آل المهدي والميرغني بعيني البريطانية إيزماي توماس : تحرير: جراهام توماس .. عرض: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 





آل المهدي والميرغني بعيني البريطانية إيزماي توماس

تحرير: جراهام توماس

عرض: بدر الدين حامد الهاشمي

عاشت إيزماي توماس (1920 – 1995م) تلك السيدة البريطانية (الويلزية) سنوات من عمرها في السودان، فقد قدمت للبلاد مع زوجها جراهام توماس عام 1950م، وعملت في البدء في سلك التدريس في كلية المعلمات بأمدرمان، ثم انتقلت للعمل كمفتشة للتعليم في إدارة تعليم البنات والمرأة  في مديرية الخرطوم.
نشر زوجها جراهام توماس مذكراتها في كتاب صدر في عام 2000م بعنوان " Sudan Journal of Ismay Thomas" عن دار النشر البريطانية  The Book Guild Ltd (BG)  . الكاتبة وزوجها من كبار أنصار حزب العمال، فلا غرو أن قدم للكتاب اللورد جيمس كالاهان (زعيم حزب العمال ورئيس الوزارة البريطانية بين عامي 1976 و1979م)  ولورد روي جينكيز (سياسي من ويلز، وأحد قادة حزب العمال في سبعينات القرن الماضي). أشاد كالاهان بحرص الكاتبة على إقامة علاقة صداقة وتواصل اجتماعي مع قادة العمل السياسي والاجتماعي والديني في السودان، وكذلك لدورها المهم في نشر تعليم البنات في زمن كانت تمنع كثير من القيود الاجتماعية والأعراف القبيلة فيه ذلك التعليم. سجل جينكيز أيضا تقديره للكاتبة لما قامت به من عمل رائد في مجال تعليم البنات في السودان وكينيا ومصر، وأبدى إعجابه بعين الكاتبة الفاحصة (لعله يقصد الشديدة النقد!)، واهتمامها بتسجيل أدق التفاصيل عن جوانب كثيرة من الحياة الثقافية والاجتماعية في سنوات ما سماه العهد "شبه الاستعماري semi colonial".
في هذا الجزء نعرض لبعض ما جاء هذا الكتاب من ملاحظاتها ومشاهداتها من واقع مقابلاتها مع السادة علي الميرغني والهادي المهدي والصديق المهدي وداؤد الخليفة ورجل الأعمال "مصطفى أبو العلا". لا تكاد تجد فقرة في  كتاب السيدة أيزماي تخلو من نقد جارح أو سخرية ظاهرة أو مبطنة أو "شناف" لما تراه أو تجده في الحياة السودانية دون اعتبار للظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في تلك السنوات. وتجدها حتى عندما تشيد بشيء أو شخص أو موقف معين، فسرعان ما تتبع ذلك بكلمتها الأثيرة "ولكن"! جاء مثلا في إحدى محاولاتها المتهكمة عندما زارت حديقة الحيوان ووجدت هنالك غزالة حامل، فكتبت تقول إن تلك حالة شائعة أيضا بين نساء الخرطوم! يلاحظ أيضا ورود أخطاء جمة في قاموس المصطلحات في آخر الكتاب، فمثلا فسرت كلمة "سيد" بأنها تعني رجل من نسل الرسول، وكلمة "أنصار" بأنها تعني مشروب كحولي، و"الفلاتة" بأنهم من شمال أفريقيا!

