أمدرمان أيام المهدية: ملخص ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي س. روزيقونولي. ترجمة بدرالدين الهاشمي

 


 

 





أمدرمان أيام المهدية: ملخص لبعض ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي س. روزيقونولي (2)

فارنام  ريفش Farnham Rehfisch

ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة مختصرة لبعض ما جاء في مقال طويل (من 30 صفحة) للأكاديمي الراحل فارنام ريفش (والذي عمل لسنوات طويلة أستاذا لمادة الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة الخرطوم في ستينات القرن الماضي.)  يلخص فيه ما كتبه أسير المهدي الإيطالي س. روزيقونولي في مؤلفه I meei Dodici Anni di Prigionia in Mezzo ai Dervisci والصادر في عام 1898م عن الحياة في أمدرمان بين عامي 1881م و1894م. يلاحظ أن ما جاء به المترجم باللغة الإنجليزية هو عبارة عن شذرات متفرقة من كتاب القس الإيطالي لا يربطها تسلسل تاريخي معين، بيد أنها عظيمة الفائدة في معرفة الحياة الاجتماعية في أمدرمان  وتاريخ المهدية بعيون أسير مسيحي لا يخلو من تعصب (ضد المسلمين واليهود أيضا!) وبغض لآسريه وثقافتهم، ورغم ما فيها من حكايات يصعب تصديق بعض تفاصيلها أو الوثوق بصحة وقوعها.
في الجزء الأول أورد الكاتب شيئا عن أيامه الأولى في أمدرمان وعن مقابلته للخليفة وعن عمله في ميدان التجارة.
نشر هذا المقال في مجلة "السودان في مذكرات و مدونات" العدد 48 الصادرة في عام 1967م.
المترجم
************               *****************   
في تلك الأيام أصدر الخليفة أمرا صارما لأمير دنقلا عبد الرحمن النجومي بالهجوم على مصر واحتلالها. كانت تلك هي أواخر عام 1888م ونذر عام جدب ومجاعة تلوح في الأفق. كانت لحملة النجومي هدفان مزدوجان أولهما هو الحفاظ على هيبة المهدية بعد أن كاد صيتها يذهب بين الناس، وثانيهما هو صرف الأنظار عن المجاعة التي بدأ الناس يحسون آثارها بالفعل. كانت تلك المعركة في نظر الخليفة فرصة لنهب غنائم ومؤن من العدو، بيد أن الرجل لم يكن يحمل فعلا أمر تلك الحملة على محمل الجد، وإلا لكان قد أخذ لها عدتها، ووحد كل الرايات ولقادها بنفسه. كان يقال إن النجومي من أشجع أمراء المهدية وكان يلقب ب "باب الفتوح". وبالإضافة لشجاعته الفائقة فقد أظهر ذلك الأمير في غضون حصار الخرطوم (والذي كان من أبرز فرسانه) روحا عسكرية شديدة الانضباط. قيل أنه سمع أحد القادة المشاركين في حصار الخرطوم يقول من فرط الاحباط بأن الحصار لم يظهر فائدة، وأن غردون ليس مثل هكس باشا، فما كان من النجومي إلا حز رأسه بالسيف. قتل النجومي وهو لما يبلغ الثانية والأربعين من العمر في المعركة التي جرت ضد السردار قرينفل قائد الجيش البريطاني – المصري  في الثالث من أغسطس 1889م في توشكي شمال وادي حلفا، وقتل معه في تلك المعركة ما يربو على 1500 من الجنود (الدراويش) بينهم 12 من الأمراء  و50 من حملة الرايات.
