“أميستاد” لسبيلبيرق: أعطونا الحريّة! أعطونا الحريّة!! .. د. عمر مصطفى شركيان

 


 

 


shurkiano@yahoo.co.uk

في العام 1839م تمرّد العبدان من غرب إفريقيا على متن سفينة تسمى "أميستاد" في سبيل الحصول على حريّاتهم، بينما كانت السفينة تمخر عباب البحر، وهم في حال ترحيلهم من ميناء كوبي إلى آخر.  وكان قائدهم فتى من قبيل "مندي"، وهو إذ كان في ريعان شبابه، وكان يُدعى سينغبي بيه، وهو الذي ذاع صيته في التأريخ الأمريكي باسم جوزيف سينكي.  كان هؤلاء الأرقاء قد تمّ اختطافهم في المناطق المجاورة لمستعمرة سيراليون، وابتياعهم إلى النخاسين الأسبانيين.  وفي كتيِّب نشرته خدمة المعلومات في الولايات المتحدة الأمريكيَّة العام 1986م أرّخ المؤرِّخ السيراليوني الشهير آرثر أبراهام لهذا الحدث الأسطوري.  وفي حزيران (يونيو) 1998م خلّد المخرج السينمائي الأمريكي ستيفين سبيلبيرق ذكرى مأساة هؤلاء الأرقاء في فيلم "انفجاري" يحمل اسم السفينة ذاتها، أي "أميستاد".  ونحن لئن كنا قد وضعنا في الجملة السابقة كلمة "أميستاد" بين معقوفتين، فما هذا إلا للتذكير بأسبانيَّة الكلمة من ناحية، وأنَّنا هنا أمام حدث تأريخي مأسوي من ناحية أخرى.  فمن هو سينغبي في بادئ الأمر ونهايته؟
ولد سينغبي بيه، البطل الأسطوري في هذه القصة، العام 1813م بالتقريب، وذلك في مدينة "ماني" في المنطقة العليا لإقليم قبيل "مندي"، وعلى مسافة تبعد حوالي 10 أيام سيراً على الأقدام عن ساحل "فاي" أو "قاليناس" في غرب إفريقيا.  إذ كان سينغبي ابناً لأحد السلاطين المحليين، متزوجاً كان ثم أباً لابن وابنتين حين تم اختطافه.  ففي طريقه إلى مزرعته في إحدى الأيام في نهاية كانون الثاني (يناير) 1839م، وفي هجمة مباغتة، اختطفته عصبة مناوئة مكوَّنة من أربعة رجال من القنَّاصة الذين كانوا ينتشرون في كل مكان تهيؤاً لمثل هذه الفرص، وقادوه إلى زعيمهم في قرية مجاورة.  وكان الزعيم – ماياقيلالو – مديناً لابن ملك "فاي" يُدعى مانا سياكا، ووهبه سينغبي تسديداً لدينه.  ومن هنا أدرك سينغبي أنَّه لن يتمكن أبداً من استعادة حريَّته، واسترجاع شهرته كابن لأحد السلاطين.  بيد أنَّ افتخاره بنفسه سرعان ما بدأ يتضاءل، وراحت كآبة هادئة تستبد به من كل حدب وصوب.
على أيَّة حال، فبعد أن قضى سينغبي شهراً تحت رحمة سياكا في مدينته، اقتيد إلى جزيرة "لومبوكو" ذات السمعة السيئة في تجارة الرقيق، وذلك بالقرب من "سوليما" على ساحل "قاليناس"، وابتاعوه لأسباني ثري هو بيدرو بلانكو، والذي ساعدت نشاطاته التجاريّة الملك سياكا أن يمسي ثريَّاً هو الآخر.  وفي "لومبوكو" سُجن سينغبي مع أرقاء آخرين.  وفي هذه الأثناء أُضِيف إليهم أرقاء جدد، وقضوا كلهم أجمعون أكتعون شهرين في انتظار الترحيل عبر المحيط الأطلسي.  وكان أغلب الأسارى من منطقة "مندي"، أما الآخرين فكانوا من "كونو"، "شيربو"، "تمني"، "كيسي"، "قباندي" (حالياً ليبيريا)، و"لوما" (حالياً في ليبيريا وغينيا، والذين يُعرفون ب"قويرزي").  إذ كان معظم المختطفين من المزارعين، مع وجود آخرين من الصيّادين والحدّادين.  وبدا الأمر مدهشاً وجود أسارى من الحدّادين لأنَّهم كانوا في مواقع مقدّسة في مجتمع غرب إفريقيا، وكان غير مسموح استرقاقهم، أو قتلهم حتى في حال الحرب.  إذ تم شحنهم من "لومبوكو" في آذار (مارس) 1839م على متن سكُّونة (مركب شراعي ذو صاربين أو أكثر) تسمى بالإسبانيَّة "تيكورا" (Tecora)، حيث وصلت هافانا في كوبا، والتي كانت مستعمرة أسبانيَّة في ذلك الرّدح من الزّمان، في حزيران (يونيو) 1839م.
وفي مزاد علني لبيع الرقيق – وبعد نشر الإعلانات في الأماكن العامة – اشترى مالك الأراضي الأسباني خوسيه رويز كل من سينغبي و48 آخرين بمبلغ 450 دولاراً لكل منهم ليعملوا في مزرعة قصب السكر التابعة له في بويرتو بيرنسبي، وهو ميناء كوبي آخر على بعد 300 ميلاً من هافانا.  وكان مالك أراضي آخر، هو بيدرو مونتيز قاصداً نفس الميناء، قد اشترى هو الآخر أربعة أطفال (ثلاث بنات وصبي).  وفي يوم 26 حزيران (يونيو) 1839م حُشِر هؤلاء الأفارقة الأرقاء، والذي بلغ تعدادهم 53 شخصاً في سفينة صُنِعت في أمريكا وسُمِّيت في بادئ الأمر "الصداقة" (Friendship)، لكنها تم تغيير اسمها إلى الكلمة المقابلة لها بالأسبانيَّة "لا أميستاد" (La Amistad)، وذلك بعد تحول ملكيتها وتسجيلها إلى مواطن أسباني.  فبرغم من أنّ أسبانيا قد حظرت استيراد عبيد جدد إلى الأراضي التابعة لها منذ العام 1820م، إلا أنَّ المزارعين الأسبانيين قد استطاعا أن يحصلان على تراخيص رسميَّة لنقل أرقائهما.  وبعدئذٍ استأجرا السفينة من رامون فيرير، الذي كان مالكاً وقبطاناً للسفينة.  فبالإضافة إلى ال 53 إفريقي، كانت السفينة تحمل على متنها ربابنة مكوّنة من القبطان فيرير وعبيديه الأسودين (أنتونيو وهو كان صبي الكابينة، وسيليستينو الطبّاخ) واثنين من القباطنة البيض.  وكانت السفينة تحمل كذلك شحنة من الأواني المعدنيَّة، الملبوسات، المجوهرات وبعض المواد النفيسة والغذائيَّة.  إذ بلغ تأمين الشحنة 40.000 دولاراً، وأمّن رويز رقيقه البالغ 49 عبداً بمبلغ قيمته 20.000 دولاراً، ودفع مونتيز 1.300 دولاراً تأميناً للأطفال الأربعة.