1/ مع السيد/ الهادي عبد الرحمن المهدي في الجزيرة أبا:
وصفت الكاتبة ببعض التوسع تفاصيل رحلتها للجزيرة أبا ومرروها بعدة محطات منها سنار (والتي أعجبت بما رأته فيها من حياة برية، فقد رأت فيها وللمرة الأولى في حياتها ثعبانا وقردا في بيئتهما الطبيعية) وجبل موية (كتبتها  (Jebel Marya والراوات (كتبتها Rabat)، حيث كانت في انتظارها وزوجها ومن معهما سيارة لتقلهم للجزيرة أبا. دهشت للخضرة في تلك المنطقة، ولرؤيتها لرجال ونساء يستحمون في النيل، وذلك – حسب قولها – أمر غير مألوف في الخرطوم. عبرت بوابة ضخمة لتدخل "القصر"، والذي لم تفتها (كالعادة) فيه ملاحظة الإهمال الذي كان واضحا على حديقته ومسطحه العشبي. كان "القصر" في الواقع مكونا من عدة بيوت تربط بينها ممرات مرصوفة، وله مدخل واحد عليه رمز الأنصار الشهير والمكون من هلال وحربة. أدخلت الكاتبة وزوجها إلى صالون كبير ريثما يستقبلهما السيد/ الهادي ابن السير عبد الرحمن المهدي. خصصت الكاتبة ثلاثة صفحات كاملة لوصف محتويات ذلك القصر (مع كثير من النقد وبعض التهكم). فقد كتبت أن ما رسخ في ذاكرتها من ذلك الصالون هو مفرش المائدة الأخضر المصنوع من القطيفة، والذباب (والذي قالت إنه كان بالآلف) وصوت قطع الثلج في المشروب الذي قدم لها (فقد كان الجو بالغ الحرارة في اليوم الأخير من شهر يوليو). أشادت أيضا بغرفة النوم التى خصصت لهما في ذلك القصر وبكبرها وبأثاثها العصري جدا (super- modern)  ولكن أزعجها فيها عدم الاهتمام بترتيب واستخدام ذلك الأثاث الفاخر، وأيضا وجود الذباب الكثير، وعدم وجود اضاءة في الحمامات رغم كثرة مصابيح الضوء الفلوري في بقية أجزاء القصر. كذلك انتقدت الحمامات وسوء التصريف فيها مما استلزم معه نقلها لغرفة أخرى في الطابق الأعلى وجدتها أقل حرا وذبابا.
تناولت طعام الإفطار مع السيد الهادي، والذي وصفته بأنه شخصية لطيفة جذابة مغرم بالاستشهاد بشكسبير. كان يبدو أنيقا – كما ذكرت- وهو يرتدي جلابية وعمامة. قدم الطعام في أواني من الصيني الفاخر، بيد أن كثرة الذباب أفسدت عليهما بهجة تلك الوجبة. عقب الإفطار قاما بجولة في "القصر" وسجلت في مذكراتها سوء بنائه وضعف الذوق الفني والجمالي عند من صممه ونفذه! زارت "المتحف" في القصر وذكرت أنه بحاجة ماسة لكثير من الرعاية والاهتمام والتأهيل، إذ أنه يحتوي علي تذكارات مهمة من عهد المهدية الأول مثل بعض ملابس قادة العهد المهدوي وسروج جمال وأزيار فخارية، وللغرابة وجدت أيضا جهازا قديما من أجهزة اديسون بيل ما زال يعمل!
وصفت الغداء الذي قدم لها عند استضافة السيد/ الهادي المهدي لها في قصره بالجزيرة أبا بأنه كان "سيئ التقديم" فقط لأنها ترى أنه من غير المناسب تقديم الطعام في أطباق صيني فرنسية، وأن يقدم الخل في زجاجات صلصة فارغة! بعد الغداء وعدهما السيد الهادي بجولة في القرية ولتفقد إسطبل خيوله. وبعد انتظار طويل (كما اشتكت) وصل السيد الهادي وأخذهما في جولة قابلا فيها عددا من سكان الجزيرة الذين كانوا يظهرون للسيد الهادي كثيرا من التبجيل والاحترام وهم منهمك في اعطائهم البركة. قالت إن إسطبل القصر كان به نحو 60 حصانا، ولكنها اشتكت من أن العرض الذي قدمته هذه الخيول لهما لم يكن عرضا مميزا ولا جذابا. بعد ذلك العرض قدم لهما شاي في طقم أخضر وذهبي اللون لم تستطع نقده هذه المرة، ثم شاهدت عرضا موسيقيا قدمه عازفون للقرب والطبول، حاز (للغرابة) على اعجابها، إذ لم تكن تتوقع سماع موسيقي اسكتلندية في عمق أفريقيا.
عرفها السيد/ الهادي على عائلته، فقابلت حرمه السيدة رقية (لعلها رجبية؟) ذات الثلاثة وعشرين عاما، والتي وصفتها بأنها "بنت" شديدة الذكاء، وناضجة التفكير، وتجيد التحدث بالإنجليزية، وزارت بريطانيا قبل سنوات مع زوجها. أعجبت الكاتبة بطفلي السيد/ الهادي، خاصة بنته التي خافت من زوجها (جراهام) ربما لأنه كان يرتدي بنطالا أبيضا، فظنته طبيبا!
في صباح اليوم التالي دعيت للإفطار في مزرعة (جنينة) فواكة بعيدة عن القصر. مرت في الطريق إلى تلك المزرعة بورشة صيانة أشادت بتنظيمها بيد أنها لاحظت أن العمال فيها من صغار السن.
