أسطورة الشيخ أبو جنزير

 


 

 

 


الأُسْطُورة :حكاية تقليدية تروي أحداثًا خارقة للعادة، أو تتحدث عن أعمال الآلهة والأبطال. وهي تعبر عن معتقدات الشعوب أكثر من تعبيرها عن الحقائق. في عهودها البدائية، تمثل تصورها لظواهر الطبيعة والغيبيات. في عقائد الإغريق القديمة، تحكي معظم الأساطير عن أُناس وأماكن وأحداث يمكن إدراكها، وفي عهود أقرب، تقوم بعض الأساطير على أشخاص حقيقيين، أو أحداث حقيقية، ولكن الكثير منها يتعلق بشخصيات خيالية. تنتظم مُخيلتنا لكثير من الماضي السحيق، الذي يعشعش في أذهاننا الباطنة.
*
كنا في طفولتنا يحكون لنا أن المفتش الإنكليزي في زمن الاستعمار، أراد أن يزيح مقبرة الشيخ" إمام بن محمد "عندما كانت تتوسط شارع فيكتوريا- الذي صار اسمه لاحقاً " شارع القصر "- وأن المفتش الإنكليزي وقف أمام ضريح الشيخ ، وفجأة جاء جنزير وهبط من السماء ، ووقف بين القبر وحصان المفتش . وبُهت الذي كفر. ولم يستطع أن ينقل المقبرة ، فظلت في مكانها.
كان بعض الأقرباء يداومون على زيارة الضريح، لنظافته وللتبرك، وكان للشيخ سلالة من أقربائنا.

(2)
غالبية المجتمعات لها أساطير محلية وأخرى قومية، فالأساطير المحلية تحكي عن أبطال من مجموعة عرقية معينة أو مهنة أو منطقة. فعلى سبيل المثال" روبن هود" هو البطل الأسطوري الإنجليزي في القرن الرابع عشر الميلادي. ويشارك الشعب بأكمله في الأساطير القومية، فكثيرٌ من البريطانيين من الرجال والنساء والأطفال يفخرون بالإنجازات التي تصفها حكايات الملك "آرثر" وفرسان المائدة المستديرة.

(3)
ورد في سفر البروفيسور " محمد إبراهيم أبو سليم " ص 190-191 :
{أما ما يقع شرق جامع الخرطوم ،فهو ما يسمى " ميدان أبو جنزير" .؟ وفي هذا الميدان كانت مقبرة الخرطوم الكبرى، وكان في طرفها الشمالي الشرقي مقبرة الحكام. وكان طرفها الغربي يقع إلى الغرب من شارع القصر. وكان امتدادها يسع النادي العربي وسينما كولوزيوم.
وكانت بهذه المقبرة، مقبرة " الشيخ إمام بن محمد"، محاطة بسور من الطين ، أمام هذا المحسي ، وليس صواباً ما نُشر في الجرائد المحلية وعلى رأسها جريدة" الرأي العام" عن أصله وذريته. وكان موضع مقبرته في منتصف شارع القصر، فلما شقّ " استانتن " شارع القصر ووسعه ، حمل رفات الشيخ من مرقده، ودفنه على طرف الشارع، وأحاط قبره الجديد بالجنازير. ومن ثم سُمي الرجل بأبو جنزير، ونسي الناس اسمه الأصلي وموضعه القديم، وأحاطوا موضعه ونقله بكثير من الأساطير.}

