أثر خفض قيمة الجنيه على النمو الاقتصادي

 


 

 

د. عمر محجوب محمد الحسين

منذ العام 1947م ظل السودان يعاني من عجز الحساب الجاري، وهذه هي الصورة الغالبة منذ ذلك التاريخ سوى سنوات قليلة متفرقة حدث فيها العكس. مشكلة عجز الحساب الجاري تتوسط العلاقة بين انخفاض قيمة الجنيه، والنمو الاقتصادي، حيث إن انخفاض قيمة الجنيه تؤثر سلبا على رصيد الحساب الجاري، والنمو الاقتصادي بصورة غير مباشرة.
تميز السودان منذ الاستقلال بعدم الاستقرار الاقتصادي الناجم عن صدمات الاقتصاد الكلي التي نتج عنها عجز ميزان المدفوعات، وهذه الصدمات تسبب فيها عرض النقود، الضرائب والرسوم، الانفاق الحكومي وضعف الناتج المحلي الاجمالي، بالإضافة إلى اعتماد السودان في صادراته على المواد الاولية. لجأت الحكومة لأول مرة إلى تخفيض القيمة الاسمية للجنيه السوداني في العام 1980 بنسبة 25% امام العملات الصعبة بعد أن اجبرها على ذلك صندوق النقد الدولي ظنا منها أن ذلك سوف يصحح الوضع؛ تتضمن مبادرات صندوق النقد الدولي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي والإصلاحات البنيوية خفض قيمة العملة كأحد تدابير الإصلاح. وقد نفذت العديد من البلدان النامية مثل هذه البرامج تحت إشراف صندوق النقد الدولي، علما بأن هناك قنوات مختلفة تؤثر من خلالها تقلبات العملة على التضخم والنمو الاقتصادي. ولأسباب عديدة، تخفض البلدان الأقل نمواً قيمة عملاتها من أجل زيادة مستوى الناتج، الأمر الذي من شأنه أن يرفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
جاء قرار خفض قيمة الجنيه نتيجة لمشاركة صندوق النقد الدولي في وضع سياسات سعر الصرف في السودان، حيث قدم مكتب صندوق النقد الدولي في السودان في ذلك الوقت شرحاً لحجج خفض قيمة الجنيه، جاء فيها أن خفض قيمة الجنيه قد يقلل النقص في النقد الأجنبي في السودان، حيث تزداد الصادرات وتصبح أكثر ربحية، وتناسى الصندوق الطبيعة غير المرنة لصادرات المنتجات الزراعية التي شكلت الجزء الاكبر من الصادرات السودانية في ذلك الوقت والتي تتميز بتذبذب أسعارها العالمية، لذلك ما كانت لتمكن من تحقيق ميزة تؤدى الى تحقيق المزيد من الايرادات الملموسة، ايضا كان من أسباب خفض قيمة الجنيه هو عجز الحكومة عن سداد الديون، والوصول الى مرحلة الحد الاعلى من العجز المسموح به والمقرر من صندوق النقد الدولي، لا شك ان السبب الأخير يشكل مصلحة للصندوق. أيضا كان من أسباب أول خفض لقيمة الجنيه الاسمية في تاريخ السودان، لإحداث زيادة في قيمة العملة المتداولة لزيادة السيولة داخل البلاد ولكسب الأسواق الخارجية على اعتبار أن خفض قيمة الجنيه يؤدى إلى استفادة المشتريين الخارجيين من فرق السعر كلما انخفض الجنيه، أيضا كان من أسباب الخفض تغطية العجز في ميزان المدفوعات ولزيادة الإنفاق في عمليات التنمية؛ وحصرنا خفض العملة في هذين المجالين لأن قيمة الجنيه السوداني لم تكن متدهورة عند اتخاذ القرار بخفض قيمته وطباعة المزيد من الأوراق النقدية لتغطية العجز. نشير إلى أن زيادة الأوراق النقدية المتداولة مع ثبات حالة الانتاج يعنى حدوث تضخم، ايضا هناك نتائج للخفض بالنسبة للمعاملات الخارجية ففيما يتعلق بالتصدير والاستيراد نجد أن ميزان المدفوعات يجب أن يدار بسياسة تهدف الى تقليل الواردات بحيث لا تزيد عن الصادرات لأن ذلك يؤدى الى صرف المزيد من العملة الأجنبية الأعلى قيمة بعد خفض قيمة الجنيه. من جانب آخر نجد أن الخفض يؤثر على قدرة الحكومة على سداد أقساط الديون وفوائدها للدول الأجنبية حيث يصبح الدين بعد الخفض أكثر عبئاً، وهذه النتيجة عكس ما يتوقعه الصندوق من الخفض فيما يخص قدرة الحكومة على سداد التزاماتها.