التمرُّد

في الغالب الأعم كانت الرحلة من هافانا إلى بويرتو بيرنسبي تستغرق ثلاثة أيّام، لكن الرياح كانت عاتية في ذلك الحين.  وبعد ثلاثة أيّام في البحر – أي في يوم 30 حزيران (يونيو) – استخدم سينغبي رزَّة وجدها على ظهر السفينة، واستغلها لتحرير نفسه من الأغلال أو الأصفاد أولاً، وتحرير زملائه الأرقاء الآخرين ثانياً، وكانوا قد جُلِدوا بالكرباج، وأُسِيئت معاملتهم، وفي لحظة ما بدأوا يعتقدون الاعتقاد كله أنَّهم لسوف يُقتلون ويصبحوا وجبة عشاء لغيرهم عند وصولهم إلى الميناء المقصود.  إذ تسلّح سينغبي والآخرون بسواطير قطع قصب السكر، والتي عثروا عليها في مخزن البضائع بالسفينة، وقادهم سينغبي إلى سطح السفينة، حيث قتلوا فيرير وطباخه سيليستينو.  وبرغم من أنّهم جرحوا مالك المزارع مونتيز، غير أنَّ سينغبي استبقى حياته وحياة كل من رويز وأنتونيو، صبي الكابينة.  بيد أنَّ الأفارقة قد فقدوا اثنين من رفاقهم اللذين قتلهما القبطان فيرير.  ومن بعد استطاع القبطانان الأبيضان الهروب من السفينة بواسطة قارب صغير إلى بر الأمان.  وبعدئذٍ أمر سينغبي الأسبانيين بأن يبحرا بالسفينة تلقاء الأفق الذي تشرق منه الشمس، أي نحو الشرق تجاه إفريقيا.  وفي آناء الليل – وبطريقة ما – استطاع مونتيز، الذي كان يملك بعض الخبرات كبحّار، أن يبحر - مستدلاً بالنجوم - نحو الغرب، متمنياً أن يبقى في المياه الإقليميَّة الكوبيَّة.  ولكن العاصفة ساقت السفينة في الاتجاه الشمال-الشرقي محاذية الساحل الأمريكي، مما جعلها تتبع خطاً متعرِّجاً لمدة شهرين.  وفي خلال هذه المدة مات ثمانية أرقاء آخرون من الظمأ والجوع.  وفي كل هذه الأثناء كان سينغبي على قيادة العمليَّة، مجبراً الآخرين على ادِّخار الماء والطعام، ومعطياً الحصة الغذائيَّة والمائيَّة كاملة للأطفال الأربعة فقط، وكان يأخذ هو أصغر حصة من بينهم كلهم أجمعين أكتعين.


إعادة السيطرة على السفينة

انجرفت السفينة ورست على "لونق آيلاند" بنيويورك في أواخر آب (أغسطس) 1839م.  نزل سينغبي وبعض رفاقه إلى الشاطئ الأمريكي لشراء الغذاء والمعونات الأخرى أولاً، والتفاوض مع البحارة المحليين لأخذهم إلى إفريقيا ثانياً.  وإنَّهم لفي هذه الحال إذا انتشرت الأنباء حول سر السفينة الغامضة في المنطقة بأشرعتها الممزقة إرباً إرباً.  إنَّها "لا أميستاد"، والتي ظهرت أخبارها في الصحف الأمريكيَّة في الأسابيع الماضية، والتي كانت تمخر عباب البحر مبحرة تلقاء الساحل الشمال-الشرقي للولايات المتحدة.  إذ زعمت التقارير أنَّ الأرقاء الكوبيين قد تمرّدوا وقتلوا ربابنة السفينة الأسبانيَّة، وشرعوا يجولون ويصولون في المحيط الأطلسي كقراصنة.
وفي يوم 26 آب (أغسطس) 1839م بصرت سفينة المساحة الأمريكيّة، "واشنطن"، تحت قيادة الأدميرال لويس قيدني، "لا أميستاد" على الطرف الشرقي ل"لونق آيلاند".  إذ كان الأسطول الأمريكي ومصلحة الجمارك قد أصدروا أوامر القبض على "لا أميستاد" من قبل.  هكذا احتجز القائد قيدني السفينة وجرّها نحو نيولندن بولاية كونيكتيكت، حيث وصلوا هناك في اليوم التالي.  وعلى التو أرسل قيدني رسالة إلى المارشال الأمريكي في نيوهيفين، الذي أحاط علماً هو الآخر قاضي الدائرة أندرو جدسون.  إذ لم يكن جدسون صديقاً للإنسان الأسود في يوم ما؛ ففي العام 1833م أدان الأستاذة برودنس كراندال لأنّها قبلت أطفالاً زنوجاً في مدرستها في كانتبري بولاية كونيكتيكت.
على أيَّة حال، عقدت المحكمة جلستها الأولى بواسطة القاضي جدسون على ظهر السفينة "واشنطن" في يوم 29 آب (أغسطس) 1839م في مرفأ نيولندن، حيث أطلقت سراح كل من رويز ومونتيز حالاً وأمرت بأن تتم محاكمة سينغبي والآخرين بتهم القتل والقرصنة في الجلسة الثانية لمحكمة الدائرة، والتي كانت مقرّرة لها أن تبدأ جلساتها في 7 أيلول (سبتمبر) 1839م في هارتفورد بولاية كونيكتيكت.  وعليه، تمَّ احتجاز الأفارقة في سجن المقاطعة في نيوهيفين.  وفي هذه الأثناء بدّل رويز اسم سينغبي ب"خوسيه سينكي" ليحاول، عبثاً، أن يبرهن أنَّ سينغبي لم يكن مستورداً حديثاً، حتى يبرئ نفسه من جريمة خرق قانون حظر تجارة الرق للعام 1820م.  إذ لم ينته الأمر عند هذا الحد، فسرعان ما وجد "سينكي" – التقريب الأسباني ل"سينغبي" – تصحيفات أخرى لاسمه في الصحافة الأمريكيَّة؛ فعلى سبيل المثال "سينكويز"، "سينكو"، "جنكوا".. إلخ.  فحين تمت إعادة السيطرة على "أميستاد"، شاهد صحافي من صحيفة "نيويورك صن" تحدِّي سينغبي لمعتقليه ومحاولاته المكرورة للهروب.  وإذا قفز سينغبي من سطح السفينة إلى البحر وتمّت إعادته إلى السفينة جراً؛ وإذا حثّ رفاقه الأرقاء على المقاومة في هذه الظروف اليائسة؛ وإذا فُصِل عن رجاله وأُخِذ إلى قارب أمريكي؛ ثمّ إذا احتجّ سينغبي في أعنف ما يكون الاحتجاج، مما سمح له الضباط البحريُّون الأمريكيُّون البقاء على ظهر السفينة "واشنطن"، وعلى متنها مكث ليله كله واقفاً يطيل النّظر إلى "أميستاد".  لقد كان في حاجة إلى أكثر من لغة ليقول غائر مشاعره وخبئ أحاسيسه.  إذ جاء في تقرير صحافي بصحيفة "نيويورك صن": "لم يبد سينغبي أيَّة عاطفة أو انفعال، ولئن شاءت الأقدار أن يعيش في العهد الإغريقي أو الروماني لكان اسمه قد تناولته الأجيال كواحد ممن مارس الفضائل البطوليَّة في أعظم ما تكون الممارسة، وتشمل هذه الفضائل الفدائيَّة التي لا تعرف المبالاة، والشجاعة التي لا تعرف الانكماش، وعناد هو أقرب إلى أبطال الأساطير."