لاحظت المؤلفة أن الجزيرة أبا، رغم بعض التطور الذي حدث فيها، إلا أن بعض الأفكار المهدوية ما زالت حية فيها، وضربت لذلك مثلا هو منع بيع الخمور والسجائر فيها. أكد لهم السيد الهادي أنه لا يدري ما يفعله الناس في بيوتهم، لكنه يؤكد أن لا أحد يدخن في الشارع أو السوق.
بعد شهور زار السيد الهادي الكاتبة وزوجها في بيتها، وقامت الكاتبة بتحضير كيكة ويلزية لتعريفه بالأطباق الويلزية الشعبية  وهم جلوس في الحديقة، ولكن الهبوب العاصفة والأمطار الغزيرة في ذلك المساء أفسد تلك الزيارة.  
2/ مع السيد/ علي الميرغني:
لبت الكاتبة وزوجها دعوة السيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية لتناول الشاي عصر يوم 26/4/1952م. شرفت جدا بتلك الدعوة إذ أن السيد علي قلما يستقبل امرأة أجنبية عدا زوجة الحاكم العام، ولا يقابل امرأة سودانية قط، وهو أيضا صاحب رأي متحفظ في تعليم البنات. أشادت المؤلفة بالسيد وبصحته الممتازة، وأيضا بالكيكة التي قدمت لها مع الشاي (والتي ذابت كما قالت حقيقة ومجازا في فمها). كان السيد واضحا وصريحا في نقده للحكومة، خاصة بعد أن قلبت له ظهر المجن باتفاقية 1936م  حيث غدا السيد عبد الرحمن المهدي هو حليفها الأثير عوضا عنه. يتميز الرجل بأنه شديد الحرص والتحفظ عند الحديث مع جلسائه، وكان من الطرائف المتداولة بين الناس أن السيد علي لا يناقش مع ضيوفه إلا أحوال الطقس وأخبار القنبلة النووية، لذا كان حديثه الصريح لهما عن عدم رضائه عن الحكومة لميلها للسيد عبد الرحمن المهدي أمرا بالغ الأهمية. كان واضحا أنه ليس مصري الهوى، بيد أنه التجأ لمصر مضطرا بعد أن تخلت عنه بريطانيا. وعدهما السيد علي بقول المزيد عند لقائه بهما بعد عودتهما من العطلة السنوية، وذكر لهما أنه يقدرهما، والدليل على ذلك  أنه سمح لابنيه بتناول الشاي معهما قبل أن يسافرا لبريطانيا في العطلة السنوية. بعد نحو أسبوع من تلك المقابلة زار السيد محمد عثمان الميرغني وشقيقه الأصغر أحمد منزل المؤلفة في أمدرمان. قدما في رفقة ميرغني حمزة و الخليفة موسى وكيل السيد على الميرغني. كان ذلك اليوم حارا جدا (في 2/5/1952م) ورغم ذلك أتى السيدان الصغيران وكل منهما يرتدي معطفا صوفيا ثقيلا يمتد إلى الكاحلين، ومغلق بإحكام عند العنق!  رفضا بإصرار محاولات الكاتبة وزوجها لجعلهما يخلعان المعطفين الشتويين. بدا لها أن أحدا منهما لم يخلع معطفه الصوفي أبدا! كان الابن الكبير (17 سنة) فتى جادا رفيع الوجه يرتدي نظارة، ويشبه والده كثيرا، بينما كان للسيد أحمد (12 سنة) وجه مستدير وحجم أكبر من عمره الحقيقي.  كان الولدان يتلقيان دروسا خاصة حتى لا يختلطا بالطلاب في المدارس العامة أو الخاصة، والمؤلفة ترى في ذلك خطأ تربويا وبيلا. لم يحدث أبدا أن سمح لهما والدهما بالخروج لتناول الشاي مثلا في بيت أحد السودانيين أو البريطانيين ، ولم يغادرا دارهما إلا مرة واحدة لمصر لتلقي العلاج. سجلت في مذكراتها أن الابن الكبير شديد الذكاء ويجيد التصوير ويتحدث الإنجليزية بطلاقة مدهشة، بينما كان الابن الصغير خجولا لم يفتح فمه بكلمة واكتفى بالاستماع للآخرين والتبسم (لا يخفى على فطنة القارئ أن الكاتبة من مناصري عائلة المهدي، ولا مصلحة لها في إنصاف المنافس التقليدي لتلك  العائلة... وإلا فما الذي تتوقعه من طفل في الثانية عشرة من عمره وهو في حضرة امرأة ورجل بريطاني؟"         .
