أرنولد توينبي: مسؤولية سودان موحد تقع على عاتق المثقف الشمالي

 


 

طاهر عمر
21 January, 2023

 

في هذا المقال نحاول أن نعالج نقطة ضعف متمكنة من النخب السودانية و هي مسألة إهمالهم أفكار علماء الاجتماع و المؤرخيين غير التقليديين و كيف تسير أفكارهم منذ ما يزيد بقليل على القرن من الزمن و كيف قد أصبحت فكرة الاقتصاد و المجتمع نتاج لعلم اجتماع قد أصبح شريعة المجتمع و خاتم العلوم و هو يفسر كيفية الخروج من حيز المجتمعات التقليدية.
و صعوبة المهمة نسبة لهشاشة الهياكل و التركيبات الاجتماعية لمثل مجتمعنا السوداني. في أفكار ماكس فيبر أي فكرة الاقتصاد و المجتمع قد قدم فكرة زوال سحر العالم حيث لم تعد الأخلاق الدينية ما يربط بين البناء الاجتماعي و كذلك قد انتقد الماركسية في اعتمادها على البنى التحتية متجاهلة أن المتغير المستقل هى البنى الفوقية مع تركيزه على عدم أهمية الايمان التقليدي.
و قد أكد بعده علماء اجتماع سير خط فكره بأن الكنيسة قد ماتت و بقى نزوع الانسان و عمل روحه بدون وساطة رجال الدين و سماسرته كما نجده عندنا في السودان حيث ما زالت أحزاب السودان تقدم على قيادتها الامام و مولانا و المرشد.
و هذا دليل على أننا نصر على أن نكون حكم على التاريخ بالامام و مولانا و المرشد بدلا من أن ننهي تأهب المجتمع للخروج من التاريخ و حينها نفسح المجال لمثقف له حساسية عالية بالوعي التاريخي و كيف تسير الانسانية التاريخية و كيف يفكر الانسان التاريخي؟
يوم تكون أحزابنا خالية من الامام و المرشد و مولانا حينها نحس بأننا بدأنا مسيرة سيرنا و الخروج من خط المجتمعات السودانية التقليدية و السير نحو بناء دولة حديثة تكون فيها العلاقة واضحة ما بين الفرد و الدولة مباشرة و ليس علاقة الفرد بالجهة او الطائفة أو الدين أو سيطرة الادارة الأهلية أو رجال الطرق الصوفية.
و عندما تكون العلاقة مباشرة ما بين الفرد و الدولة كمفهوم حديث تنتج وعي للفرد بأن هناك مسؤولية اجتماعية تحميه من زعازع الزمن مثلا يرتقي وعيه الى أن مجانية التعليم و مجانية العلاج و فكرة الضمان الاجتماعي أي أن يكون له حد أدنى للدخل يحفظ كرامته كانسان و من حقوقه كانسان يجب أن يقوم السياسي السودان بخدمته و تحقيق ما يحفظ كرامته و هنا تنعكس المسألة كما هو سائد في السودان حيث نجد أتباع الامام يخدمون في مشاريع الامام مجانا متر في مزرعة الامام بمتر في الجنة.
و متى ما أصبح الامام خادم للشعب و أصبح الامام يخدم المواطن العادي حينها لم تبقى بيوت للطائفية تستثمر في الدين بلا بعد للعقلانية و الأخلاق كما رأينا كيف يكرس الامام الصادق المهدي للجهل عندما بقى على مدى ستة عقود في العمل السياسي بفكر رجل الدين المحارب و مجافي للفكر السياسي بمعناه الحديث.
لهذا قلنا أن الصادق المهدي أقرب لرجل الدين التقليدي من السياسي المعاصر و المدرك للتحول في المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الدولة الحديثة و مفهوم السلطة بل نجد أن الصادق المهدي كان يعمل على العكس من سير المجتمع نحو الحداثة و كأن السودان جزيرة معزولة عن تطور العالم من حولنا.
و من هنا نقول لأتباع الامام و مولانا و المرشد قد حان الوقت بأن يصبح السياسي خادم للشعب و أن يقدم في خطابه كيفية تحقيق مجانية التعليم و مجانية العلاج و الحد الأدنى للدخل بفكر سياسي معاصر لا يقوم على خزعبلات رجال الدين سواء زعم أنه امام أو مولانا او مرشد و على السياسي السوداني الا يكون خاتم يلبسه الامام و ينزعه وقت ما يشاء.
