أنصار “الوطني” والبحث عن حائط مبكى
خالد التيجاني النور
17 December, 2011
17 December, 2011
tigani60@hotmail.com
ربما كان الوحيدون الذين فوجئوا وصدموا حقاً ب"إعلان التشكيل الوزاري الجديد- قديم" بعد مخاض عسير وولادة متعثرة هم غلاة مؤيدو المؤتمر الوطني الذين ظنوا أن تطاول أمد تصنيع "حكومة الجمهورية الثانية" يحمل لهم أملاً ولو ضئيلاً في الإصلاح والتغيير الذي طالما تمنوه, بل وطفق كبار قادة الحزب يبشرونهم به منذ مطالع هذا العام الذين حمل لنا أكبر خيبات الوطنية بتقسيم البلاد, في وقت أطلت فيه على شعوب المنطقة آفاق الحرية والانعتاق والتحرر وانفتحت أمامهم طاقات الأمل في غد أفضل وقد دارت عليها نسائم الديمقراطية.
لم يفاجأ المرء بما حدث سوى أنه لم يتوقع أبداً أن "المؤتمر الوطني" سيكون عند حسن سوء الظن به إلى هذه الدرجة!! ليست المشكلة على الإطلاق فيمن تم توزيرهم, أو بالأحرى إعادة توزيرهم, وبينهم أصدقاء أعزاء كثر تلزمني العلاقة الشخصية أن أبسط لهم التهنئة الخالصة والدعاء بالتوفيق وأخلص لهم النصح, بيد أن أخطر ما كشفته عنه هذه الخطوة, التي انتظرت طويلاً, أنها تبين المدى الذي وصلت إليه حالة الإرهاق غير الخلاق ل "العقل ىالسياسي" ومدى تدهور "الحساسية السياسية" عند " الطبقة الحاكمة". فالمبررات التي سيقت لتمرير التشكيلة الحالية ليست مقنعة حتى لمروجيها. ناهيك عن الاضطراب والارتباك الواضح الذي رافق الإعلان عنها.
وتشكيل الحكومة, أي حكومة, هي عملية سياسية بإمتياز تعكس بلا شك مدى التطور, أو التدهور لأي نظام سياسي, فهي ليست مجرد تمرين خامل لتحريك قطع الشطرنج, أو عملية ترقيع أو ترتيق كحال "شملت كنيزة الثلاثية ذات القد الرباعي", بل يجب أن تفصح عن رسائل سياسية بليغة يفهمها عامة الناس كما يدركها خاصتهم, خلاصتها أن عليكم أن تنتظروا غداً أفضل ليس بشعارات فضفاضة مما تلوكه ألسن قيادة "الطبقة الحاكمة" بلا طعم أو لون لأكثر من عقدين, ويعيد إنتاج الأزمة الممسكة بخناق البلاد بلا أمل, بل ببرنامج سياسي للإصلاح والتغيير جرئ واضح المعالم, وبعدة من جهاز تنفيذي قوي أمين قادر على تحقيق ما تعد به من إصلاح.
رسالة "التشكيل الحكومي" الأخير التي التقطها, منسوبو المؤتمر الوطني قبل خصومهم, هي ألا تحلموا بغد أفضل, وهو حكم لا نعتسفه تبكيتاً على الحزب الحاكم أو بغرض إثارة عكننة قادته أو الافتئات عليه, فهم يعرفون ردة الفعل المحبطة لقاعدتهم أكثر من غيرهم, ولا يحتاجون لإجراء قياس رأي عام علمي لإدراك ذلك. والرسالة الآخرى التي وصلت هي ذلك الاكتشاف المتأخر لمنسوبي الحزب الحاكم بأن "ثوابت الإنقاذ" التي طالما بشروا بأنها ستظل باقية أبد الدهر ليست هي تلك "الشعارات البراقة" المرتدية لباس الإسلام التي ظلوا مستعدين للتضحية بأنفسهم من أجلها, حيث اكتشفوا ان "ثوابت الإنقاذ الحقيقية الوحيدة" هي أعضاء ذلك "النادي المغلق" لطبقة سياسية جديدة تشكلت بعد الإنقلاب احتكرت السلطة والقرار والتحكم في مصائر البلاد والعباد لعقدين من الزمان بلا محاسبة ولا مساءلة ولا معقب لما يحكمون, لأن عامة وخاصة من يتحدثون بإسمهم آثروا الجلوس على مقاعد المتفرجين, والاكتفاء بالتحسر والبكاء على أطلال المشروع الإسلامي والنميمة السياسية في صوالين المدينة, فيما آثر آخرون الانخراط في لعبة السلطة بلا "هدى أو كتاب منير" ويا دار ما دخلك شر!!