3/ مع السيد/ الصديق عبد الرحمن المهدي:
زارت الكاتبة وزوجها السيد الصديق في قصر والده للتهنئة بعيد الفطر. كان الرجل يستقبل وفود المهنئين بالعيد في صالون ضخم شبهته بصالونات النبلاء والدوقات الإنجليز ، لكنها – ورغم إعجابها بالسجاجيد الحمراء الجميلة في ذلك الصالون-  انتقدت بشدة أثاث الصالون الأحمر المطلي بالذهب، وخلو الحوائط من أي اثر فني أو حتى ستائر. كانت الزينة الوحيدة في ديكور الصالون هو حصان فضي غالي الثمن – فيما يبدو- لم يسلم من انتقاد الكاتبة فكتبت تقول بأنه يبدو "غريبا ومنفصلا" عن ما حوله في الصالون. ولكن وللمرة الأولى تحاول الكاتبة أن تفسر ما تراه حولها فكتبت تقول إن ما تم انجازه في السودان – رغم سوءه - قد تم في وقت قصير نسبيا، فقبل سنوات من مقدمها للبلاد كان "هؤلاء الناس" يعيشون في ظروف تتميز بالبساطة الشديدة والهمجية وعدم التمدن /التحضر.  
4/ مع داؤد الخليفة:
بعد زيارتها إلى مدني وبركات زارت داؤد الخليفة، أحد مفتشي المراكز في مدينة سنار في بيته ذات مساء جمعة. قالت إنه "ابن الخليفة" (عبد الله التعايشي) وتعجبت من تبدل مصائر تلك العائلة، من العداوة المطلقة مع البريطانيين إلى التعاون الوثيق. قابلته في صباح اليوم التالي في مكتبه. وصفته بأنه ضخم البنية، يتراوح عمره بين 53 – 54 عاما، وله شخصية مثيرة للاهتمام لكنه شديد العصبية والتوتر، فقد كان يفرقع/"يطقطق" أصابعه في قلق، وأضافت أن تلك عادة سودانية متأصلة (هكذا!). وفر لها سيد داؤد سيارة لتزور الغابات المحيطة بالمنطقة، وشهد معها حفل عشاء أقامه المهندس المقيم في داره. اكتشفت – كما زعمت-  في ذلك الحفل أن داؤد الخليفة (خلافا لأخيه) ما زال "مهدويا"، ولكنها تعجبت من أنه، رغم ديانته الإسلامية، فإنه يعترف بولادة العذراء وأن المسيح – بطريقة ما – قد خلقه الله (لعلها كتبت هذا القول من باب الجهل، إذ أنه من المعلوم أن مريم ورد ذكرها في القرآن بأكثر مما ورد في الإنجيل، ووصف القرآن الكريم عيسى بأنه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم بنت عمران)، وتعجبت أكثر عندما سمعته يعترف (خلافا لما جاء في القرآن كما زعمت) بأن عيسى قد رفع للسماء (received into heaven). كل هذه الآراء التي ظنتها غريبة تبدو أكثر غرابة عندما سمعت من كثير من الإداريين البريطانيين أنهم ملحدون.
5/ مع مصطفي أبو العلا:
عندما كانت الكاتبة في زيارة للندن قابلت مصطفى ابو العلا (ومعه قريبه السيد زبير الملك، والذي جاء للاستشفاء) في فندق ريتز، ثم تناولوا الغداء معا في البيكاديلي. أشادت بمصطفى وبروح الفكاهة والدعابة عنده، ودبرت له لقاءا مع دوق بيدفورد، وأثمر ذلك اللقاء عن صفقة تجارية يبعث بموجبها أبو العلا فول قرود (هل المقصود فول سوداني؟)  لمزرعة طيور الدوق.
لبت الكاتبة وزوجها دعوة مصطفى أبو العلا و زبير الملك لحفل عشاء أراها فيه زبير خنافس (جعارين) ذات ألوان غريبة أحضرت من دنقلا، بينما أحضر مصطفى – كعادته- حيلة مضحكة، إذ قدم لها قطعة شيكولاتا ما أن بدأت في تناولها حتى انطلق منها صوت أزيز ووميض ضوء. ولم يكتف بذلك بل أعطاها قبعة سوداء وأشعل رأسها فإذا بحية سوداء لا يقل طولها عن ستة أمتار تسعى من بين القبعة. لم تكن حقيقية بالطبع، بل كانت من المطاط. سعدت جدا بهدية مصطفى (الحقيقية) والتي كانت كيكة شيوكلاتا من محل قروبي الشهير. (في رواية "حارة المغنى" للروائية السودانية ليلى أبو العلا إشارة إلى كثير من هذه الحكايات في سياقات درامية مختلفة).





badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء