آفة السراريق ومِحنة المساحيق – الجزء الثالث والأخير: (تعليق على اختطاف الدّولة لزعماء الإدارة الأهلية)

 


 

 

 

 

إنَّ "الدّولة" مسؤولة عن اختراق كيان الإدارة الأهلية، تسيسه، إفساده، تميعه، إبطاله، بل عزله عن مكوِّنه الاجتماعي، ردفه ولفظه في قارعة السُّوق حتى اعتزله الكرماء واحترفه الأشقياء الذين صار الكُلُّ يتندَّر بهم لعدم أهليتهم وشُحِّ معدنهم. إنَّ كيانات الإدارة الأهلية قد تضخَّمت بنسبة فاقت تضخُّم الجنيه السُّوداني، وهزلت بطريقة تدنَّت عن قدرة الأخير الشرائية. ومع ذلك فإنَّ هناك عُمداً وشيوخاً ونظّاراً أحسّوا ضرورة البقاء استشعاراً لمسؤوليتهم الاجتماعية واستلهاماً للعبرة التَّاريخية التي تُفرض على المرء ألَّا يبرح ساحة أهله ولا ينقض عُراهم مهما استعظم الشّر. 

أعود فاتساءل، كيف يمكن للحلول أنْ تُقتصر فيما هو أمني، وأنْ تُحمَّل الإدارة الأهلية مسؤولية إخفاق هو في الأصل سياسي وإداري؟ وإذا احتجز كُلَّ أولئك المتهمين بالتواطؤ مع السّراريق (جمع سارق) هل ستضمحل الظاهرة في غياب أيِّ أفقٍ تنموي (وحدات إنتاجية، قنوات استثمارية، مزارع رعوية .... إلخ.)؟ كيف يمكن لتنمية أنْ تحدث في حالة انعدام الوجدان المُشترك، والرّؤية الأخلاقية والعدلية الرّاشدة؟ بل ما هي المرجعيات الدّستورية لتقنين المُرتكزات الوطنية اللازمة للدَّفع بالمسيرة نحو الأمام؟ في ظلِّ هذا الفراغ، لا يمكن لأيِّ رؤية أنْ تتحقّق، ناهيك أنْ تكون مُرضية وواعدة. ولذا فمن العبث لأيِّ مجموعة أنْ تتحرّك في صعيد قبلي كأنْ يحتشد أبناء الرِّزيقات أمام البرلمان أو أنْ يمضي أبناء المعاليا عرائض، لأنَّ المشكلة لم تُعد مشكلة قبلية، بل هي مشكلة سياسية تفاقمت بفعل المؤامرات والاستقطاب، ومشكلة تنموية تردّت بفعل الإهمال المُتعمّد لدارفور ولشرقها خاصَّة، بل توظيف مواردها للمركز. لو أنَّ نسبة ضئيلة من بترول أب جابرة وظِّفت لتطوير البنية التّحتية وزيادة الوعي الإنتاجي لاستطعنا تجاوز هذه الثنائيات، بل ولنجحنا في تجاوز الخانة القبلية إلى مستوى تعزيز الرابطة المدنية. مثلاً، إنشاء نقابات عُمَّالية وتجمُّعات إنتاجية واستثمارية تجعل المزارع الرّزيقي والمعلاي نصيرين يقارعان الرّاعي المعتدي، رزيقياً كان أو معلاي، ويقاضيانه كما كان يحدث من قبل إلى العُمدة ومن ثّمَّ مدير المحلِّية. لم يك منظوراً لأحد الالتجاء إلى السِّلاح لحسم مثل هذه الأمور وبهذه السهولة حَتَّى جاءت الإنقاذ وجعلت السِّلاح متوفِّراً للغاشي والماشي.