تدخُّل دعاة إلغاء الرِّق

ففي هذه الأثناء كانت حركة مناهضة العبوديَّة في الولايات المتحدة في فوضى، مع وجود آراء متضاربة ومتباينة في عدة قضايا.  هكذا أمست قضية "أميستاد" مسألة محوريَّة لالتقاء الفصائل المختلفة لدعاة إلغاء الرق، وأقبلوا كلهم أجمعون أبتعون للدفاع عن هؤلاء الأفارقة الأرقاء، مقتنعين ببراءتهم.  ونشرت صحيفة "هيرالد أوف فريدوم" (نداء الحريّة) ما يلي: "ليس سينكي بقرصان، ولا قاتل ولا مجرم.  إنَّ له تبرير لما قام به من قتل.  فإذا أقدم رجل أبيض على ما فعله سينكي لاعتبرت تلك الفعلة عملاً عظيماً؛ ولكان خلّده هذا العمل.  فينبغي ألا يُقدَّم جوزيف سينكي إلى المحاكمة، فالكل يدرك أنَّه برئ، ولا يمكن أن يكون مذنباً."  هذا الاعتقاد العارم في براءة سينغبي – وبخاصة من الناحية الإنسانيّة والأخلاقيّة – لم يكن كافياً قانونيَّاً.  إذ كان على دعاة إلغاء الرق أن يحصلوا على وجهة نظر هؤلاء الأفارقة حول الأحداث، وتأمين محام لإثبات براءتهم أمام محكمة الدائرة في هارتفورد.
فبعد يوم من إعلان القاضي جدسون عن محاكمة هؤلاء الأفارقة بتهمتي القتل والقرصنة، إذا دعاة إلغاء الرق في نيوهيفين يجتمعون ويكتبون إلى رصفائهم في نيويورك للتأكد من قانونيَّة وثائق "لا أميستاد"، والبحث عن إفريقي يتحدّث لغة الأفارقة المحتجزين، وأخيراً تم العثور على محام محترف.  وبناءاً على ذلك أُنشأت "لجنة أميستاد" للدفاع عن هؤلاء الأفارقة الأرقاء، وكان من قادة هذه اللجنة: جوشوا ليفيت، رئيس تحرير صحيفة "إيمانسيبيتر" (لسان حال جمعية دعاة إلغاء الرق الأمريكيَّة)، الإكليركي سيميون جوسيلين، الكاهن الأبيض في كنيسة السود في نيويورك، ولويس تعبان، وهو كان تاجراً ثرياً من نيويورك ثمّ داعية بارزاً في حملة إلغاء الرق.  إذ أصدروا كلهم أجمعون أبتعون "نداءاً إلى أصدقاء الحريَّة" للتبرع بالمال إلى صندوق المحاماة في سبيل دعم الأفارقة الأرقاء، وعهدوا بخدمات الصندوق إلى فريق لا يُشق له غبار، ويشتمل على المحامين روجر بولدوين، سيث ستيبل، وثيودور سيدقويك، وكانوا من بين أفضل الأدمغة القانونيَّة في الولايات المتحدة في ذلك الرّدح من الزَّمان.  بيد أنَّ المحامين أدركوا خطورة حدودهم لأيَّة قضيَّة يدافعون عنها في حال عدم العثور على مترجم يستطيع أن يخبرهم عن قصة هؤلاء الأفارقة الأرقاء الموقوفين.  وعليه، بدأ البحث الميؤوس، والذي نجح جزئيّاً قبل افتتاح المحكمة في الحصول على بعض المترجمين.  إذ أحضر لويس تعبان من نيويورك ثلاثة أفارقة، كان أحدهم ينتمي إلى قبيل "كيسي" (وهو قبيل مجاور لقبيل "مندي")، والذي استطاع أن يتحدث بصعوبة مع بعض المحتجزين، ولكنه نجح في تعزيز رأي دعاة إلغاء الرق القائل بأنَّ سينغبي والموقوفين الأفارقة الآخرين قد اختطفوا في إفريقيا وتم ابتياعهم كأرقاء بصورة غير قانونيّة.