عندما غادرت الحملة أمدرمان في طريقها للشمال الفينا انفسنا في وضع عسير إذ كسدت تجارة مطعمنا الصغير لقلة الزبائن. كان علينا التخلي عن بيع الفاصوليا المطبوخة وأن نتخذ لنا حرفة صغيرة أخرى لكسب حفنة قروش في نهاية كل يوم. ولزيادة الطين بلة في حالتنا، فقد أمر الخليفة باعادة تنظيم السوق، تلك العملية التي كانت من نتائجها أن فقدنا المحل الذي كنا نستخدمه كمطعم صغير. كانت الخطة الجديدة تقضي بتجميع كل أصحاب الحرف الواحدة في جانب واحد من السوق، فمنحنا قطعة أرض صغيرة في مكان في السوق خصص لبائعي الأغذية. كان هذا يعني زيادة حدة المنافسة، وجعل حياتنا التعيسة أصلا أكثر عنتا ومشقة. وفوق هذا وذاك كان يجب علينا الحصول على تمويل آخر لبناء محلنا الصغير، ولم يكن أمامنا من بد غير طرق باب الاستدانة المذل تارة أخرى. أتفقت مع "روقنتو" (أسير إيطالي آخر. المترجم) على أن استخدم المحل أسبوعا ثم يستعمله هو أسبوعا آخر، وهكذا دواليك، إذ أن حجم العمل لم يكن ليستوعبنا معا في ذات المكان. كان كل منا خلال أسبوعه "الحر" يقوم ببيع وشراء حب البطيخ وزيت السمسم وبعض الأشياء البسيطة الأخرى، وصنع الأحذية وحياكة الثياب ونسج المفارش  وما إلى ذلك.
سأحاول هنا أن أعطي فكرة مبسطة عن السوق الذي قامت السلطات بتنظيمه بالقوة. أزيلت كل البيوت والعشش التي كانت موجودة في داخل السوق، وأنشئ في طرفه سجن ومحكمة، وسور المبنيان بزريبة لتحديد مكانهما. كانت مساحات المحلات المخصصة لكل حرفة تتفاوت بحسب عدد المشتغلين بتلك الحرفة، وكان على صاحب كل محل القيام بتشييد محله وتظليله حماية له وللزبائن من حر الشمس. شيدت في السوق شوارع ضيقة متقاطعة وغير منتظمة، صارت متاهة حقيقية وفي غاية القذارة بعد أيام قليلة من افتتاحه. غدا ذلك السوق مركزا لكل أوجه النشاط في المدينة.
كنا بين حين وآخر نؤمر بالعمل دون أجر (كعمال سخرة) ويضاعف ذلك من محنتنا الثقيلة، إذ كان الخليفة قد أمر ببناء قبة ضخمة في المكان الذي قبض فيه المهدي. وللحصول على مواد البناء اللازمة كان الخليفة يرسل العمال للخرطوم لهدم بعض مبانيها المبنية بالطوب المحروق، ونقل ذلك الطوب بالمراكب لأمدرمان  واستخدامه في بناء القبة في أمدرمان. قرر الخليفة أن يشارك جميع سكان أمدرمان في بناء قبة المهدي، ووعد أنهم سيجزون الجنة نظير ذلك العمل. قسمت الأعباء بحيث يظفر كل حي ببناء قسم من القبة. افتتح الخليفة المشروع بنفسه حيث سار في موكب مهيب ومعه كل الأمراء إلى النهر ليحضر الماء ومواد البناء لموقع العمل.
كان هدف الخليفة هو جعل قبة المهدي مزارا يحج إليه ك "مكة السودان". كان من ضمن تصميم المشروع تشييد ساحة ضخمة حول المسجد والذي كان مقدرا له أن يسع ل 70000 مصليا، ويمكن لنصف ذلك العدد أن يستظل بظل مفارش موضوعة على أعمدة منصوبة.