هذه المنطقة فيها أُفق تنموي فسيح ولها إمكانيات مهولة يمكن أنْ توظَّف لصالح الكُلّ، ولذا فالتعويل يجب أنْ يكون على خلق تكامل اقتصادي يتجاوز المفاهيم القروسطية، ولاية، نظارة وحاكورة إلى آخره، التي من عجب تطالب بها النُّخب العاطلة ويدفع فاتورتها دماً الغلابة. ما الذي جناه المعاليا من النظارة من يوم أنْ أُسندت لهم حَتَّى اليوم؟ بل ما الذي جناه الرزيقات من الولاية من يوم أنْ فُصِّلت لهم حَتَّى اليوم؟ إنَّ النُّخب المركزية اعتمدت أسلوب "جوِّع كلبك يتبعك"، لكنها حَتَّى عندما تجود على هؤلاء "الغرَّابة" لا تعطهم عظم حقيقي إنَّما ترمي لهم عضمة بلاستيك. لو أنَّها ركَّزت على التّنمية لاستطاعت تنفيس هذه المؤامرات، لكنها تريدها فتنة مستديمة الشّرر. لنأخذ مثال الفول السوداني الذي يحتاجه العالم اليوم والذي يمكن تخصيص أراضٍ شاسعة لزراعته في هذه المنطقة بالذات. إذا كان المُخمّس ينتج 10 شوالاً فول في المناطق الجنوبية فإنَّه في المناطق شمال شرق الضعين، مثل شقّ تبلدي، القدامية، أب كارنكة، أم سعونة ودار برتي ينتج 40 شوالاً، وقد لا تحتاج الأرض لجنكاب أكثر من مرَّة واحدة. وها هو مصنع دارفور للفول السوداني كتجربة رائدة وفريدة يوظِّف 1200 شاباً وشابة؛ علما بأنَّه يعمل بأقلِّ من إنتاجيته بكثير نتيجة لعدم الاستقرار وعدم توفُّر المدخلات الكافية.


لا يحتاج المواطن إلى حكومة عليمة قدر احتياجه إلى قيادات رشيدة تعمل من أجله لا من أجل مصالحها. لا يمكن لحكومة أنْ تجعل المواطن عرضة للنازلات، وتأتي لتلومه على فعل المنكرات. وإذا كانت الحكومة لا ترعوي فعلينا أنْ نتذكّر الله واليوم الآخر، لأنَّ مثل هذه السُّلوكيات تفقدنا دنيانا ولا تجعل لنا ملاذاً في أخرانا، فالله الله في العقيدة والرّحم. كان النَّاظر محمود موسي مادبو في أحلك الظروف التي مرّ بها عام 1967 إذ كانت تلك أول مرَّة يقتتل فيها أبناء العمومة من رزيقات ومعاليا بعد أنْ تآمرت عليهم النُّخب الطائفية التي كانوا يدينون لها بالولاء (يعني كان من المفترض أنْ تزكيهم وتدخلهم الجنّة من أوسع أبوابها، فإذا بهم يعانون الجحيم في أشقى أحوالها)، فكانا ضحية استقطاب سياسي طائفي، يقول مستشفعاً بالأهل وبالأجاويد "يا عيالي المعاليا ديل عيالي ومن زمان بلعبوا لي في حدقي (الرمش أو الحاجب) وتوي جغوني في عيني (بمعني استهدفوا نظارتي)، يا عيالي ويا أهلي الشورى شنو؟"
أورد هذه الرواية كي أقول إنَّ الخلاف بين الرّجال وبين الأهل مهما احتدم فيجب أنْ يؤطّر بالقِيم، في غياب الأُطر الدّستورية وانهيار المنظومة الأخلاقية، نتوقَّع كُلَّ شيء من السّلب والقتل إلي اقتياد بنات العم (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)( البقرة 281). رجائي من النُّخب أنْ ترجي كُلَّ المطالبات وأنْ تستعصم بالعروة الوثقى إلى حين مجيء الفرج فيأخذ كُلُّ ذي حقٍّ حقّه دون عطل أو مطل، أمَّا الآن فنحن في لحظة الهرج والمرج التي وصفها النبي (صلي) وفي خضم فتنة الجالس فيها أفضل من الواقف والواقف أفضل من الماشي وكونوا إخوتي على حذر فالنار من مستصغر الشّرر.

إنْ كان ولا بُدّ فلنتحد ضدّ الغُزاة والمستوطنين الجدد ولنجعل من الأمنجية هدفاً للمقاومة الدّارفورية. إنَّ استهدافك لأمنجي قد يكون مُبرّراً، أما استهدافك لمزارع غلبان كَبَر شديرات وسرح عياله ببقيرات فأمرٌ غير مُبرّر. الأهمُّ إنَّه غير مُجدٍ لأنَّنا نقتتل فيما يتفرَّغون هُم للبنايات، تشييد العمارات وتسجيل الشركات والأهمّ تعليم الوليدات. أبناء الكيزان، من سلم منهم من تعاطي المخدرات، يتعلّمون في كبريات الجامعات الأوروبية والأمريكية، فيما يتسكع أبناء الغلابة، أبناء الريف خاصّة، حملة الدكتوراة من الجامعات السودانية، في أسواق (أم دورور) يبحثون عن عمولة وليس تجارة يسدون بها رمقهم. كلما طال الزَّمن كلما أصبحت الهُوة غير قابلة للردم وكلما ازداد الغبن.