(4)
يقول الأستاذ " أمير الشعراني " في مدونة سودانيات الإلكترونية:
{تركنا الميدان، ونحن لا نأبه لهمس رجل سمين "تريان " وله من " الجضوم " ما يفي لدرء نحافة عشر فتيات ذوات قوام فرنسي. أخرج السمين من بطن جيبه الغريقة (رزمة) من الجنيهات وهو يهمس لنا (دولار.. ريال يورو) لكنا ركبنا العربة صوب العرضة قاصدين" الشيخ عبد الباسط"، حفيد أبو جنزير، ليعرض لنا حكاية جده المدفون في الميدان.
في منزله، شرق استاد المريخ، استقبلنا "الشيخ عبد الباسط" بحفاوة وكرم فياض، وأرانا شهادة من "المجلس القومي للذكر والذاكرين" تؤكد خلافته للشيخ أبو جنزير، ثم جلسنا في خلوّته التي يفوح منها عبق المديح وأريج التصوف، وحولنا كوم من الورق بعضه من تاريخ السودان والآخر من تاريخ أبو جنزير صاحب الضريح والميدان.
*
يقول الشيخ "عبد الباسط نور الدائم " خليفة أبو جنزير - حسب شهادة (الذكر والذاكرين)- أن جده "عبد الباسط الحاج رابح المجمر" المشهور بأبو جنزير ولد بمنطقة (عِد العود) بالقرب من مدينة الدويم، في أسرة اشتهرت بالصلاح والتقوى.. فوالده كان صاحب خلوة ومسيد. درس أبو جنزير القرآن في خلاوي الغبش قبل أن يزامل الإمام "محمد احمد المهدي" بخلاوي الشريف" محمد ود نور الدائم"، الشيء الذي جعل الإمام المهدي يستعين به بعد اندلاع الثورة المهدية، فقاد الشيخ أبو جنزير جيشا مكوناً من حيرانه والفقراء والمريدين لمحاصرة مدينة الدويم إلا أن الخبر تسرب وبلغ الإنكليز، فانقضوا عليه وأخذوه أسيراً الى الخرطوم وسُميت تلك الموقعة بموقعة الدويم الثانية، ليعدمه المستعمر شنقاً في مكان قبره في العام 1882م وكانت تسمى تلك المنطقة بساحة العدالة.
*
عن سر تسميته بأبو جنزير يقول الشيخ" عبد الباسط" أن التسمية ترجع لكرامة جَده الذي فشل الإنكليز في اعدامه أكثر من مرة، فكان كلما اُعلن يوم إعدامه، ويتجمهر الناس في مكان قبره هذا ويأتون به مكبلاً بالجنازير، لكنها تتفتت تماماً كلما حاولوا رفعه الى المقصلة ليعدم، ومن هنا أطلق عليه أبو جنزير. وهناك رواية أخرى تقول إن المستعمر حاول ازالة قبر أبو جنزير ولكن جنزيرا سميكا أحاط قبره وعطل آليات الهدم، التي تسمرت أمام القبر فأطلق عليه من ذلك اليوم أبو جنزير!.
*
تعرض قبر الشيخ أبو جنزير- حسب إفادات الشيخ "عبد الباسط" - لثلاث محاولات نقل لرفاته وباءت جميعها بالفشل. ويقول الشيخ "عبد الباسط:" المحاولة الأولى كانت في عهد المستعمر الذي نقل المقابر المحيطة بضريح أبو جنزير، وعندما كان المأمور يهّم بإزاحة القبر ويتقدم نحو الضريح ،اذا به يتسمّر ويقف مكانه كالصنم لا يستطيع حراكا حتى يولي وجهه بعيدا عن الضريح، فغنت حسناوات ذلك الزمان يفتخرن بكرامة الشيخ أبو جنزير.

(5)
وإذا وضعت القصص الأسطورية بجوار القصة الحقيقية، فسوف يتعرف المرء، كم كان أهلنا متجذرة في معتقداتهم الايمان بالخوارق وكرامات الأولياء. فقد اختلف اسم الشيخ أبو جنزير في الروايتين. فقد ذكر المحقق البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم أن اسم أبو جنزير هو ( إمام بن محمد) وأن زمان نقل مقبرته كان في زمن المستعمر، في حين يذكر الشيخ عبد الباسط "، أن جده أبو جنزير، يسمى ( عبد الباسط الحاج رابح المجمر) وأن تاريخ إعدامه كان 1882، أي قبل استرداد الخرطوم وانتصار المهدية. ومن هذا التضارب في الأسماء والتاريخ، فإننا نُرجح رواية المحقق بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم.
*
يقول الشيخ محمد الطيب الحساني:
( لحظاتنا كلها كرامات وليس هنالك كرامة أفضل من كرامة العِلم )
*
إن من يطلع على ما يُطبع في المطابع العربية حول الكرامات، يجدها تكاد تفوق كل ما طُبع عن الكرامات في كتب التراث. وتحوي سير الأولياء، المناقب، الشطحات، النفحات، الأعاجيب، الخوارق، المدد، البركة وأحياناً المعجزات. ولعل المدد هي الكلمة المردّدة في جنبات الأضرحة والمزارات المقدسة، وترد على أفواه الناس و ذوي الحاجات الذين يؤمنون بالكرامات ويتناقلون روايتها، مخلفين لنا بوعي أو بدونه، تراثاً أدبياً جديراً بالدراسة وحَرياً بالنقد والتحليل.


عبدالله الشقليني

21 يوليو 2019

alshiglini@gmail.com

 

آراء