المحاكمة الأولى

في يوم 14 أيلول (سبتمبر) 1839م أُرسِل هؤلاء الأفارقة - باستثناء واحد كان مريضاً شديداً، ولم يقو على السفر – من السجن في نيوهيفين ليمثلوا أمام القاضي سميث تومسون في هارتفورد، حيث افتتحت المحكمة جلساتها في يوم 17 أيلول (سبتمبر).  وبعد ثلاثة أيّام من المداولات والإجراءات القانونيَّة، أعلن القاضي أنَّ محكمة الدائرة لا تملك صلاحيات للبت في تهمتي القتل والقرصنة، لأنَّ الجرائم المزعومة قد اقترفت على متن سفينة أسبانيَّة وفي مياه إقليميّة أسبانيَّة.  وكذلك – مهما يكن من شأن – رفض القاضي إطلاق سراح الأطفال (البنات) اللائي كن وسط المحتجزين.  وإنَّه لفي تأجيل المحكمة، إذا القاضي جدسون يعقد محكمة الدائرة في نفس القاعة، ويصدر مرسوماً قضائيّاً بأنّ الممتلكات المختلفة التي قدّم كل من رويز ومونتيز دعوى قضائيَّة في سبيلها ضد هؤلاء الأفارقة تستدعي إجراء تحريات جديدة، ولكن يمكن إطلاق سراح الموقوفين بالضمان، وبناءاً على القيمة الماديَّة للتقييم كعبيد في السوق الكوبيّة.  ومن جانبهم رفض فريق الدِّفاع صيغة هذا الضمان، التي تدل على أنَّ أفارقة "أميستاد" هم أرقاء، وإثر ذلك أُعيد المحتجزين إلى السجن.
لم يكن المترجم كفءً خلال المحكمة، لذلك ضاعفت "لجنة أميستاد" جهودها في البحث عن مترجم آخر يستطيع أن يتحدّث لغة "مندي" بطلاقة.  وفي مستهل تشرين الأول (أكتوبر) 1839م عُثِر على جيمس كوفي، وهو كان بحَّاراً في سفينة حربيَّة بريطانيَّة تسمّى "بزارد".  وكان كوفي هذا من قبيل "مندي"، وكان قد تمّ اختطافه وبيعه وهو ما يزال يافعاً، حتى أنقذه الأسطول البريطاني، وذهبوا به إلى فريتاون في سيراليون، حيث أُطلِق سراحه.  ومن بعد، تعلّم الحديث بالإنكليزيَّة بطلاقة، والتحق بالبحريَّة البريطانيَّة.  وحين اصطُحِب كوفي لمقابلة معتقلي "أميستاد" في سجن نيوهيفين بواسطة البروفيسور جيه دبليو قيبس، أستاذ كلية اللاهوت بجامعة هيل، صرخ سينغبي والآخرون في لحظة الفرح عندما خاطبهم كوفي بلغة قبيل "مندي"؛ وهكذا شرعوا في الإدلاء بوجهة نظرهم عن الأحداث.  وفي هذه الأثناء لم تكن "لجنة أميستاد" سعيدة بالمعاملة التي يتلقاها المعتقلون، واجتهدوا الاجتهاد كله في سبيل توفير سبل الرفاهية الجسميّة لهم، وتعليمهم معرفياً ودينيّاً.  إذ بدأ المعلِّمون في تلقينهم الدروس بالصور البسيطة ولغة الإشارة.  وبمرور الزّمن لقي كثرٌ من المحتجزين حتفهم في المخفر بسبب التأثير المركب من التعريض والجوع والعطش، الذي تعرَّضوا له وهم على متن "أميستاد".


تدخُّل الحكومة الأسبانيَّة

تقدّمت الحكومة الأسبانيَّة بطلبات محدّدة لحكومة الولايات المتحدة الأمريكيَّة حتى قبل انعقاد جلسات المحاكمة الأولى.  إذ زعمت حكومة مدريد أنَّه حين تم إنقاذ "أميستاد" كان ينبغي إطلاق سراحها لتعود إلى كوبا حتى تتم محاكمة الأفارقة الذين كانوا على متنها بواسطة محكمة صحيحة، وبواسطة القوانين التي تم خرقها في البلد الذي هم فيه مواطنون.  عليه، طلبت مدريد كذلك وألَحّت في الطلب بإعادة السفينة والشحنة، بما فيها الأفارقة الأرقاء، وباسم ملكة أسبانيا – إيزابيلا، البالغة من العمر يومذاك 11 عاماً – إلى هافانا للمحاكمة، "لأنَّه ليست هناك محكمة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة لها صلاحيات رفع دعوى قضائيّة ضد، أو توقيع عقوبة على، مواطنين أسبانيين في جرائم اقترفوها على متن سفينة أسبانية، وفي المياه الإقليميَّة الأسبانيَّة."  استدلّت مدريد – كذلك – بالمعاهدات الموقعة بينها من ناحية، وبين الولايات المتحدة الأمريكيَّة من ناحية أخرى.
وفي ذلك الحين من الزّمان لم يكن للرئيس الأمريكي، مارتن فان بورين، آراء قويَّة معروفة في مسألة الرِّق، لكنه كان يعتمد على أنصار الإبقاء على الرِّق في الحزب الديمقراطي في الولايات الجنوبيَّة، وكان يبغي المحافظة على نواياهم للانتخابات الرئاسيّة القادمة، أي العام 1840م.  وعليه، طلب من وزير خارجيّته، جون فورسايث، أن يصدر تعليماته هو الآخر للنائب العام في الولاية، وليم هولابيرد، أن يتوخّى الحذر في ألا تتجاوز إجراءات محكمة الدائرة، أو أيَّة محكمة شرعيَّة أخرى، صلاحياتها وتضع السفينة، الشحنة، أو العبدان خارج نطاق الأوامر الفيدراليَّة."  ومن خلال هذا القرار كان يأمل الرئيس الأمريكي فان بورين أن تأمر المحاكم محتجزي السفينة بالعودة إلى كوبا، حتى يتخلّص من الضغط السياسي الواقع عليه من الحزب الديمقراطي في الجنوب من جانب، والحكومة الأسبانيَّة من جانب آخر؛ وكان مستعداً لإعادة الموقوفين باستخدام صلاحياته الرئاسيَّة إذا دعا الأمر.  واستشار الرئيس النائب العام في الولايات المتحدة، فيليكس قرندي، قانونيّاً في الأمر، والذي أفتى قانونيّاً بأنّ الرقيق يمثِّلون ممتلكات من تزعم أسبانيا أنّهم يتبعون له، ولذلك ينبغي إعادة السفينة ومحتوياتها إلى كوبا، وصادق مجلس الوزراء الأمريكي على هذا القرار.  إذ مثّل هذا القرار اختباراً سيئاً بالنسبة ل"لجنة أميستاد"، ووضح الأمر جليّاً للجنة بما يبعث الأسى والألم أنَّ الرئيس فان بورين لسوف يرسل سينغبي ورفاقه إلى العبوديَّة الأبديّة، وربما الموت.
إزاء هذا الوضع الحساس، تبنّت اللجنة إستراتيجيَّة دفاع جديدة، وذلك للتأكد ألا يحدث ما هم عليه خائفون.  وبنوا إستراتيجيّتهم على الجدل في أنّ الأفارقة لم يكونوا عبيداً بالمعنى القانوني للكلمة، لأنّهم أُحضِروا إلى هافانا وتمّ بيعهم فيها خرقاً للمعاهدة البريطانيَّة-الأسبانيَّة للعام 1820م، والتي تحظر تجارة الرِّق عبر المحيط الأطلسي.  وهذه المعاهدة قد تمّ تأكيدها العام 1835م، وأتبعها الأمر الملكي من ملكة أسبانيا العام 1838م، والتي أصدرت أوامرها الملكيَّة للنقيب-العام لكوبا أن يطبِّق القانون بأشد ما يكون الحماس.
لم يكن هناك ريب في أنَّ سينغبي ورفاقه قد أتوا بهم حديثاً إلى كوبا.  أما فيما يختص بتصريح نقلهم من هافانا إلى بويرتو برنسيبي فقد تمّ تزوير الأوراق الثبوتيَّة، بحيث أوضحت بشيء من التزوير كثير أنّ هؤلاء العبدان قد دخلوا كوبا قبل العام 1820م.  ولكن استطاع الدكتور آر آر مادين، وهو الأيرلندي الذي خدم تحت التاج البريطاني في ساحل الذهب (غانا حاليّاً) وهافانا (كوبا)، أن يدلي بشهادته للمحكمة بأنَّ مثل هذا النمط من الخداع يُمارس باستمرار في كوبا، وإنَّ أوراق الملكيَّة التي يحملها كل من رويز ومونتيز غير مسنودة بأي سند قانوني.
وفي هذه الأثناء تمّ توقيف كل من رويز ومونتيز في نيويورك تحت تهم الاعتداء، الاختطاف والسجن غير القانوني، وذلك بعد أن رفعت "لجنة أميستاد" دعوى قضائيّة ضدهما نيابة عن اثنين من الأرقاء المحتجزين، وتم تحديد الضمان بمبلغ 1.000 دولار لكل منهما.  إذ دفع مونتيز حالاً وغادر الولايات المتحدة إلى كوبا، بيد أنَّ رويز حاول استدرار العطف بالبقاء في السجن، وأخيراً دفع الضمان وغادر هو الآخر إلى كوبا، وذلك بعد أن أثارت أسبانيا هيطاً وميطاً حول الأمر، مما أمرت وزارة الخارجيّة الأمريكيّة المحاكم الأمريكيّة أن تقدِّم مساعدة للأسبانيين.  وبناءاً على هذه التطورات في القضيَّة، تغيّب كل من مونتيز ورويز عن الجلسة الأخيرة للمحكمة.