كتب أحدهم "شعرت بحزن عميق وأنا أتابع تصريح إذاعي للأستاذ / آدم الحبيب إسحاق بعد مؤتمر صحفي عقده أمس الوالي أنس عمر بدون صحفيين، وفي سرية شبه مقصودة في نهار رمضان عن إعلان نتائج المائة الأوائل بالولاية في الشهادة السودانية. وصف آدم الحبيب، المدير العام المُكلّف لوزارة التربية والتعليم، النتيجة بأنَّها (مُشرِّفة) وأضاف عليها .. نشكر الأخ الوالي على اهتمامه بالتعليم والبنيان. وقتها خلت أنْ تكون النتيجة كبيرة، ولكن تفاجأت بأنَّ سعادته قال: إنَّ نسبة نجاح الولاية هذا العام ٦٥،٤ ٪. ويا للهول إذا عرف أبناء الولاية أنَّ نتيجة هذا العام لولا العزلة التي عاشتها محليتيْ عديلة وأبوكارنكا والترتيب العالي لمدارسها لكانت النتيجة أقلّ ما توصف "بالكارثة".


"وعليكم القياس والنتيجة أمامكم :عدد الممتحنين بالولاية (٧٩٠٢) طالب وطالبة النجاح: ٥٠٧٩ الرسوب: ٢٦٣٩، نسبة نجاح البنات (٦٢،٤٪)، نسبة نجاح البنين (٦٧،٧٪)، النجاح الحكومي (٦٠٪)، النجاح الخاص (٧٠،٧٪)."


يواصل الكاتب حديثه ويقول "اخترت نموذجاً محدوداً لنسب النجاح في المحلِّيات وهي كالآتي :

مدرسة المزروب نسبة نجاح (١٠٠٪)، أبوكارنكا بنين ( ٩٧)، الأمل الخاصَّة (٪٩٥) بنين بنات (٩٧٪)، المستقبل عديلة (٨٩٪)، عديلة بنين( ٨٩٪)، شعيرية بنين (٣٨٪) يايسن بنين (٢٩٪)، صليعة بنات (٢١٪)، لبدو (٢٩٪)، خزان جديد (٦٠٪)، عسلاية بنين (٣٩٪)، أبومطارق بنين(٥٩٪)، الفردوس بنات (٤١٪)، أبوجابرة (٥٢٪)، الضّعين الشمالية (٤١٪)، الأميرية بنات الضّعين (٧١٪)، وما خفي أعظم، هنالك سقوط حَتَّى في المدارس الخاصَّة داخل مدينة الضّعين. يقيني هذه البلد لا وجيع لها ولا أحد يهتم بها" (منقول من صفحة أبناء الضّعين على الفيسبوك).


إنَّ الشّجاعة هي أعظم خصلة؛ لأنَّ صاحبها تعامل مع قيمة الحياة باقتصاد. مات هو ليعيش أبناؤه حياة أفضل. مات أسلافنا، هل عاش أحفادهم حياة أفضل؟ لا أعتقد. إنَّ الشجاعة بالطريقة التي يبديها إنسان السّودان ويعيشها إنسان دارفور خاصَّة، هي عبارة عن قيمة مندلقة، يموت صاحبها حتف أنفه فيما تبقى العبرة منخنقة. مع احترامي لمجهودات الصلح كافّة فإنّها عبارة وثائق تاريخية تفتقر إلى أُفق تنموي يستوعب المتغيرات والمستجدات على الصعيد الدِّيموغرافي، السياسي والجيواستراتيجي ولو أنَّها بُرئت من كافة العلل، فإنَّه لا يمكن تطبيقها في ظلِّ فراغٍ دستوري وهيكلي وإداري. إنَّ أفضل ما يمكن للدّولة فعله في ظلِّ الظّروف الحالية هو وضع مساحيق لا تُحَسِن من فاعليتها، إنما تُجَمِّل من شكلها عند الآخرين، في هذه الحالة الغربيين لأنَّها غير معنية بالسودانيين. كما إنَّها غير معنية بمكافحة الجريمة، لأنَّها تدير جهازاً لتوظيف العنف (العنف غير القوّة، القوّة قناعة أخلاقية وفكرية بالقضية، العنف محض إفلاس)، وتملك آلية إعلامية دأبها جعل الجاني ضحية.