بعد ستة و سبعين عام يوم قال أرنولد توينبي مقولته عام 1947 بأن مسؤولية قيام سودان موحد و قوي تقع على عاتق المثقف الشمالي كواجب يحتمه التاريخ أسس توينبي لمقولته بتحليل حال العالم العربي و الاسلامي بأن هناك قوتين قوى عمياء و يمثلها أتباع الفكر الديني في السودان و هم أتباع الامام و مولانا أي الانصار و الختمية و هي ستجر المجتمع السوداني الى العدم لأنها قوى دينية تقليدية.
و عليه نبه أرنولد توينبي القوى الحديثة و هي التي يقع على عاتقها إبعاد المجتمع السوداني التقليدي عن مسار القوى العمياء اي قوى أتباع وحل الفكر الديني. و للأسف عندما تنظم مثقفي الشمال لم يحالفهم الحظ في الاصطفاف في خط سير الانسانية التاريخية و اذا بهم يدخلون في حزب شيوعي سوداني بنسخة متخشبة كدين بشري و لم يصلوا حتى اليوم لمستوى أحزاب الشيوعية في الغرب و هي متأثرة بأفكار غرامشي المتاثر بفكر ماكس فيبر و حتى اليوم نجد الحزب الشيوعي السوداني لم يصل لمستوى أحزاب الشيوعي في الغرب و هي تؤمن بنمط الانتاج الرأسمالي.
و قد رأينا كيف خيّب نخب الشمال نبؤة توينبي و كيف إنفصل الجنوب حيث غاص السودان في وحل الحركة الاسلامية و حروبها العبثية و ما زالت النخبة السودانية غير قادرة على إدراك عقلانية الرأسمالية التي قد تحدث عنها ماكس فيبر و كيف فسّر عبر الفكر البروتستانتي و عقلانيته قد بدأت مرحلة تفكيك سيطرة الكنيسة و حكم رجال الدين.
بالمناسبة بسبب وحل الفكر الديني المتبوع من الكيزان و الانصار و الختمية و بسبب الشيوعي السوداني الغائص في نسخته المتخشبة السودانية و هي كدين بشري ضد الدين الذي فشل في جلب سلام العالم قد تأخر الشعب السوداني على فهم عقلانية الرأسمالية و أنحط أداء السياسي السوداني لأنه لم يدرك عقلانية الرأسمالية بفضل عقلانية البروتستانت و كيف عبر فكرهم قد أسسوا لفكرة النزعة الانسانية الغائبة عن مشهد الفكر في السودان.
حيث نجد إدخال الفكر الانساني لتفكيك قداسة النص الديني و تجاوزه بدلا من فكر ينادي بالتجاور و التساكن مع فكر متخلف أي فكر رجال الدين كما يفعل الامام الصادق المهدي.
مثلا نجد جون كالفن و هو يعتبر الأب الشرعي لسعر الفائدة قد تجاسر على تراث يهودي مسيحي عمره ثلاثة ألف سنة فيما يتعلق بالربا و نرى كيف تحدى هذا التراث المتكلس و شرّع لفكرة سعر الفائدة متخطي خزعبلات رجال الدين و نحن في السودان ما زال الكوز كرجل دين يريد أن يحشر أنفه في عمل البنك المركزي و بقية البنوك و يفتي بجهل عن سعر الفائدة.
غياب أدب النظريات الاقتصادية و تاريخ الفكر الاقتصادي من دفاتر المثقف السوداني حيث تنام عقلانية الرأسمالية و تحقيقها لمسيرة الانسانية التاريخية هو ما جعل الفرصة مؤاتية لوحل الفكر الديني حيث لم ينقطع عشم الكوز الى اللحظة أن يكون متطفل على عمل البنك المركزي متخفي خلف رفضه لفكرة سعر الفائدة و هنا نحتاج للعلمانية التي تبعد الكوز من تطفله على البنك المركزي عندما نتحدث عن سعر الفائدة.
و لا نسمح للكوز أن يتحدث عن الربا و هذا لا يكون بغير رفع وعي النخب السودانية لكي تتخطى فكر رجال الدين و إدخال فكر انساني يفك قداسة النصوص الدينية و يرجعها لفهم عقلنا البشري الذي يفهم فكرة سعر الفائدة بعيدا عن استهبال تجار الدين و هنا تكمن أهمية أفكار عبد العزيز الحلو و هو يطالب بالعلمانية و فصل الدين عن الدولة.
و هنا يبدو عبد العزيز الحلو أقرب للعقلانية و أخلاق المثقف المعاصر الذي يقطع الطريق على رجل الدين المتطفل على البنك المركزي و بقية البنوك و تحديد سعر الفائدة. و يقطع الطريق كذلك على الكوز المتخفي في ديوان الذكاة لأن في ظل الدولة العلمانية تكون الدولة هي المسؤولة من تقديم سياسات اقتصادية تودي لخلق الثورة و كذلك تقديم فلسفة إعادة توزيعها بما يضمن المساوة التي تحقق معادلة الحرية و العدالة.
لهذا نقول يجب أن يكون ديوان الذكاة تحت سيطرة وزارة المالية لأنها عبر سياساتها المالية و سياساتها الاقتصادية هي المسؤولة من محاربة ظاهرة الفقر بفهم معاصر و متقدم على فهم الكوز المتخفي في ديوان الذكاة و هو يزيد اتساع ظاهرة الفقر.
عندما لم يدعم المثقف السوداني طلب عبد العزيز الحلو بفصل الدين عن الدولة و إفساح المجال للعلمانية نجد المثقف السوداني من حيث لا يدري قد ساعد الكوز أن يتطفل على عمل البنك المركزي و تحديد سعر الفائدة و قد ساعد الكوز أن يتخفى في ديوان الذكاة و قد صارت عش دبابير كيزاني يساعد على اتساع دائرة الفقر.
و بالمناسبة سبب غياب أدبيات الفكر الليبرالي يقف خلفه أتباع وحل الفكر الديني و أتباع الامام و المرشد و مولانا و أتباع الاستاذ الشيوعي و عندهم يسود جهل مر بتاريخ عقلانية الرأسمالية.
من هنا ننبه النخب السودانية بالاهتمام بالفكر الليبرالي الغائب عن الساحة حيث يتحدث عن عقلانية الرأسمالية و بسبب غياب الفكر الليبرالي يفشل المثقف السوداني في تحقيق التحول الديمقراطي كما رأينا فشل النخب منذ الاستقلال و الى لحظة انقلاب البرهان الفاشل.
و أيضا وجب التنبيه للمثقف السوداني الذي ما زال مشغول بالشعر و نقد الشعر و نقد النقد بأن يهتم بالفكر كما رأيناه عند علماء اجتماع و انثروبولوجيين و اقتصاديين و كما رأينا كيف تتطور الأفكار في المجتمعات الحية و كيف ينشي المفكريين مشاريعهم النقدية.
مثلا قدر رأينا البنوية و ما بعد البنوية و ما بعد الحداثة و كيف قد خلف نقد فلاسفتها من قبل فلاسفة كريموند أرون منذ منتصف الستينيات حيث فشلت أفكار ما بعد الحداثة و ما بعد البنوية و قد إتضح فشلها في ثورة الشباب في فرنسا عام 1968
و قد اكمل فلاسفة كثر نقدهم لما بعد الحداثة و ما بعد البنوية أمثال لوك فيري في منتصف الثمانينيات و انفتح الفكر على أفكار تفتح و تساعد على توسيع ماعون الحرية و هي أفكار فردريك نيتشة و هو فيلسوف إشكالي و تعارضي تحتاج قراءته للتسلح بكل جديد.
نقد أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة و ما بعد البنوية و توضيح فشلها في ثورة الشباب في فرنسا سنة 1968 قد ترك لنا التفكير النقدي الذي يسير على خط الانسانية التاريخية و الانسان التاريخ بدلا من اهتمام المثقف السوداني بالشعر و نقد الشعر و نقد النقد كما يتهكم عالم الاجتماع العراقي علي الوردي على من عطل الفكر في العالم العربي كحال المهتمين بالنقد في السودان حيث ما زالوا في اهتماهم بالشعر و نقد الشعر و نقد النقد مع إهمال كامل لفكر علماء الاجتماع و المؤرخيين غير التقليديين و الفلاسفة و الانثروبولوجيين و الاقتصاديين و إهتماهم بالتحول الهائل في المفاهيم حيث نجده يعاني من الإهمال في ساحة الفكر السوداني.
جاء الوقت بأن يهتم المثقف السوداني بشكل جاد أي كيف تتطور الشعوب و كيف تتحول المفاهيم؟ و ما هو دور المفكريين غير التقليدين في نقل مجتمعاتهم من حيز المجتمعات التقليدية الى حيز المجتمعات الحديثة؟ نقول قولنا هذا و قد لاحظنا أن المثقف السوداني منذ منتصف الثمانينيات منبهر بفكر ما بعد الحداثة و ما بعد البنوية و هو في الحقيقة قد تم نقده و إبعاده و إظهار فشله منذ منصف الستينيات و حين إنبهر به المثقف السوداني في منتصف الثمانينيات في الحقيقة كان فكر ميت من قبل عقدين من الزمن و قد مات مع فشل ثورة الشباب في فرنسا عام 1968
و لهذا نقول للمثقف السوداني أن يسرع الخطى من أجل أن يكون مواكب لمسيرة الفكر النقدي و لا يكون ذلك و ما زال المثقف السوداني منبهر بفكر ما بعد البنوية و ما بعد الحداثة و هي أفكار قد تراجع عنها فلاسفتها بفعل نقد جاد قام به فلاسفة لم نجد لهم أثر في ساحة الفكر السوداني و نذكر من ضمنهم كل من لوك فيري و ريموند أرون.

taheromer86@yahoo.com
/////////////////////

 

آراء