أفتتح الخليفة مشروع بناء القبة بنفسه، وزاد من حماسة الناس له ذلك الوعد الذي أطلقه الخليفة بدخول الجنة لكل من يساهم في البناء. كان أكثر الناس تحمسا للمشروع هم الذين يقطنون في الأحياء يقطنها في الغالب البقارة والمتعصبين الآخرين، والذين توافدوا رجالا ونساء وأطفالا للعمل في البناء، بيد أن الآخرين كانوا أقل حماسا للعمل دون أجر، وتفادي بعضهم تلك السُّخْرَةُ برشوة الأمير، مما ضاعف من حجم العمل على من لا  قبل لهم بدفع تلك الرشوة. كنا نجبر على ذلك العمل المجاني لمدة يومين أو ثلاثة في الأسبوع، وكان العمل يتلخص في حمل الطوب والماء لمسافة كيلومتر كامل من النهر لموقع بناء القبة وذلك تحت لهيب شمس حارقة، وفي بعض الأحايين كنا نساعد البنائين في عملهم. كان مما زاد أعبائنا المالية، ونحن على فيه من فقر وبؤس، فرض الخليفة لضريبة اضافية لتكملة بعض الآثار الأخرى، ففرض بيت المال على كل أمير أن يجمع ممن تحته من السكان مبلغا محددا بأي وسيلة يراها. حدث ذات مرة أن عجزت عن الدفع، فألقي بي في السجن.
كانت "قبة المهدي" تتكون من قاعدة مربعة  يبلغ طولها أربعة أمتار وارتفاعها ستة أمتار، وبداخلها توجد غرفة لها أربعة أبواب، ويدخلها الضوء عبر 12 نافذة دائرية، ثلاثة في كل جانب، وهي موضوعة عاليا تعلو أقواس الأبواب.  صنعت زوايا الركائز من مربعات حجر جيري أخذت من مبنى الإرسالية التبشيرية بالخرطوم، مثلها مثل الأبواب التي أحضرت من بعض مباني الخرطوم المهدمة. كانت القبة نفسها ترتفع لسبعة أمتار وبنيت على شكل "راس السكرsugarloaf  "  وفي أعلى نقطة فيها وضعت حربة. حلت تلك الحربة محل الهلال الذي كان قد وضع في البدء، إذ أنه قيل أن الهلال هو رمز مصري. كانت القبة الخالية قد بنيت فوق قبر المهدي. بنيت على كل جانب من أركان قاعدة المبنى أربع قباب صغيرة تقوم على أربع أعمدة صغيرة ووضعت في أعلى كل منها حربة (ربما لتستخدم  فيما بعد لقبور خلفاء المهدي الأربعة). كانت كل المباني مبنية من الطوب والملاط والرمل والكلس، ومدهونة بخليط من الرمل والكلس، وكان المبنى من الداخل مزخرفا من الداخل بأشياء متنوعة غنمت من القادة الأجانب والمحليين الذين هزمتهم جيوش المهدية، بعضها مصري والبعض الأخر سوداني، والباقي كان قد غنم من جون ملك أثيوبيا. صمم المبنى وأشرف عليه مهندسون كانوا يعملون سابقا في الحكومة المصرية. كانت الضرائب التي سبقت الاشارة لها تستخدم كرواتب للبنائين. كانت كل مباني أمدرمان، عدا القبة وما حولها، ذات طابق أرضي ومبنية بالطين، إذ أن الخليفة منع منعا باتا البناء بالطوب المحروق والملاط حتى يكون مبنى القبة مميزا وفريدا ويمكن رؤيته من كل مكان في أمدرمان.    
لقد شهدت مبنى تلك القبة وهو يبنى، ثم رأيته من بعد ذلك من على البعد، ولم أجد في نفسي الرغبة في أن أقرب منه إذ أن ذلك كان سيعرضني لأولئك المتعصبين والذي كانوا يتوافدون عليه بالآلاف للصلاة.
