أبلغ طفل والده عن نيته في الانضمام "للجريمة المُنظَّمة" واستشاره في الانضمام إلى إحدى الفريقين: الحكومة أم القطاع الخاص؟ هكذا وبدون إعطائه أيّ مهلة لإبداء رأيه في جدوى قراره العملية أو مبدئيتها -- طريقة الأولاد هذه الأيام -- إنّما فقط تبيان لذويه خيراته الواقعية. فكُلُّ ثلاثة لصوص احتاروا في طريقة يتجاوزون بها الضائقة الاقتصادية وقد راعهم تدهور الدولار شيَّدوا بنكاً، وكُلُّ خمسة مجرمين محترفين وفاشلين اجتماعيين نضب معينهم من الحِيل وخارت عزائمهم عن التكسُّب بالحلال لجأوا لاختلاس إحدى الدواوين الحكومية ولنراجع تقرير المراجع العام الأخير(يكفي مراجعتك أيُّها القارئ الحصيف قائمة أعضاء مجلس الإدارة لأيِّ بنك في السودان أو غيره كيف تدرك حقيقة ما أقول). هذا في العالم قاطبة وفي البلد المنكوب خاصَّة. إذا كان بنك امدرمان الوطني قد تمَّ إسعافه من الإفلاس ثلاث مرَّات على أيَّام حرب الجنوب، فإنَّ اليونانيين تظاهروا علي أيَّام ورطتهم المالية قبل أعوام لأنَّهم اكتشفوا أنَّ كُلَّ مئة دولار يؤدِّي سدادها يكون نسبة مالكي البنوك منها 98.8 فيما أنَّ القيمة الحقيقية لما اقترضه المواطن لا تتجاوز 1.2%. بمعنى أنَّ مالكي البنوك موّلوا مشاريعهم الخاصَّة واشتروا أملاكاً اقتراضاً باسم المواطن، فمَن كانت له مركبة بحرية فاخرة قيمتها 5 مليون دولار أمكنته القروض شراء مركبة أخرى بـ 15 مليون دولار، ومَن كانت له فيلا اشترى قصراً وهلم جر.
تأتي الشرطة البلهاء صبحاً لتقتفي أثر الجريمة الذي أزالته المخابرات ليلاً، فيما يتشدق السياسي"الضمين" و "النابه" وعلى يمينه مدير الشرطة "المتين" و"الوله" ولسان حاله يحكي الدراما الهزلية التي اختصرتها الحكمة الشعبية بقولهم "فلان بالليل مع السراريق وبالنَّهار مع لقَّاطين الدروب." الفرق بين العالم الأول والعالم الطيش هو فقط في الحذقة والحبكة، وليس الدربة والحرفة. فكلهم لصوص. لا يحتاج ذاك الطفل أو غيره لاكتشاف الأزمة الأخلاقية التي يعيشها العالم اليوم الذي أصبح في قبضة لصوص مسلَّحين (ولذا فحملة "نزع السّلاح" يجب أنْ تبدأ "بتجريد الدّولة" من بضاعتها المُزجاة والتي تستخدم لتغبيش الرّؤية ومنع المواطن حقّه في التوصُّل إلي صيغة مُرضية تجعله في سِلمٍ مع نفسه والآخرين). قال له والده وقد أعجبته نجابة ابنه وبراعته في التعرُّف على "جهتيْ الإبداع،" أُفضِّل أنْ تنضم إلى الحكومة، لأنَّها لن تعدم حِيلة في إيجاد مَن تدخله السجن نيابة عن محسوبيها، أي السّراريق (جمع سارق) الأصليين!