في أوج غمرتها "بالجهاد" وشدّة حماسها لحرب "المرتدين" استعانت مختلف الحكومات، الطائفية منها والدينية الأيديولوجية، بالمسيرية وسنَّتهم (بمعني شجَّعتهم) بقولها "أنتم أشجع الرجال"، علماً بأن الشجاع لا يدخل مدخلاً وهو لا يرى منه مخرجاً، أو كما قال فارس عبس. لم تخوض الجبهة الإسلامية القومية الحرب حرصاً على الوحدة الوطنية، إنما استشعاراً لضرورة فرض هيبتها داخلياً، أي في شمال السودان. فَما أنْ لاحت بارقة لفصل الجنوب، اغتنمتها ولم تتوان. إنها إذن قدمت هؤلاء الشباب قرباناً لألهتها الكاذبة، وليس قرباً لله الواحد القهّار.

عندما كانت النُّخب المركزية تفاوض الجنوبيين، لم تشرك أبناء القبائل المتاخمة (قبائل التمازُّج)، ولم ترع مصالحهم التي تضرّرت أيما ضرّر بالانفصال. فالمسيرة فقدوا 40% من ثروتهم الحيوانية في أقلِّ من خمس سنوات بعد الانفصال. هذا غير الأرواح التي أُزهقت نتيجة لضعف التدابير الأمنية والإدارية وإذا شئت انعدامها، استشهد من المسيرية فقط 16 ألف قبل أنْ نحسب عيال عطية وحيماد الآخرين.


ليت الضرر توقّف هنا؛ عندما أحسّت النُّخب المركزية بتذمُّر قبائل المسيرية وتأثرهم بالأضرار البيئية والأيكولوجية، أسرعت لإشعال الحرب بين المسيرية الحُمر والمسيرية الزُّرق، تلتها حرباً بين العجايرة والفلايتة. تماماً كما تريد أنْ تفعل بين المهرية والمحاميد اليوم. وهي في كُلِّ مرَّة، أيّ العصابة لا تعدم في إيجاد أحمقاً يؤذي بكلماته أو متلهفاً يقصى بفعلاته.


بَيْد أنَّ الدّولة لم يعد لها ذلك المتنفس، فالظرفيْن -- القومي والإقليمي -- تغيرا تماماً، وهي اليوم تواجه إمكانية الاجتياح من كُلِّ جهة، وتتنازعها الأهواء (خلاف بين الجيش والأمن في نظرة كليهما لمفهوم الأمن الاستراتيجي). إنّها لا تستطيع التعويل على حلفاء داخليين أو خارجيين، وهي لا محالة ساقطة. داخلياً، لا تستطيع الدولة التعويل على البوادي الثلاثة الأساسية: البادية الغربية (بادية الرِّزيقات ومن حولها من عيال عطية وحيماد)، البادية الوسطى (الكبابيش والمجانين والتنابلة وبني جرار)، والبادية الشرقية (البطاحين والشكرية وقبائل رفاعة)، لأنَّ هذه البوادي قد وعت الدرس وعلمت أنّ التحالفات العِرقية لا معنى لها وأن الحليف الاستراتيجي للنوبة هم الحوازمة، وللرِّزيقات الفور والمساليت، إلى آخره. كما أنَّ القوى الثّورية قد علمت بأنّه لا مجال لتجاوز هذه البوادي وأيقنت بضرورة التنسيق معها من أيام المرحوم قرنق. لقد بطلت إذن حيلة الـــ Hegemon (المهيمن أو الطاغوت أو الكهنوت). فالدّولة مهما برعت في المُكر، فإنّها لن تستطيع اقتلاع مكوِّن من موقعه الجغرافي والتاريخي، لأنَّ ذلك ضد طبيعة الأشياء، وإذا أرادت تأمين هذه البوادي بفرق عسكرية فمن أين لها بالمال والرجال؟


خارجياً، الدّولة أو العصابة في موقف لا يُحسد عليه، لأنّها دخلت في حلف قبلي دون أنْ تختط لنفسها هدفاً إستراتيجياً أعلى، فقط السمرة للكبار والغنيمة للصغار. هكذا يُدار السودان بحفنة من الأغرار أو الأذكياء الذين لا خلاق لهم. السودان في حلف مع الإمارات والسعودية ومصر، وقد أدار ظهره لقطر بعد أنْ رعته وأغدقت عليه لسنوات، الإمارات حليفة حفتر نكاية في قطر، كما أنّها أيّ الإمارات، حليفة السعودية في اليمن، وهي في ذات الوقت تعمل لفصل جنوب اليمن القحطاني (وموطن شيخ زايد الأصلي)، ومصر عينها على موانئ السوداني ومنافذه البحرية. وكُلُّ هذه الفوضى ينظمها خطٌ واحد: غياب الرؤية الاستراتيجية التنموية والاغترار بأوهام أيديولوجية ونبوءات قبلية لم تتحقّق لأسلافهم منذ معركة داحس والغبراء، فأنَّى لها أنْ تتحقّق لهؤلاء؟


قبل أنْ أسدل الستار على هذا المشهد العبثي، لا بُدَّ من التعرُّض لموضوع استضافة الحكومة للأمريكي نائب رئيس الأفركوم (القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا)، السفير ألكسندر م. لاسكاريس الذي جاء إلى السودان قبل أيام من اعتزام الحكومة جمع السلاح، وإعلانها ضرورة إنفاذ هذا الأمر في أقلّ وقت ممكن. لم تجد العصابة مكاناً تبدأ به قبل الضعين، والتي كانت إلى حين المدينة الأكثر أماناً في دارفور قبل أنْ تنجح الدّولة في توغُّلها واختراقها بالقوات القادمة من الجنوب: الدفاع الشعبي، الشرطة الشعبية والمجاهدين، إلى آخره، والمتمرسة في قملاية وعسلاية ، والضعين، أب كارنكا وأبو جابره، الي آخره.


نبّه كثيرون في الصحف وقنوات التواصل الاجتماعي، منهم الصحفي المخضرم الأستاذ/عبدالله آدم خاطر والشاب النابه السيد/ علاء الدين بابكر إلي ضرورة إيجاد حلٍّ جذري للأزمة وعدم الاكتفاء بالمسكنات وعوَّلوا على ضرورة تحقيق الآتي:

- العمل الجدي واللازم لإزالة المظالم التاريخية التي حلّت بالإقليم ومعالجة المسببات التي أدّت لامتلاك السلاح، لا النتائج.

- توفير الأمن للمواطنين كافة دون تمييز والعمل على إعادة النازحين واللاجئين إلى قراهم مع توفير الخدمات اللازمة لهم.

- معالجة الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الحرب وتحقيق تسوية حقيقية مع القوى التي تحمل السلاح، لأنَّ جمع السلاح يجب أنْ يستهدف مليشيات الحكومة والحركات معاً.

- عدم التدخل في شؤون دول الجوار، الأمر الذي من شأنه أنْ يقينا كلفة المراقبة الدؤوبة لهذه الحدود المهولة، ولا يعفينا من أهمّية وضع فرق من القوات المسلحة تحول دون وقف السلاح من جراء الصراعات الداخلية والمستمرة بين الليبيين، والتشاديين، والجنوبيين إلى آخره.

- خلق آلية قانونية قادرة على إنفاذ القرارات السيادية، واعتماد الدستور كوثيقة تفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية.

حينها لن تحتاج الدولة إلى قرارات اعتباطية تمنع الفزع، أو تبطل مشروعية امتلاك المواطنين لعربات الدفع الرباعي -- فهذا الأسلوب أقرب للنهج الذي انتهجه الوالي كبر في إبطال "سوق المواسير". كما لن يجرؤ والى مغرور أو جاهل على اعتقال العُمد وترحيلهم إلى بورتسودان، وفيهم من فيهم من المرضى وكبار السن، بل الإمعان في الإساءة إليهم بإيهام العامّة بأنّ العُمد متواطئون مع السراريق. إنّ إهانة هذه القبيلة الباسلة (وكل القبائل في السودان) من قبل الحكومة وعُصبتها كان بسبب نخبتها المتعهرة (برلمانيين، ودستوريين، وعسكريين، وأشباه مثقفين، ورأسماليين طفيلين، ومتطلعين غير واثقين، وصحفين متوهمين، إلى آخره)، التي ارتهنت إرادتها للعصابة كِبْرها من تملقها للإنقاذيين والأمنية التافهين، كان حريُّ بهم أنْ يستمدوا كبرياءهم من تاريخهم المجيد وبذلهم للروح دون مقابل واسترخاصهم لها دوماً في سبيل الوطن.