يذكر أن برنامج صندوق النقد الدولي الذي بدء تنفيذه اعتبارا من العام 1978، كان من الأهداف الرئيسية للبرنامج خاصة بمؤشرات الاقتصاد الكليلالفترة ما بين 1978/1979 -1981/1982 رفع معدل النمو الاقتصادي إلى حوالي 4 % في السنة وخفض معدل التضخم إلى 10 %، من خلال مجموعة من التدابير الرامية إلى خفض العجز في الميزانية الحكومية والاقتراض من البنوك المحلية. لكن انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنحو 6 % بالقيمة الحقيقية، وزاد العجز في ميزانية الحكومة المركزية حوالي 10 % من الناتج المحلي الإجمالي، وزادت القاعدة النقدية بمعدل سنوي في المتوسط أكثر من 40 % بالمقارنة مع المعدل المستهدف البالغ 16 % لمجموعة برنامج 1980-1981؛ وفي ذات الفترة ارتفع معدل التضخم إلى حوالي 35 % سنويا في المتوسط.
بحلول عام 2017م وإعادة افتتاح مكتب صندوق النقد الدولي في الخرطوم، نسير في ذات الاتجاه دون الإحساس بأي تغيير منذ اعتمادنا على مبادرات الصندوق، أشارت تقديرات الصندوق إلى انكماش الناتج المحلي الإجمال بنسبة 2.5%في عام 2019، وذلك في ظل ضعف القدرة التنافسية وبيئة الأعمال السيئة والاضطرابات الاجتماعية. وعلاوة على ذلك، ارتفع العجز المال بنحو ثلاث نقاط مئوية إلى 10.8%من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2019، وهو ما يعكس تضخم دعم الطاقة وانخفاض سعر الصرف واتساع العجز. وارتفع التضخم إلى 60%في نوفمبر 2019، في حين يستمر سعر الصرف في السوق الموازية في الانخفاض وضعف تعبئة الإيرادات. وف ي ظل التمويل الخارج ي المحدود، تم تمويل العجز المالي في المقام الأول من خلال النقد، مما أدى إلى تغذية حلقة مفرغة من التضخم للغاية مع ممارسات العملة المتعددة، وسعر الصرف الحقيقي مبالغ فيه إلى حد كبير. وأشار التقرير إلى أنه سوف يظل العجز في الحساب الجاري كبيرا مما يزيد من مخاطر التعديل غير المنظم. وسوف تهيمن المخاطر السلبية على التوقعات، وإن كانت مصحوبة بهامش كبير من عدم اليقين.
لذلك سعى الصندوق إلى تحرير سعر صرف الجنيه لإزالة التشوهات التي تعوق الاستثمار والنمو. وما من شأنه أن يعزز القدرة التنافسية والشفافية، ويقضي على ممارسات أسعار الصرف المتعددة والتشوهات المرتبطة بها، ويعزز استقلال البنك المركزي، ويعزز الإيرادات المالية. نلاحظ أن استخدام خفض قيمة العملات نقطة رئيسة في عمليات التفاوض بين صندوق النقد الدولي وعدد من الاقتصادات الناشئة، ومنذ الثمانينيات، أصبح موقف صندوق النقد الدولي صارمًا للغاية تجاه خفض قيمة العملة. يعتقد بعض الاقتصاديين أن خفض القيمة أداة مهمة لتعزيز ميزان المدفوعات (BOPs)، بينما يعتقد آخرون أن خفض قيمة العملة له تأثير ضئيل على الحساب الجاري لميزان المدفوعات، لكنه يقلل من الناتج الحقيقي ويرفع التضخم.
لا شك أن خفض قيمة الجنيه أثر ويؤثر سلبا على ميزان الحساب الجاري، مما يعوق النمو الاقتصادي. والسبب الأساسي هو أن السودان يواجه مشكلة في عجز التجارة الخارجية، وسياسة خفض القيمة لتصحيح عجز التجارة الخارجية، اجراء غير صحيح، حيث أن خفض القيمة يؤثر بشكل عكسي على الطلب الكلي لأن السودان يواجه في المقام الأول عجزا تجاريًا مع خفض قيمة العملة.

omarmahjoub@gmail.com

 

 

آراء