ظلَّت النُّخبة المركزية تُسخِّر موارد غرب السّودان منذ الاستقلال، وما قبله، لصالح الطّبقة الطّفيلية التي ظلَّت تستفيد من السمرة، في الفول السوداني، حب البطيخ، الصمغ العربي، المواشي ... إلخ، دون أنْ تفكر في تخصيص نسبة من العائدات لتطوير البحث العلمي، أو زيادة الوعي الإنتاجي، أو إنشاء بنية تحتية علّها تُوظَّف لصالح تنمية أو استدامة هذا الثّراء المهول. كانت هناك أُسس إدارية ومعايير اقتصادية، تنتظم الحياة رغم حيفها أو عدم عدالتها حتّى جاءت "العصابة" مُتزعمة التّدمير وليس التّغيير أو التّطوير؛ فعبثت بالنُّظُم وَسَخِرت من الموروث ووظَّفت كُلَّ ما لديها من قدرات لاستبقاء الأهالي في حالة من الأسر المعنوي (الهلع، والإحباط، واليأس، الخوف من المستقبل، استباق إبليس شره) الذي تؤكّده المسغبة وتقننه سُبُل الفقر المادي لأفراد، ومن عجبٍ، أغنياء. بل هُم نُجباء يسعون في أحلك الظّروف وأخطرها للكد والكسب من جهد أيديهم: تخرج العجوز منهم للاحتطاب، يتلقى الأطفال النجمة وهو في السَرْحَة، يخرج الرجال للزراعة والتّجار للسّوق، فلا تكاد تجد في الفَريق إلا عضير أو مسكين. احتبس الدّهر الزُّراع الأصليين، مضى إخوانهم يتلفتون من هول المصيبة ويجأرون للخالق كي يُجنِّبهم مغبة الظّلم. فلا يمضي خمسة أو سبعة إلى الخلاء يكبرون زرعاً أو يزربون أرضاً، لا يعرفون شيئاً عن سيرة مالكها، إلاّ وهُم حاملين السلاح. وهُم في هذه المِحنة لا شكَّ أنَّهم يرجون يوماً يرجع فيه الأمر لما كان عليه، وقد شهدوا بأمِّ عينهم آفة المقولة الجاهلية (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وخبروا فداحة البسالة الكاذبة (أمسح أكسح). لكن الحكومة (وعملائها من المؤتمرجية) لا تريد لهم أنْ يرجعوا إلي سيرتهم الأولى وقد أفاقوا. فما السبيل؟ ما هي مصلحة "الدّولة" في الصَّدِّ عن السّبيل، التّغرير بالشّعب وتدمير موارده؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلَّب مراجعة المصطلح، فهذه ليس "دولة" إنَّما هي "عصابة" تواطأت على اختطاف الموروث وارتهان المستقبل لصالح أوهام أيديولوجية. ما آل إليه الأمر هو مزيجٌ من الوهم والجهل تختصره عبارة "الضَّابط الرِّسالي" منذ اليوم الأول وقد تعرضتُ لهذا الأمر بتفاصيل أوردتها في مقالي: الحكمانية - تَحكُّم أمْ إحكام (تعليق علي تجربة الحكم المحلِّي في العالم العربي/السودان حالة خاصَّة). إن العقيد أنس عمر، والي ولاية شرق دارفور، هو نموذج مثالي لذاك الضابط الرسالي، لأنه ليس له أدني تأهيل أكاديمي أو مهني في أيٍ من مجالات التنمية أو الإدارة أو التخطيط كما لم يصَّعد في إحدى دواوين ألحكم المحلي. فجل ما حازه من فخار هو الاشتراك في إبادة شعب الجنوب ولذا فهو يبرع في الخطابة والحديث عن الجهاد بمناسبة ومن دون مناسبة لكنه لا يتطرق مطلقاً للحديث عن التنمية فأفضل وظيفة نالها وأقربها للمتطلبات المهنية، قبل أن تعهد إليه مسؤولية الولاية المنكوبة والهاملة بفعل ما ارتكبه بنيها ونخبتها، هي وظيفة "مسؤول التأمين لمؤسسة بترولية." مثل هذا الشخص يمكن أن يعهد إليه بمسؤولية في الشمالية أو نهر النيل، أمّأ أن يعهد إليه بمسؤولية في ولاية حدودية فأمر مخزي ومحير.
منذ اليوم الأول كان هم الجبهة الإسلامية اعتماد "الفوضى الخلَّاقة" كوسيلة لضرب الولاءات التّقليدية واستتباع الريف من خلال التّمكين لنُخب طفيلية، متجاوزة حتى مفهوم الاقتصاد الرِّيعي إلى (لا) اقتصاد، إنَّما فقط السّمسرة. لكن كيف ينجح هذا مع شخص (مزارع) يملك كافَّة سبل الإنتاج (مطر، أرض وسواعد فتية)؟ لن تعدم الإنقاذ حِيلة، فقد فتحت أبواب التّصدير للزيوت بكافَّة أنواعها من ماليزيا وغيرها؛ فكسدت البضاعة وافتقر المواطن، بل عدم أيّ حِيلة لتغطية فاتورة العلاج والتّعليم مِمَّا اضَّطره لحمل السّلاح. كانت هذه الفرصة التي تنتظرها النُّخب العسكرية والأمنية التي احترفت التجارة في زمن الحروب - خاصَّة حرب الجنوب - وتعرِف كيف توظِّف هذا الظّرف لصالح جيبها وجيوب محسوبيها. من أخطر هذه الأُسر، أسرة العقيد أنس عمر، الذي انضمَّ هو وأخوته منذ اليوم الأول في الإنقاذ إلي الجهاز، وكان لهم القدح المُعلى في "دحر التمرد" مستخدمين مقدرتهم على الكيد، وليس جرأتهم على التّصدِّي مستخدمين حِيلاً تنموية أو تدابير مُؤسَّسية وطنية.
