محاولة قراءة لكتاب تاريخ التصوف في الإسلام

mohamed.abdommm@icloud.com

محمد عبد المنعم صالح

يُعدّ كتاب «تاريخ التصوف في الإسلام» من أبرز الكتب الكلاسيكية التي تناولت التجربة الصوفية في الفكر الإسلامي، لا من منظور أيديولوجي ولا من زوايا الدفاع أو النقد العقائدي، بل من خلال رؤية تحليلية رصينة تحاول تتبع المسار التاريخي، والتحولات الفكرية والعاطفية، التي مر بها التصوف الإسلامي منذ ظهوره حتى نضوجه.

يفتتح قاسم غنى كتابه بمساءلة شائعة في كتابات المستشرقين، مفادها أن التصوف لا يُعد مذهبًا محددًا أو فرقة ذات حدود تنظيمية، بل هو انسياب روحي وشعوري يتجاوز الأطر الصلبة للمذاهب والمدارس. ويقف المؤلف عند هذه الفكرة لا لينقضها مباشرة، بل ليستخرج منها أحد المفاتيح التفسيرية لفهم ظاهرة التصوف: التحرر من القيود، سواء كانت قيود الفقه، أو قيود الجدل العقائدي، أو حتى قيود التعبير العقلاني. فالتصوف كما يقدمه المؤلف، تجربة وجدانية قبل أن يكون تنظيرًا..

من هذه النقطة يبدأ المؤلف تتبع الجذور الروحية للتصوف، سواء تلك الممتدة في القرآن الكريم، أو في الحديث النبوي، أو في الزهد الإسلامي المبكر، أو حتى في التأثرات الممكنة بالفكر الفلسفي الهندي واليوناني. غير أن المؤلف لا ينزلق إلى فرضية “الاستيلاب الثقافي”، بل يؤكد أن للتصوف نبعًا أصيلًا في روح الإسلام، وإن كان قد تفاعل لاحقًا مع تيارات فكرية متنوعة.

ويستعرض قاسم غنى ملامح التصوف في مراحله الأولى، متوقفًا عند الشخصيات الأساسية كـ الحسن البصري، ورابعة العدوية، والجنيد، وبشر الحافي، لينتقل بعد ذلك إلى النضج الصوفي الذي تمثل في رموز كبرى مثل الحلاج، والسهروردي، وابن عربي. وفي كل مرحلة، يقف المؤلف عند المفاهيم الجوهرية التي شغلت أهل التصوف، مثل المحبة، الفناء، البقاء، التوكل، والمعرفة.

ويُبرز قاسم غنى كيف أن الصوفية، رغم تباينهم في الأساليب والطرائق، قد اشتركوا في أصول مشتركة يمكن عدّها المبادئ التأسيسية للتصوف الإسلامي، مثل الإخلاص المطلق في السير إلى الله، والتجرد من الأهواء، والبحث عن الحقيقة الباطنية خلف ظواهر النصوص. وهو يشير إلى أن ما قد يبدو تضاربًا في المواقف الصوفية، إنما يعكس تعددية الطرق وتنوع التجارب، لا اختلافًا في الجوهر.

كما يخصص المؤلف فصولًا للحديث عن علاقة التصوف بالسلطة السياسية، والعلماء، والعامة. ويُظهر كيف أن الصوفية تعرضوا أحيانًا للملاحقة والاضطهاد، لا لأنهم خرجوا على الدين، بل لأنهم خرجوا على النمط السائد من التدين، وهددوا بصدقهم الداخلي تماسك السلطة القائمة. وهنا يُبرز الكتاب بذكاء المفارقة بين السلطة والقداسة، وبين العالم المادي والعاشق الإلهي.

وفي القسم الأخير من الكتاب، يلامس المؤلف الإسهامات الأدبية والفنية التي أفرزها التصوف، مشيرًا إلى كيف أن التجربة الصوفية أنتجت أدبًا غنيًا ورمزيًا عند أمثال جلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وحافظ الشيرازي. ويؤكد أن هذا الأدب لم يكن مجرد ترف شعري، بل تعبيرًا عن رؤية للعالم، تتداخل فيها الذات مع المطلق، والجمال مع الحقيقة، والقصيدة مع الإنشاد.

ولعل من أجمل ما في هذا الكتاب، تلك القدرة على المزج بين التأريخ والفهم، بين التحليل والذوق، وبين الموضوعية والتحامل على الموضوع. فقاسم غني لا يكتب عن التصوف من علٍ، بل من مكان قريب، متأمل، متسقا مع تجربة في فردانيته في أقصاها أو مندمجًا فيه حتي مشاشة روحه ..

شاهد أيضاً

الفرق بين بيراميدز وهلاريخ

في وصول بيراميدز في سنوات قليلة إلى المباراة النهائية في البطولة الأفريقية، والتي أتمنى أن …