أحمد لله عزّ وجل أنّه قد استبدلهم بجيل يحمل وعياً ويعي إرثاً ولن تطول الأيام قبل أنْ يلفظهم إلى مذبلة التاريخ، فهؤلاء من أساءوا إليه، ليس الإنقاذ، وهم من سرقوا باسمه واستثمروا محنته، هم لا يشبهون السلف، وأتمنى ألا يحمل سِماتهم الخَلف. باختصار هؤلاء اختطفوا القبيلة والآن يهددون السودان بالدّمار فهذا جُلُّ ما يجيدون صنعه. لا أدري بأيِّ صوتٍ أنادي وأي قبلة أهادي، يا وطني؟


يزعم بعض الأهالي أنّ البلد قد أمنت وأنّ باستطاعتهم الآن الذهاب إلى مزارعهم. وهذا زعم كاذب لأنّ الهدوء الحالي هو نوع السكون الذي يسبق العاصفة التي سيكون الوالي البليد والمغرور أول ضحاياها. ولذا فهو يحترس بثلاث دبابات إذ سمع مؤخراً عن سجين في "كولومبيا" تم القبض عليه بتهمة تهريب المخدرات بكميات هائلة إلى الولايات المتحدة وحكموا عليه بالشنق حَتَّى الموت. وبعد أسبوعين من الحكم وقبل أنْ يتم تنفيذ الحكم ردّ أصدقاؤه بقتلهم القاضي الذي وقّع على ورقة الإعدام والمحقّق الذي حقّق معه والفرقة التي قبضت عليه، وأحرقوا مركز الشرطة وفجّروا مبنى الجريدة التي نشرت خبر القبض عليه وخرج من السجن بدون سوابق. لا تتصوّر أيها الوالي إنّه السافنا (نصره الله) أو خريف (رحمه الله) فيُنَقِّص ذلك عليك منامك، إنه بابلو إيميليو ايسكوبار كافيريا. فهل تذكّرته أيها المستوطن؟ اذا لم تتذكره فتذكّر أنّ "أُم نوامة" (الأفعى ذات السم القاتل والتي يُكنَّى بها الجكره عيال الهراجات قتالين الخيل روسيهن) تتحمّل العفصة الأولى والثانية، أمَّا الثالثة فأنت وأمثالك من الجبناء في مساكن من لا حِيلة لهم ولا قدرة لهم على التسبيح. أنصحك بالذهاب والإشراف علي ترحيلاتكم التجارية فبلادك أكثر أمناً والتهريب الذي احترفتموه أهون جرماً من التخريب.


في هذه الأثناء يخرج علينا بعض المتعطلين والمتبطلين الذين ما سمعوا عن مشكلة "قبلية" في دارفور حَتَّى اتهموا أهل الغرب (أو الغرَّابة) بالتخلُّف، علما بأنَّهم يقتاتون من كسبهم ويختالون ويتغنون بإرثهم، فالرّعاة الذين يسهمون في الناتج القومي الإجمالي بـــ 18% يتلقون أقلّ من 1.8% ، وقد لا تصلهم. والمزارعون في غرب السودان الذين يزرعون المحاصيل كافة ويفلحون أرضاً لم يعمل أحد على تطوير أو تثويرها منذ أنْ فطر الله السموات والأرض لا يتلقون بالمقابل ما يعوضهم ولو بعض خسارتهم. علماً بأنَّ البرازيل تُخصِّص لكُلِّ محصول وحدة إدارية وبحثية تُعنى بتطويره وعقد التعاقدات الدّاخلية والخارجية لتسويقه وفق أُسس مهنية وفنية مُحكمة. مثل هذا التوجه يتطلَّب واقعية ورؤى علمية تتمثل في توفير مستلزمات الإنتاج على محدوديتها وتطوير وعي المزارع، فالعجوز مثلاً، التي زادت إنتاجية فدانها من 3 إلى 13 شوال عيش للفدان في القضارف، غير تلك التي يحتاج تثقيفها إلى أفق يتجاوز الحاكورة إلى المعمورة (عمارة الأرض وليس فقط استحواذها). حينها سينفسح الأفق المعنوي وينبسط ذاك المادي. لقد اعتمدت الدولة انعدام الكفاية وسيلة لاستتباع الريف مِمَّا حدى بالكلِّ لحمل السّلاح. إذا أرادت الدّولة نزع السِّلاح فعليها بنبذ العنف، الأمر الذي لن يتحقّق إلاّ بالتأكيد على حياديتها وجديتها في تحقيق مجتمع الكفاية والعدل.


ختاماً، إذا كان السودانيون يظنون أنَّ الليالي السُّود قد أوشكت على الانقضاء، فإنِّي أبشرهم بأنَّها لم تأتِ بعد. عليه، فإنَّ من واجب النُّخب، قبلية كانت أو فكرية، أو دينية، أنْ تستعصم بالعروة الوثقى، وأنْ لا تخوض اللجَّة دون بيِّنة أو بصيرة فتستشرى الفتنة أكثر من استشرائها.

