كبار علماء الهندسة المائية، ليدرجوا السدود ذات الجدوى في خطتهم، ولا مكانلسدود الشمال في هذه الخطة العالمية.
5. إيجابيات هذه السدود والتي تتركز في انتاج الكهرباء، تتلاشي تدريجيا بمرور الأيام، بينما الآثار السالبة ابدية لا يمكن إصلاحها ابد الدهر. الكهرباء التي ستنتجها هذه السدود في جملتها حوالي 1000 ميقاوات، أي 15% من الكهرباء القومية. لكن المعروف ان الكهرباء القومية تحتاج الي زيادة 300ميقاوات كل عام. و هذا يعني ان الكهرباء المنتجة من هذه السدود بعد 30 عام ستكون 1% تقريبا من الطاقة المطلوبة قوميا. فهل يعقل ان نغرق جزءا عزيزا من الوطن، ومعها آثار أكبر حضارة إنسانية لمثل هذا الغرض!!
6. اما السبب الأخير فهو متصل بسد النهضة، الذي سيغير طبيعة النيل، ويجعل كل الدراسات الخاصة بالسدود لاغية وفق التغيرات التي ستطرأ على نهر النيل ومنسوبه وتدفق المياه فيه. هذا السد الذي سيكتمل بناؤه في العام 2017 يجعل أي مشروع سد على النيل لا جدوى له.
هذه هي الأسباب التي أوردها المهندس مصطفي عبد الجليل مختار، و في امكانكم الاستماع لآرائه هذه علي اليوتيوب علي اللنك https://www.youtube.com/watch?v=9rTZmXtE6I
لكن رغم هذا المنطق العلمي المبين، اصرت وزارة السدود و لا زالت تصر، و ما سكتوا الا بعد ان “قفل” الصينيون حنفية القروض.