المحاكمة الثانية

افتتحت محكمة الدائرة في هارتفورد بولاية كونيكتيكت في يوم 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1839م للنظر في قضيّة "أميستاد"، وتأجَّلت المحكمة نسبة لغياب شهود أساس في القضيَّة.  وفي فترة التأجيل هذه ضغطت الحكومة الأسبانيَّة بمزاعمها مرة أخرى، ووعدتها وزارة الخارجيّة الأمريكيّة أنَّها لسوف تجعل السفينة جاهزة لنقل الأفارقة إلى كوبا إذا جاء قرار المحكمة ضد دعاة إلغاء الرِّق، حتى لا يكون لهم متسع من الزمن للاستئناف.  وحين استأنفت المحكمة جلساتها في 8 كانون الثاني (يناير) 1840م كانت هناك سفينة تابعة لسلاح البحريّة الأمريكيّة "جرامبس" جاثمة في مرفأ نيوهيفين بناءاً على تعليمات الرئيس فان بورين، والذي اعتبره كثرٌ من النّاس "أنَّه تجاوز الأمر وأبدى تطرفاً مشيناً في محاولاته الدؤوبة لتعطيل العدالة في قضية تبت فيها المحاكم (الأمريكيَّة)."  إزاء هذا الوضع، أخذ دعاة إلغاء الرِّق يراقبون سجن نيوهيفين في شكل ورديّات، حيث كان يساورهم الخوف بأنَّه ربما قد يرسل الرئيس رجالاً للقبض على المحتجزين الأفارقة حتى قبل نهاية المحاكمة، وكانوا مستعدين لإخفاء هؤلاء الموقوفين إذا دعا الأمر.
وفي يوم 13 كانون الثاني (يناير) 1840م، أصدر القاضي جدسون حكمه أخيراً بأنَّ محتجزي "أميستاد" قد تمّ اختطافهم وبيعهم في العبوديّة مخالفاً للقانون الأسباني، وأنَّهم أحرار قانونيَّاً، وبناءاً على هذا الحكم، ينبغي نقلهم إلى إفريقيا، حيث أُخِذوا من هناك ضد رغباتهم.  وفي أثناء المحكمة استطاع سينغبي أن يترك انطباعاً مفضالاً من خلال شهادته الدقيقة بواسطة المترجم، مخبراً كيف تمّ اختطافه وزملائه الأفارقة الآخرين، وربطهم وإساءة معاملتهم.  وفي لحظة ما تغلّبت عليه العواطف، ووقف قائلاً بالإنكليزيَّة: "أعطونا الحريّة!  أعطونا الحريّة!"  ولكن كثراً من الناس – بما فيهم الرئيس مارتن فان بورين – كانوا ضد قرار المحكمة القاضي بإطلاق سراحهم، ومنحهم الحريّة.  لذلك استأنف الرئيس والنائب العام للولاية حالاً ضد الحكم.  وفي هذه الأثناء كان يستمر سينغبي ورفقاؤه في تعلُّم القراءة والكتابة، وفي تلقي العلوم الروحيَّة في المذاهب المسيحيَّة.  وبرغم من إحباطهم المرير في بقائهم خلف أسوار السجن بعد قرار المحكمة لصالحهم، بيد أنَّهم ظلوا يواظبون على الدراسة بحماس، ويجتهدون في الحصول على المعرفة.  وكان أبرع تلميذ وسطهم هو الطفل كالي الذي كان يبلغ من العمر 11 عاماً، وكان واحداً من الأطفال الأربعة الذين كانوا على متن "أميستاد".  إذ كان هؤلاء الأفارقة متشوِّقين للدراسة في أشد ما يكون الاشتياق حتى أنَّهم في لحظات كثيرة كانوا يلحون ويكثرون من الإلحاح على أساتذتهم في البقاء زمناً أطول بعد انقضاء اليوم الدراسي.