علينا أنْ نعي أنَّ أمد العصابة سيطول طالما أنَّنا لم نستكنه الأخطر ونستيقن من بغضها لنا جميعاً دون تحيُّز؛ فنلجأ في كُلِّ مرَّة إلى مواجهة بعضنا بعضاً عِوضاً عن مواجهة الأفعى وقطع رأسها؛ الأفعى في المركز فلا تبحثوا عنها في أب كارنكا أو الضعين أو الطينة أو امبرو أو كتم. كونوا عقلاء، بل كونوا شجعان، فالشجاعة الفكرية هذه أولى من الميدانية، وهي ما تعوذكم.


إن اعتماد استراتيجية الاستيطان قد أفسد على النُّخب المركزية حيلتها في الهيمنة الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية. ففي إطار تقاسمها لأدوار مختلفة (معارضة حكومة) هي، أي النُّخب المركزية، تريد حلاً لا يخرج الهامش من طوعها. وإذا خرج فهي لن تألو جهداً في المحاولة لإحباطه سياسياً مستعينة بالطائفية وباليسار مثلما هو الحال بالنسبة للحركة الشعبية (قِطاع الشمال) فها قد انتدبوا مندوبيهم لتسوية الحال في جبال النوبة، أو عسكرياً في دارفور بمحاولتهم البائسة لتجديد دورة الحرب بافتعال الخصومات وإثارة النعرات. لا تقبل العصابة أو الدّولة بأقل من تدجين دارفور أو نفيها من خلال التدمير لكافة مقوماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. حَتَّى إذا ما انفصلت لا يكون لديها طريقة للمقاومة.


إنّ استبعاد المستعمر أو المستوطن يتطلّب نفي موجِّهاته الفكرية، ومحو حمولاته الأيديولوجية خارج وجداننا قبل الشروع في الطرد الحسِّي له من ديارنا. هذا ممّا يتطلّب تفويت الفرصة عليه بإحباط أي محاولة لاستشارة العداوة بين الأخوين (زُرقة وعرب) ودق طبول الحرب بين الفريقيْن (حرس حدود ودعم سريع)، إنّما التعويل على تنامي الوعي والتحميل للقِيم الراعية والمعنية بتنمية القواسم المشتركة بين أبناء الشعب كافة، ودارفور خاصّة. أدركت العصابة والنُّخب المهيمنة كافة بأنّها غير قادرة على استبقاء دارفور في خانة الوصاية، لكنها لم تيأس بعد من إمكانية استتباعها للمركز من خلال الإفقار المتعمّد. وإذا ما فشلت كلُّ الحِيل الدّستورية والفدرالية لتحقيق الاستقلالية، والإدارية لتقديم الخدمات الأساسية، والتربوية لتذويب العصبية، والثقافية لترقية الذائقة والحسّ الإنساني، فإنّ انفصال دارفور سيصبح أمراً حتمياً يترك أمر المطالبة به للراشدين قبل الغلاة والمتعجلين. حينها سيحس المستوطنين الجدد بفقدانهم لمورد مادي (مثلما حدث في الجنوب)، لكنهم مطلقاً لن يستشعروا فداحة الخسارة المعنوية. لا تنسى إنهم مستعمرين وإذا لم فأعوان الغزاة المارقين.


لن تُفرّط الولايات المتحدة في هذا النظام، ومُفتر وجاهل من يظنّ غير ذلك، فهو يضمن لها إعادة الخارطة من خلال التفتيت للقارة بالكيفية التي تناسبها، كما أنها تستطيع ابتزازه حَتَّى آخر رمق في محاولة للحصول على معلومات وهمية (أو حقيقية) عن "الإرهاب." باعتمادها على العسكريين، كما حدث في نيفاشا التي أهملت السياسيين وقوى المجتمع المدني، فالولايات المتحدة تضحي بأهدافها الآنية على حساب أهدافها الاستراتيجية. وهي إذ تفعل ذلك فإنّما تقاوم سيرورة التاريخ وعزيمة القارة على تحقيق الدمقرطة على الأصعدة كافة. رغم هيمنة العسكريين في القرن الأفريقي وتمدّدهم في فضائه، فمن الواضح أنّ هواءه ينحسر عنهم كُل يوم وهم لا محالة مختنقون وميتون.