ما أن تم الفراغ من بناء القبة حتى فكر الخليفة في التخطيط لبناء سور حجري مدهون بالطين والكلس حول القبة وكذلك حول بيته. ومن أجل تلك الغاية طرد الخليفة ساكني البيوت الذين شاء حظهم العاثر أن يمتلكوا منازل حول بيته. أرسل الخليفة رجاله فجأة ودون سابق إنذار لطرد جميع من كل في تلك المنازل المجاورة لبيته، بل ومنعهم من أخذ أبواب وأخشاب بيوتهم وأغراضهم الأخرى، ولم يسمح لهم بأخذ شيء من منازلهم تلك غير بعض الأدوات المنزلية. أحل الخليفة البقارة التعايشة المخلصين له والقبائل السوداء محل أصحاب تلك البيوت، إذ كان الخوف قد بدأ يساوره والشك يملأه فيمن حوله من غير هؤلاء من سكان أمدرمان وغيرها، فبدأ يأخذ حذره من رعيته ويبدأ عهدا طويلا من الارهاب. بلغ طول السور الضخم الذي بناه الخليفة أكثر من ثمانية أمتار، وعرضه يزيد عن مترين، وتم تشييده بالطريقة المعتادة، أي بنظام العمل بالسخرة، وبصعوبة بالغة إذ كان من اللازم تكسير الصخور للحصول على الحجارة وجلبها لموقع العمل من موقعها البعيد. والعادة أيضا كلف سكان كل حي في أمدرمان بتشييد جزء من السور، لذا تفاوت تقدم العمل بحسب همة ونشاط أفراد الأحياء المختلفة. كنت قدأجبرت على أداء ذلك العمل حتى تمكنت من الفرار من المدينة، ولم يكن العمل قد اكتمل حينئذ. كنا عندما يحين دور حينا في المشاركة في بناء السور نعمل طوال اليوم دون أجر، ولولا ما كان يتفضل به علي الإيطالي سوجارو لمت بالقطع من الجوع وفرط الإرهاق. كنت كثيرا ما أستدين قرضا ربويا فاحشا فقط حفظا للحياة، وتمكنت بعون من سوجارو من رد كل تلك الديون ذات الفائدة العالية.
جمع الخليفة في بيته والبيوت التي من حوله من يثق فيهم من أهله وأفراد عشيرته، وكانوا يحتفظون بكميات كبيرة من الاسلحة والمؤن والذخائر واللافتات. للسور بوابة واحدة حراستها مشددة، وكان يحرم على "الغرباء" دخول تلك القلعة الحصينة، والتي كانت أشبه بقرية صغيرة وبها سوق منفصل. بعد معركة أقوردات أحس الخليفة بمزيد من القلق والخوف والتوجس فأضاف حائطا طينيا جديدا وجلب حوله مزيد من جنود الحراسة (أقوردات هي مدينة تقع الآن في دولة أرتريا على الطريق بين كسلا ومصوع، وكانت في21/ 12/ 1893م مسرحا لمعركة دامية بين الجيش الإيطالي وجيش الخليفة، انتصر فيها الجيش الإيطالي. المترجم).
عشت في أمدرمان في مسْغَبَةُ وبؤس شديدين، وكثيرا ما كنت أحاول النوم ليلا وأنا أتضور من الجوع. وكأن الحرمان المادي الذي كنا نكابده لم يكن كافيا، فكنا هدفا سهلا ودائما للسخرية والاساءات أيضا.  فعلي سبيل المثال حدث أن ألغى الخليفة استخدام العملة المصرية من التدوال في الأيام التي كنا نبيع فيها الفاصوليا والخبز في مطعمنا الصغير بالسوق، واستبدلها بقطع من القماش المحلي (يمكن الرجوع للمقال الذي قمنا بترجمته عن "سك العملة في عهد المهدي والخليفة" بقم اتش. س. جوب وعن المشاكل التي نجمت عن استخدام قطع قماش الدمور عوضا عن النقد. المترجم). كان طول تلك القطعة القماشية يبلغ نحو ذراع وهي تعادل ربع تالر (عملة جرمانية. المترجم). لم يكن أحد من الناس يقبل استخدام تلك القطعة من القماش كبديل للنقد رغما عن اصرار "بيت المال" على ذلك. كان من نتائج ذلك أن قام بعض المضلربين بشراء تلك القطع القماشية بنصف قيمتها الأسمية واستخدامها لاحقا في شراء بضائع من "بيت المال" حيث تقبل تلك القطع بكامل قيمتها كنقد مبريء للذمة. وفي آخر المطاف أوقف استخدام تلك القطع القماشية كنقد بعد أن تبين للخليفة خطل الفكرة وتسببها في ما لا يحصى من المشاكل والخصومات.