المحاكمة الثالثة: تدخل الرئيس الأمريكي السّابق

في المحاكمة الثالثة استقرّ رأي "لجنة أميستاد" في أنَّه ينبغي وجود شخصيّة عامة على مستو عال للدِّفاع عن قضيّة الأفارقة في المحكمة العليا الأمريكيّة.  وعليه استطاعوا أن يقنعوا الرئيس الأمريكي السّابق جون كوينسي آدمز لقيادة الدِّفاع.
وفي ذلك الحين كان يبلغ آدمز من العمر 73 عاماً، وقد قضى 38 عاماً خارج نطاق ممارسة المحاماة.  لذلك أمسى متردِّداً في قبول مهام الدِّفاع في هذه القضيَّة، مخافة في أن يعرِّض حياة هؤلاء الأفارقة للخطر إذا فشل في كسب القضيَّة.  وكتب في مذكِّرته: "إنَّ العالم والجسد والشياطين في الجحيم قد اصطفوا صفاً واحداً ضد أي إنسان الآن في اتحاد أمريكا الشماليَّة، والذي يسعى بجرأة للالتحاق بالمعايير الإلهيَّة في وضع حد لتجارة الرِّق في إفريقيا؛ وماذا أنا فاعل – وأنأ على مشارف عيد ميلادي ال 74 وبيد مرتجفة، وعين سويداء، ودماغ نعسان، وملكاتي العقلية متساقطة الواحدة تلو الأخرى، كما أنَّ أسناني تتساقط من رأسي – ماذا أنا فاعل في سبيل الرّب والإنسان، في انطلاق الانعتاق الإنساني، في إنهاء تجارة الرِّق في إفريقيا؟  ومع ذلك، لا يزال ضميري يدفعني إلى المضي إلى الأمام؛ دعني أموت وأنا ناقض للعهد."  هكذا وافق الرئيس السّابق آدمز المرافعة في هذه القضيَّة الحساسة، والتي عُرفت يومذاك ب"مقاضاة الرئيس بواسطة رئيس آخر".  وقام محامي الأفارقة بولدوين بإعداد دفاع قوي وافتتح المحكمة.  وفي يوم 24 شباط (فبراير) 1840م جاء دور "العجوز البليغ" (Old Man Eloquent)، كما بات يُعرف الرئيس السّابق آدمز فيما بعد، وخاطب المحكمة العليا لمدة أربع ساعات ونصف الساعة.  وجاء حكم المحكمة العليا النهائي يوم 9 آذار (مارس) 1841م القاضي بإطلاق سراح سينغبي وزملائه.  وعلى الفور أرسل "العجوز البليغ" رسالة إلى لويس تعبان (رئيس لجنة "أميستاد") قائلاً فيها: "الشكر، الشكر! باسم الإنسانيّة والعدالة إليكم."  وفي الحال تمّ إطلاق سراح الأفارقة وأُخِذوا إلى فارمينغتون، وهي المدينة الأولى في حملة إلغاء الرِّق في ولاية كونيكتيكت، حيث بدأوا يتلقون تعليماً رسميّاً أكثر فأكثر حتى نهاية العام 1841م.  أما الرئيس العبوس القمطرير مارتن فان بورين فقد رفض أن يوفِّر سفينة لإعادة هؤلاء الأفارقة، الذين أمرت المحكمة العليا بإطلاق سراحهم، إلى إفريقيا؛ ومن ثمَّ أخذت "لجنة أميستاد" المسؤولية بكاملها على عاتقها.  وفي سبيل الحصول على مال لاستئجار السفينة، نظّم دعاة إلغاء الرِّق ندوات لمخاطبة الناس في الولايات الشماليّة للاتحاد، وتنقلوا من مدينة إلى أخرى، يخاطبون الجماهير المتعاطفة مع قضيَّتهم، ويسردون قصة محنة هؤلاء الأفارقة، ويستظهرون معرفتهم باللغة الإنكليزيَّة كتابة وحديثاً.  وفي هذه الأثناء أصبح سينغبي بيه - أو "جوزيف سينكي" - شخصيَّة عامة في الولايات المتحدة، وأخذ كثرٌ من النّاس يتطلّعون بقلق لمشاهدة ذلكم الرّجل الذي باتت الصحف في الولايات الشماليَّة تقارنه بأبطال قدماء الأغاريق والرومان.
وباقتراب نهاية العام 1841م تم الحصول على مال كاف لاستئجار بركنتين (مركب بثلاث صوار) يسمُّى "جنتلمان" بمبلغ مقداره 1.840 دولار لإعادة 35 ممن بقوا على قيد الحياة من هؤلاء الأفارقة إلى سيراليون.  وقبل مغادرة السفينة خاطب لويس تعبان المسافرين مودعاً، وردّ سينغبي بالإنابة عن زملائه الأفارقة شاكراً.  إذ كتبت الصحف الأمريكيَّة عن ذلك اليوم بأنَّه كان منظراً أثار شعوراً عميقاً، مما جعل كثراً من الحضور يبكون جهاراً.  وصلت السفينة إلى عاصمة سيراليون – فريتاون – في منتصف كانون الثاني (يناير) 1842م وسط اهتياج عظيم، وقد استطاع كثرٌ من هؤلاء القادمين "القدامى الجدد" أن يجدوا أصدقاءهم، وفي بعض الأحايين، أعضاءاً من أسرهم.