إذا تفحَّصت قائمة جميع الشركات التي تعمل في خطِّ الإمداد من الخرطوم إلي دارفور؛ تجد أنَّ كُلَّ الموردين للسّلع التّموينية ومواد البناء ووكلاء شركات الطيران ومُتعهِّدي الأدوية ومواد "التّخدير" كافَّة من الشركات الأمنية التابعة للنِّظام أو الدّولة. هل لهؤلاء مصلحة في انتهاء الحرب واستتباب الأمن، وقد اغتنوا من السُّوق السَّوداء وتزوَّدوا بفرق السِّعر الهائل في البضاعة، أمْ إنَّهم يُريدون أنْ يمارسوا احتكاراً للذخيرة والسِّلاح تجعل المواطن تحت رحمتهم، أكثر مِمَّا هو عليه، إذ إنَّ "التَفلُّت غير المُتحكم فيه" قد يضرُّ بمصالحهم الآنية ويقلِّل من فوائدهم التِّجارية؟ سبق لي أن قدمت ورقة بالتعاون مع الأستاذ حامد علي محمد نور، الأمين العام لمبادرة المجتمع المدني، وناشطين مدنيين أخرين أن تقدمنا بورقة استراتيجية - وذلك قبل عدة سنوات – لعدة مؤسسات شملت كانت تهدف إلى خلق هامش تثاقفي يعتمد القبائل العربية عنصراً من عناصر البناء وزاداً يدعم مشروعية الإخاء(Arabs for Integrated & Peaceful Darfur) ، وحذرت من إضعاف العرب وتبعيضهم وسيلة لتأمين المركز؛ لأنَّ ذلك يفلُّ من عضد دارفور ويجعل من المستحيل الوصول إلى حلٍّ سلمي للأزمة قد يُرتجى مستقبلاً. لقد دخلت الدّولة باستهانتها للأمر في "أم كبك" لأنَّها بتفتيت الكيانات العربية قد هيّأت لبعض المجموعات الانتهازية الاستحواذ علي منصَّة المشهد السياسي والعسكري دونما أدنى أهلية، وهزأت بالنُّخب المحلِّية والقومية وبالإدارات الأهلية، وضربت عرض الحائط بالتَّحالفات الاستراتيجية التي حكمت دارفور خمسمائة عام. وإذا ذاك هو الحال فإنَّ "الدّولة" لا تستطيع أنْ تستعين بعُنصر الفناء اليوم لدعم مشروع البناء. إذن، لا بُدَّ لها من عناصر بشرية جديده تتمتع بأهلية شعبية، والأهمُّ من ذلك؛ تمتلك رؤى مستقبلية. من أين لها بهؤلاء؟ مَن الذي يرتضي لنفسه التَّعامل مع "العصابة"، بل من ذا الذي يقوى على تحمُّل وزر الإبادة والله عز وجل يقول (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار) (هود 113) والرّكون هو مُجرّد المَيل القلبي، ما بالك بالتخطيط والتنفيذ والإمعان في التّدليس وبخس الحقِّ أهله؟ لا غرو، فقد عرضت الدولة منصب وزير العدل مؤخراً علي أربعة عشر مرشحا قبل أن تجد شخصا واحداً مؤهلاً يقبل هذه الوظيفة التي جل مبتغاها التستر علي الجناة؟
ليس هنا المجال للتّوسُّع، لكنني سأفرد مقالاً يُبين الأدوار التي قام بها اللواء دُخري الزَّمان - الأخ الأكبر للعقيد أنس عمر- في شأن الإبادة العرقية في الجنوب، وفي دارفور، وقيمة ما جناه من ثراءٍ مادي هو وإخوته مقابل إثبات ولائهم للإنقاذ ولعصابات المركز كافَّة. كان أحد أعمامي العسكريين مُعجباً باللواء دُخري الزَّمان وبأدائه عندما كان ضابطاً في نيالا، وكان كثيراً ما يقول لي "اللواء دخُري الزَّمان رجلٌ محترم." كنتُ أعجبُ من سذاجته، لكنني أكتفي بالقول "التَّهذيب هو أداة العُنصريين للتّشذيب. وذلك منذ فجر التَّاريخ. إنَّك لن تجد تهذيباً يفوق تهذيب جنرالات هتلر وعُتاة طاقمه الأمني، هُم يُسلونك ويؤنسونك بل يضحكونك وهُم آخذيك من باب الزّنزانة إلى حائط الدِّروة، بل إنك لن تجد رجلاً اليوم يفوق "الرجل الأبيض" اليوم في رُقِيِه وابتسامته الصفراء التي ساد بها علي الأمم البلهاء."