لم تفرغ اللجنة العليا لمناقشة مجالات التعاون بين السودان والولايات المتحدة (في الفترة 8 الي 9 أغسطس 2017) من تحديد سُبل عملهما معاً لتحسين الأمن في المنطقة حَتَّى بدأ الحديث عن الازدهار والمنفعة المتبادلة. الولايات المتحدة لا تريد سلاماً واستقراراً في المقام الأول، إنها تريد هدوءاً واستثماراً، فالهدوء يضمن لها استقرار ليبيا، وخلو دارفور من العناصر المشاغبة (المليشيات كافة، حكومية وغيرها)، والاستثمار يوئمن لها ريعاً من مربعي (12A & 12B) للبترول ويسهل الحصول علي الذهب واليورانيوم. لا يهم الامبريالية كيف يتحقق ذلك فقد اعتمدت أسلوب "الإخلاء" منذ عشرات بل مئات السنين من السكان (Depopoulation) وسيلة لضمان تدفق الاستثمار دون أن تؤرق حالها بمسؤولية اجتماعية أو سياسية.


إن الإخلاء حسب رأي كسنجر والذي صرح به في كتبه ومقالاته (عام 1978) يمكن أن يتم باستحداث مجاعة أو رعاية حرب أهلية، فهذان العاملان كفيلان بإخراج السكان وترحيلهما. أمريكا (اللا) أخلاقية والعصابة الإسلامية يلتقون للمرّة الألف، ولن يتوانوا في ضرب المليشيات كافة، حكومية وغيرها. ببساطة، أمريكا لا تريد "شوشرة" كما لا تمانع "المجزرة." واذا ما لم يدرك الأعراب خطورة الأمر فستحصدهم "طائرات التحالف"، وقد نبهتهم لذلك مراراً. وقلت لهم أجمعوا أمركم (Pull Your Act Together) وإلاّ فالدائرة ستدور عليكم.


إنَّ الأسلوب الذي اتبعته المنظمات الدّولية والوسطاء الإقليميون وغيرهم في التعامل مع ملف دارفور، خاصّة موضوع النازحين، يدلّ على أنّها تريد استبقائهم ولا تفضِّل رجوعهم إلى قراهم. وإلاّ فكيف لنا أنْ نفسِّر وجود شعب دارفور في معسكرات نزوح زهاء الإثني عشر عاماً مع تواجد واحدة من أكبر بعثات السلام في العالم؟ ولنا أنْ ننظر في الآليات التي اعتمدت، هل نجحت في شيء غير تنفيس الاتفاقيات وإضاعة الحقوق الشرعية لأهل دارفور، منهم مَن فعل ذلك متواطئاً مع نظام الإنقاذ ومنهم مَن لم تسعفه المعرفة والدربة بشؤون السلام في منطقة معقّدة مثل دارفور؟ صمت الإعلام الأمريكي فجأة ونأى عن الحديث عن الإبادة، بعد أنْ نجح في شيطنة العرب، كلّ العرب، وشغل الناس لفترة عن جرائم إسرائيل. بل اكتفى بإيلاء الملف إلى بعض الممثلين والممثلات الذين نجحوا في استعطاف الشعب الأمريكي - الإنسانويين منهم خاصّة - الذي التهى بعد فترة غير طويلة، بمصائب قوم آخرين.

وهو لا يُلام في ذلك. إذن، لا محيص لهذه الشعوب عن التعويل على ذاتها وضمان تضافر جهودها والاعتناء بكافة مكوناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية.


سنخلص من هذه التجربة المريرة بعبرة كبيرة وهي أنَّ النَّظريات الكبرى (superstructure) والتي سعت النُّخب الأيديولوجية لإسقاطها دون حتّى أيّ محاولة لتوليفها على البينة التحية الثقافية والاجتماعية (substructure) أو حتّى العمل على تثوير التُّربة - ترميمها أو تدعيمها- قد أحدث دماراً مدوياً سيكون من الصَّعب تدارك آثاره في القريب العاجل. عليه فلا بُدَّ من البدء للتخطيط منذ اليوم لأُفق يتجاوز الحلّ السِّياسي الفاجع إلى الحلِّ التنموي المُستدام، الذي يتطلب تطويع النظرية للواقع وليس تطويع الواقع للنظرية وذلك بالتركيز علي السياسات واعتماد المنهجيات (Policy Oriented Reform) وعدم الإكتفاء فقط بالشعارات(Rhetorical Politics) . هذا كله ممَّا يتطلب استشعار القادة لمسؤولياتهم الاخلاقية تجاه المواطن وحاجياته الدنيوية قبل الاحتفاء بطموحاتهم الذاتية وأحلامهم غير الواقعية أو المنطقية.


auwaab@gmail.com

 

آراء