الأثر الذي تركته القضيَّة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة

حين انتهت قضيّة "أميستاد" نجد أنَّها قد تركت شعوراً مغيظاً بين دعاة إلغاء الرِّق في شمال الولايات المتحدة من جانب، وبين ملاك العبيد في الجنوب من جانب آخر.  وأمست القضيّة واحدة من أسباب اندلاع الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة العام 1860م.  أما الطفل كالي – والذي كان يبلغ من العمر حينذاك 11 عاماً، وكان يجلس مع الأطفال الثلاثة (بنات) ويهدئهن، فيما كان سينغبي والآخرون يتحرَّرون من أغلالهم ويتسلّحون تأهباً للفرصة السانحة لكي يصعدوا على ظهر السفينة ويفاجئوا خاطفيهم – أصبح هذا الطفل رمز الإعجاب والإكبار معاً في الولايات المتحدة الأمريكيَّة.  وفي عمره الصغير المناسب للتعلُّم، استطاع كالي أن يتعلَّم ويتكلَّم ويقرأ اللغة الإنكليزيّة أسرع من شباب وشابات "أميستاد" الآخرين.  ففي العام 1840م، حين كانوا في انتظار قرار المحكمة العليا في البت في قضيَّتهم كتب المذكِّرة التالية إلى الرئيس السّابق آدمز، أي محاميهم:
"صديقي العزيز السيد آدمز:
"أود أن أكتب إليك رسالة لأنّك تحب شعب "مندي"، وإنَّك تتحدَّث (بالإنابة عنهم) في المحكمة العليا.  إنَّنا نود أن نحيطك علماً بشيء واحد.  يقول خوسيه رويز إنَّنا ولدنا في هافانا، إنَّه ليكذب.. لقد ولدنا كلنا في "مندي".. إنَّنا نطلب منك أن تسأل المحكمة أي ذنب جنينا؟  لماذا يحتفظ بنا الأمريكيُّون في السجن؟  يقول بعض النّاس إنَّ أهل "مندي" لمخبولون؛ إنَّ أهل "مندي" ليسوا بمخبولين، لأنَّنا لا نتكلم اللغة الأمريكيَّة (الإنكليزيَّة)؛ إنَّ الشعب الأمريكي لا يتكلّم لغة "مندي"؛ وإنَّه ليس (بمخبول)؟  إنَّهم لينشرون معلومات سيئة عن أهالي "مندي"، ونحن لا نفهم.  ويقول بعض من النّاس إنَّ أهالي "مندي" لمبتهجون لأنَّهم يضحكون، ولهم مما يأكلون كثير.  وحين يأتي السيد بندلتون، يتأسف جميع أهالي "مندي" لأنَّهم يفكِّرون في أرض "مندي" والأصدقاء الذين لا نراهم الآن.  يقول السيد بندلتون إنَّ أهل "مندي" لغاضبون؛ إنَّ الرّجل الأبيض لخائف من أهل "مندي".  إنَّ أهالي "مندي" لسوف لا يتأسفون مرة أخرى، ولماذا نضحك.  ولكن يشعر أهل "مندي" بالأسف، آه، لا نستطيع التعبير عن كيفيَّة الأسف.  إذ يقول بعض النّاس إنَّه ليست لأهل "مندي" أرواح.  لماذا، لسوف نكتئب أن لم تكن لنا أرواح؟
أيُّها الصديق آدمز، لعلك تملك أطفالاً، وإنَّك لتحتفظ بالأصدقاء، وإنّك لتحبهم، ثمّ إنَّك لتأسف إذا جاء أهل "مندي" واستاقوهم كلهم أجمعين أكتعين إلى إفريقيا.  إنَّنا لنشعر بالكآبة من أجل أصدقائنا، وأصدقاؤنا يشعرون بالكآبة من أجلنا.
وإذا أعطانا الشعب الأمريكي الحريّة فلسوف نبتهج، وإذا لم يعطونا الحريّة، فلسوف نتأسّف – نتأسف قليلاً لشعب "مندي"، ونتأسّف كثيراً للشعب الأمريكي، لأنَّ الله يعاقب الكاذبين.  إنَّنا نطلب منك أن تخبر المحكمة أنَّ أهل "مندي" لا يرغبون في العودة إلى هافانا، لأنَّنا لا نريد أن نُقتل.
أيُّها الصديق، إنَّنا نود أن تعرف بأنَّ لنا شعور.  إنَّ أهل "مندي" ليفكِّرون، يفكرون، ويفكِّرون.  لا أحد يعلم فيما يفكِّرون، الأستاذ يعرف، لأنَّنا نحيطه علماً ببعض (من أفكارنا).  إنَّ أهل "مندي" يملكون الأرواح.  كل ما نريده هو أن تجعلونا أحراراً."
عاد كالي والآخرون إلى سيراليون العام 1842م، وبقي مع المبشِّرين الأمريكيين وأخيراً تم تعيينه موظفاً في إرساليَّة "مندي".  تزوّج كالي، ولكنه – وهو ما يزال في مقتبل العمر – أُصِيب بمرض جعله معاقاً طيلة بقيّة سنوات حياته.  على الأقل، لقد مات وهو رجل حر.