لعلَّ أكثر ما يحرجهم اليوم تصرُّفات الرئيس ترمب، ليس لأنَّها خرقاء؛ لكن لأنَّها تكشف حقيقة مُؤسَّستهم العُنصرية والإمبريالية؛ فَتُعَجِّل بذلك في فضحهم ومن ثَمَّ تستدرج كافّة القوى لمقاومتهم؛ وهذا ما يخشونه. الأمر إذن لا يختلف عن واقع النُّخب المركزية في السُّودان لأنَّها سادت يوم أنْ سادت مُعتمدةً على المكر والدّهاء والمقدرة علي التلوُّن كالحرباء - دعوات أخروية تبنَّتها الطَّائفية والجبهة الإسلامية القومية ودعوات تقدمية تبنَّاها اليسار والجبهة الثَّورية، فلما انفضح كُلَّ هذا الإفك اتَّخذ اليمين من الدّولة غنيمة، واتَّخذ اليسار من منظمَّات المجتمع المدني رهينة (تجد التفصيل في مقالي القادم تحت عنوان مُبادرة المجتمع المدني: سفينة غرقت في بحر الكبر والوهم والطمع)؛ أمّأ البؤساء من أبناء الهامش فهم يقتاتون من هذه الموائد إذ لا يملكون لأنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشورا، أو هكذا يتوهمون.
لعلَّها دارفور بهذا تكون آخر المستوطنات، إذ إنَّ قادّة المركز قد اختلفوا ولم يتفقوا على تفويض "دي كليرك" كي يفاوض بالإنابة عنهم؛ ولذا فَهُم لن يستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد - يوم أنْ تتقاطع الدوشكات في شارعي الستين وعبيد ختم - حينها لن تُجدي الاستعانة بالعقلاء وسنتركهم للسفهاء يحسمون أمرهم معهم - وهذا ما يستحقونه حقّاً. إذا لجأت "مايو الحمراء" لسلاح الجو المصري لقتل العزل في الجزيرة أبا فحصدت اثني عشرة ألفاً من الأهالي وبذات الدوافع التي قُتِل بها المدنيين في دارفور، فلا أدري لمَن ستلجأ النُّخب المركزية هذه المرَّة والأعداء يتربَّصون بها من كُلِّ صوب ولا صليح لها من أبناء الشَّعب؟ ما لم نتدارك هذا الفدح المعنوي ونعترف بمسبباته؛ فإنَّ دائرة العنف هذه لن تنتهي، طالما هنالك غُبن فتأكد أنَّ هنالك عنفاً، والعنف يجتر عنفاً مُضاداً. الأمر الذي لن تعالجه الأغاني الوطنية (كرري تحدث عن رجال كالأسود الضَّارية، علماً بأنَّ البيوت التي تسود اليوم قد تسلل أسلافها بالليل عشية كرري من أمدرمان - بلد كبار الجواسيس آنذاك - وأجهزت علي الجرحى وسلبت الأسرى. لا داعي للتَّطريب، دعونا نتكاشف ونرمي هذا التَّاريخ وراءنا ونمضي في طريقنا لتنمية الذَّات الوطنية)، إنَّما المعالجات الدّستورية والسِّياسية والتَّعليمية التَّربوية الرَّاشدة.
لقد تحقَّق الهدف الاستراتيجي للجبهة الإسلامية ولو بصورة دراماتيكية مُتمثِّلاً في خلق انسيابية في ملكية الأرض، وميوعة إدارية وسياسية واعتباطية لم تكن متعمدة في التعاطي مع هذا الشأن المُعقد. لا يهم كم من الألوف ماتت أو قُتِلت أو نزحت أو شُرِّدت، المُهمّ أنَّ الجبهة قد نجحت في "زحزحة الولاءات التقليدية"! هذا العبارة الخبيثة والجهولة والحقودة التي استخدمها الشيوعيون في حلِّهم للإدارة الأهلية، واعتمدها الإسلاميون في محاولتهم "لإعادة صياغة الإنسان السُّوداني"، بيد أنَّ الأخيرين قد رأوا مصلحة في احتواء الإدارة الأهلية وتجريدها تدريجياً من كافة صلاحيتها، مع الإبقاء عليها إلى حين مجيء اللحظة لركلها، وقد أزفت تلكم السَّاعة! ونواصل بإذن الله........