حدث ذات مرة أن أتى لمطعمي بعض الزبائن وبعد فراغهم من تناول الفاصوليا (الطبق الوحيد الذي أقدمه) دفعوا لي قيمة ما تناولوه بقطع من الدمور، بل وأصروا على أن أدفع لهم "الباقي" بالعملة المصرية. لم يكن ذلك باستطاعتي فاقترحت عليهم أن يأخذوا من الفاصوليا ما يرغبون نظير القيمة الرسمية للقماش الذي دفعوه. أجابوني بسيل من اللعنات والشتائم المقذعة. غضبت بالطبع ونفذ صبري فرددت عليهم – ولأول مرة في حياتي -  ووصفتهم بالقذارة، ولم يكن ذلك من مألوف طبعي. حضر حاجب المحكمة وأخذني لأقف أمام القضاة الأربعة المختصين بشؤون السوق والتجار فيه. كانوا جالسين على حصيرة وأمامهم نسخة من القرآن الكريم كانت تستخدم لأداء القسم. تم الحكم علي بأربعين جلدة بالكرباج (سوط من جلد وحيد القرن). وكما هو الحال مع أحكام ذلك النوع من المحاكم تم تنفيذ الحكم على الفور. تم طرحي أرضا وبدأ أحد العاملين بالمحكمة في جلدي على ظهري. شهد عقوبتي طائفة من المتسوقين والمتسكعين والذين – والحق يقال- لم يسخروا مني أو يعيروني، إذ أنني احتملت الجلد دون إظهار أي قدر من الجزع أو الصراخ أو التلوي من الألم.
مضت أيام حياتنا القاسية البائسة تمر في بطء رتيب قاتل، ليس فيها من لحظة فرح أو حبور واحدة. كانت تخترق أحيانا رتابة تلك الأيام ما كنا نظنه أحداثا قد تبعث فينا بعض الأمل في فرج قريب... بيد أنه سرعان ما كانت آمالنا في النجاة تتبخر وتتبدد، بل وتسوء حالنا أكثر وأكثر.
في يوم 24/10/ 1891م حدث تمرد ضد الخليفة وأفراد قبيلته المسيطرة على مقاليد الأمور في البلاد بسبب المعاملة السيئة التي كان يلقاها الخلفاء الآخرين من الأشراف وأفراد عائلة المهدي. كان أفراد عائلة المهدي في حالة من الفقر والبؤس الشديد إلى الحد الذي كانوا لا يجدون فيه ما يكفيهم من الطعام. كان الحال بالنسبة لنساء المهدي أشد بؤسا، فقد كن قد منعن من الخروج أو الزواج ، وفرض عليهن ارتداء ثياب الحداد بصورة دائمة. دعت تلك الحالة بعض الخلفاء (الأشراف) وأفراد عائلة المهدي لحمل السلاح ومحاولة قتل الخليفة. لم يكلل ذلك التمرد الدموي والذي أودى بحياة الكثيرين من الطرفين بالنجاح. كانت أيام ذلك الصراع العديدة أيام رعب شامل قضاها سكان أمدرمان في بيوتهم لا يجرؤن على مد رؤوسهم خارجها. بدت أمدرمان في تلك الأيام وكأنها مهجورة تماما، وعاث فيها البقارة والعرب من خارجها نهبا وسلبا وقد أمنوا العقوبة. بدا وكأن حكم الخليفة قد آذن بزوال رغم أنه كان يبعث بين حين وآخر بجماعات من فرسانه لتطلب من السكان التزام الهدوء والسكينة،وتطمئنهم بأن الوضع تحت سيطرته.  