"أميستاد": الفيلم

أتى فيلم "أميستاد" في عقابيل فيلمي ستيفين سبيلبيرق الذائعي الصيت، وهما: "لون البنفسج" (The Color Purple)، و"قائمة شيندلر" (Schindler’s List).  والثاني سرعان ما أمسى المرجعيَّة السينمائيَّة حول إبادة اليهود في ألمانيا الهتلريَّة إبّان الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م).  حاملاً ذلك في مخيلته، اقتربت منه المخرجة السينمائيَّة الإفريقيّة-الأمريكيّة، ديبي ألن، وطلبت منه أن يقدِّم شيئاً عن الإثم الأصلي الآخر للعالم على شاشة كبيرة للجمهور الأمريكي خاصة والعالمي عامة.  ومن بعد، قام سبيلبيرق بأفلمة هذا الواقع التأريخي، وبشكل أكثر تحديداً، قصة "لا أميستاد"، وشرع يعمل بدأب - في شكل أو في آخر - مع آخرين.  ولعلَّ أول ما يلفت النظر هنا، أو إنَّك لترى منذ العرض الافتتاحي لفيلم "أميستاد" وجهاً أسوداً متنكراً في منظر حيوان، ولكنه سرعان ما يخرج من التعريض الانغلاقي ليتحول إلى إنسان يحاول في يأس، وبأصابع مملوءة بالدَّم، فك مسامير أغلاله.  ومنذئذٍ تدرك أنَّك في قبضة مخرج سينمائي هو الأعظم في العالم.  ومنذ فيلم نيكولاس رويق، "التسكع" (Walkabout)، لم يتم عرض رجل أسود على شاشة سينمائيّة بذات التعاريج والطبقات الجماليّة مثلما جاء في رسومات الرسَّام الفرنسي غوغان (1848-1903م)، والذي بدأ حياته الفنيَّة انطباعيَّاً ثمَّ آثر البساطة في الشكل.
إذ نجد أنّ سبيلبيرق في تركيزه الفوتوسينمائي الفعال في إجلاء اللحظات القابضة على متن "أميستاد"، قد خلق نوعيَّة أسطوريَّة انطباعيَّة، حتى أصبحت مادة للجمال كله.  وفي تعارض شديد مع الألوان الباهتة التي بها صوّر أغلب مادة الفيلم، تجدنا مشدودين إلى أزمة سينغبي بيه، والذي مثل دوره دجيمون هونسو.  فمن هو هونسو؟  ولد هونسو في بنين، وتعلَّم في فرنسا، وعمل كموديل في السّابق.  وفي هذا الفيلم إذ أشاع هونسو سحراً فاتناً وقامة مهيبة وهو يؤدِّي دور سينغبي، ولا بد أنَّه كان أفضل ما عثر عليه سبيلبيرق في التسعينيَّات.  إذ جهَّزه سبيلبيرق بحاشية سينمائيّة محدودة، وجعله يمثِّل كليّاُ بلغة "مندي" (لغة سينغبي الأصليَّة).  مهما يكن من شأن، فإنَّ وجه هونسو المعبِّر بدا ككتاب مفتوح يبعث من خلاله، أو تجد بين ثناياه، الضعف والقوة الحقيقيَّة معاً.
وكان أفضل اللحظات في الفيلم حين أمسى هونسو سيد الشاشة جسداً وصوتاً، وبالنسبة للمشاهدين فهو الأقرب إلى ثيرمومتر لقياس درجة غليان مجريات المحكمة.  ومع ذلك فإنَّ الفيلم يعكس بشاعة العبوديَّة في ألعن ما تكون البشاعة: حشو الأفارقة كاللحم في قاع السفينة، إغراق المرضى والضعفاء في البحر، حتى لا يمرض الآخرون، ولكيما يوفِّروا الغذاء للأصحاء، لأنَّ فقدانهم كلهم أجمعين أكتعين يعد خسارة ماليّة للنخاس.  وكذلك كانوا يجلدون بالسياط باستمرار، ويضربون بالهروات، ويركلون بالأرجل، ويتم تجويعهم وتعريضهم للظمأ، والاحتفاظ بهم في سجون شبيهة بالقلاع المحصورة بالمرض ومياه الغسل النتنة.  ومن يبقون على قيد الحياة يُبتاعون في أسواق النخاسة في المزاد العلني في الولايات المتحدة أو جزر الهند الغربيَّة.
وفي هذا الفيلم أدَّى بعض من ألمع نجوم هوليوود أدواراً مختلفة.  إذ مثَّل مورغان فريمان دور العبد المحرَّر الذي أتت به "لجنة أميستاد" مترجماً في بادئ الأمر، وأخذ الأفارقة الأرقاء يخاطبونه بلفظة "السير"، وبخاصة حينما ظهر بمنظره الهندام كحال أحد أفراد المجتمع الأرستقراطي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة: واضعاً قبعة على  رأسه، متزيِّناً برباط عنق أنيق، مرتدياً سترة أفرنجيَّة، وحاملاً عصا يتوكأ عليها.  وفي لحظة سمو الفيلم في البت في القضيَّة والاستئناف عند المحكمة العليا، برز دور الممثِّل البريطاني أنثوني هوبكينز، وهو الذي كان قد مثَّل دور الرئيس الأمريكي السابق جون كوينسي آدمز.  إذ مثَّل أنثوني هوبكينز في عدة أفلام من قبل، منها "صمت الحمل" (The Silence of the Lamb).  غير أنَّ من يعمل مع هؤلاء النجوم السينمائيين يشعر بأنَّ لا شيء يصعب عليه، طالما أنَّ الفكرة واضحة في رأسه.  ومنذ زمن بعيد أدرك سبيلبيرق أنَّ الكاميرا وآلات تسجيل الصوت يمكن أن تكون شاهدة على ما حدث من ناحية لإطلاع العالم كله على ذلك الحدث، ومن ناحية ثانية لتعليم الشبان كيف ولماذا يكون النِّضال الحقيقي، وبخاصة أولئك الذين لا يألون جهداً في القراءة والاطلاع.
إنَّ الفيلم الذي - جاء في تعريفه "بأنَّ الحريّة لا تُمنح؛ إنَّها لحقنا منذ الميلاد، ولكن هناك لحظات حين ينبغي أن تُأخذ" – لجدير بالمشاهدة، لأنَّها بشكل عام تحكي عن حدث تأريخي منسي، والظروف التي أحاطت به في ذلك الحين من الزَّمان، والفراغ الأخلاقي والإنساني لمسألة الرِّق؛ ثمّ إنَّه فد عرض فظاعة الاسترقاق على شاشة سينمائيّة كبيرة، وذلك بعد أن أيقظ فيلم تي قارنيت – "سفينة الرقيق" (Slaveship) في الثلاثينيَّات – ضمائر النّاس، وأثار أليكس هيلي - في تلفزة "الجذور" (Roots) في السبعينيَّات - صوراً مأسويَّة عن ذلكم العهد الغيهب لجمهور من المشاهدين والمستمعين كبير ليس في الولايات المتحدة الأمريكيَّة فحسب، ولكن في الدول الغربيَّة بشكل عام.  وبرغم مما في الفيلم من شيء من البشاعة والقساوة كثير، غير أنَّ هذا كله لا يستطيع تبرير ولا تفسير استنكاف بعض من محبي السينما عن مشاهدة الفيلم في عرضه الدرامي المأسوي هذا، وذلك لما للفيلم من هذه الأهميَّة التأريخيَّة والإنسانيَّة والفنيَّة، حيث يستدعي الأمر العودة إلى هذا الرَّدح من الزمان والإلمام بشيء منه يسيراً أو كثيراً.  إلى حدٍ كبير جاء هذا الفيلم – تأريخيَّاُ ومأسويَّاً – بحيث حقَّق نجاحاً عظيماً، وذلك بفعل وجود كبار النجوم في السينما العالميَّة في بطولته، وكذلك بفضل سمعة مخرجه كواحد من أبرز مخرجي الأفلام الكبيرة في الولايات المتحدة.  وفي نهاية الأمر لا نجد بأساً في أن نختتم هنا كلامنا بمشاهد ثلاثة تتداعى إلى الذاكرة كلَّما استحضرنا قصة "أميستاد": الاسترقاق في عيون شعب مثخن بالجراح، القضاء وما في الأمر من سجالات واحتجاجات، والحريَّة والرحلة الشاقة في البحث عنها.


المصادر والإحالات

(1) New African, June 1998.


Omer Shurkian [shurkiano@yahoo.co.uk]

 

آراء