دعت تلك الفوضى سكان كل حي لتنظيم أنفسهم وتكوين فرق للحراسة والدفاع عن حيهم، بينما شدد الخليفة الحراسات على مخازن سلاحه وعتاده واستقدم المزيد من رجال عشيرته المخلصين لأمدرمان. دعا الخليفة معارضيه للتفاوض في قبة المهدي، وتم اللقاء بين الطرفين مثمرا عن هدنة ووعد من الخليفة بعطايا ومنح وتكريم للمعارضين لحكمه. أوفى الخليفة بوعده خلال أيام الهدنة، بيد أنه أنقلب عليهم في صبيحة يوم من أيام بداية عام 1892م فأعتقل الخليفة محمد شريف وأبناء المهدي وأتى بهم للسجون مصفودين. لم يفت عليه أن يشير إلى أن تلك هي مشيئة الله التي رآها في منامه. استثنى الخليفة واحدا من هؤلاء وكان هو الخليفة ود حلو لأنه كان كبيرا في السن وغبيا لا خوف منه ولا خطر (هكذا! المترجم). أمر الخليفة بوضع ثمانية أغلال على  كل واحد من المعتقلين من الخلفاء والأشراف لمنعه من الحركة، بيد أنه كان ينعم على الواحد منهم بإزالة الأغلال واحدا بعد الآخر بصورة دورية. وذات ليل قام الخليفة بنفي بعض معارضيه لجبل الرجاف حيث لقوا حتفهم هنالك بعد زمن قليل بسبب وخامة الهواء، وقام بنفي البعض الآخر لفاشودة حيث أمر أميرها الزاكي طمل بأن يقتلهم ضربا بالعصي بمجرد وصولهم وأن يترك جثثهم في العراء أو أن يلقي بها في النهر كطعام للتماسيح. ألقت أخبار تلك البربرية في معاملة سجناء الخليفة الرعب في قلوب سكان أمدرمان فسرى الخوف في نفوسهم على سلامتهم الشخصية. سمعت وتأكدت شخصيا من أخبار تلك الممارسات البربرية من أحد عبيد الزاكي طمل السابقين (واسمه كارلو) وهو من السود الذين كانوا يعملون تحتنا في السابق، وبعد وفاة الزاكي طمل عين كأحد حراس الخليفة. كان كارلو، مثله مثل كل من كان يعمل في خدمتي قبل المهدية، يحفظ لي الود ويزورني بصورة شبه يومية تقريبا ويسر إلي بما كان يجري في أوساط عائلة الخليفة. كذلك علمت من كارلو بالطريقة التي تخلص بها الخليفة من القائد القوي الزاكي طمل، والذي كان الخليفة يغار منه ويخشاه، خاصة بعد أن خاض عدة معارك في القضارف صد فيها تقدم الجيش الإيطالي وصار بطلا في نظر الكثيرين. استدعى الخليفة الأمير الزاكي لأمدرمان بعد أن عين قريبه أحمد علي في مكانه، واستقبله في أمدرمان استقبال الأبطال بيد أنه استخدم حيلة ما لفصله عن حرسه الشخصي، ثم قام يعقوب شقيق الخليفة بدعوة الزاكي لمنزله حيث كان في انتظاره ثمانية من عبيد يعقوب السود الأشداء قاموا بتقييده وربط يديه بالسلاسل الطوال حتى أن كتفيه خلعتا من مكانهما ثم شلت يداه تماما. كان الخليفة يخشى بأس الزاكي وقوته لذا ظل في أثناء عملية اعتقال الأمير يقف على باب داره ممتشقا سيفه وبندقيته خوفا من أن يحرر الزاكي نفسه من الاعتقال ويحدث ما لا يحمد عقباه.  تم أخذ الزاكي إلى سجن "الساير"  (سجن  مبني من الحجر دون نوافذ وله باب  واحد صغير) على ظهر حمار حيث حبس في زنزانة صغيرة مربوطا بسلسة حديدة حول عنقه وممتدة إلى أعلى الباب بحيث لا تسمح للأمير المسجون بالرقاد أو الجلوس. بعد ثلاثة ايام وجد الأمير الزاكي ميتا، فأخذت جثته ليلا وألقيت في النهر. تلك كانت هي نهاية رجل طاغية مستبد أوغل في دماء الكثيرين، وكان يحكم على ضحاياه دون أن ينطق بكلمة، بل يكتفي ببرم شاربه!




 

آراء