لندع جانباً بكائيات "إسلاميي المؤتمر الوطني" على فقدان أملهم, ورقة حالهم التي لا تسر عدواً ولا صديقاً, والتي ما كنا لنشير إليها لولا أنهم طفقوا يبحثون عن "حائط مبكى" يبثون شكواهم ونجواهم عند ممن يظنوننهم من "ذوي الشوق القديم", والعجيب أن بعض الباحثين عن النجوى من ذوي الشأن حتى يحار المرء في حالة هذا الحزب ويثير الشفقة عليه من مصير بئيس وقد بلغ به الحال أن كثيراً من منسوبيه يلعنونه سراً, ولا يجدون حرجاً في الدفاع عنه بألسنة حداد علانيةً.
فما أغنى المؤتمر الوطني عن الوقوع في هذه الورطة لولا أن قادته أسرفوا, غداة اشتعال غضب شباب الربيع العربي, في بذل الوعود بالإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد لطائفة من شباب الحزب الذي انبروا في مواجهة نادرة مع قادتهم يستحثونهم لإدراك مركبهم من الغرق في لجة الثورة التي أغرقت نظماً عريقة في المنطقة أشد باساً وأكثر علواً وأغنى عدة وعتاداً مما لم يغن عنهم شيئاً.
وأكبر مأزق يواجه قادة "المؤتمر الوطني" أنهم تراجعوا من تلقاء أنفسهم من الوفاء بوعود براقة بذلوها لقاعدتهم, تبرعوا بها أو أجبرهم عليها الإحناء للعاصفة, فإذا جاءت ساعة الحقيقة لم يكد شيئاً منها يتحقق, فلا تجديد في شرايين الحزب قد حدث, ولاشئ من الوعود المغلظة من قبيل عدم توزير من مضى عليه أكثر من عشر سنوات في المنصب, أو فاق الستين من العمر, أو تلك الحكومة الرشيقة الموعودة اللهم إلا إذا استغاثت بالوصف الشعري الشهير "هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة", ولا شئ من الوعد بمحاربة الفساد التي تسير به الركبان وأصبح مؤسساً ومقنناً وتفضحه "الدنانير التي أبت إلا ان تطل برأسها", ومع ذلك تغابت عنه أو عادت تنفي حدوثه اصلاً أو في أحسن الأحوال تكتفى بمحاربته بالتصريحات الصحافية القاطعة التي لم يرها أحد تبتر شيئاً, حتى ضاقت بها صفحات الصحف, ونشط في النشر عن فضائحها والتنديد برائحتها التي تزكم الأنوف حتى بعض غلاة مؤيدي الحزب الحاكم. لقد استعصت الإجابة السهلة على سؤال محاربة الفساد البسيط لأن سؤالاً أكثر تعقيداً لا إجابة ممكنة له بلا توابع زلزالية قد برز "من يحاسب من؟"!!
والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه لماذا يبدو "المؤتمر الوطني" عاجزاً إلى هذه الدرجة عن الوفاء بتعهدات قطعها قادته على أنفسهم علانية, ولا يمكنهم التنصل عنها بدون أن يقدموا أجوبة مقنعة لشباب الحزب المتململ, ولعامة منسوبيه ممن يرون التغيير والإصلاح يجتاح المنطقة, ثم يقفون متفرجين حائرين خشية أن تجتاحهم غائلة الربيع العربي من حيث لا يحتسبون, وما تصريحات مسؤولي الحزب المتواترة والملحاحة من أنهم محصنون ضد موجة الثورة العربية, أو ذلك التبرير المهزار من أنهم مخترعوها قبل عقدين, إلا دليلاً على قلق عميق ينتابهم, وانعكاساً لخشية حقيقية من أن تدق أبوابهم على حين غرة بغير استئذان.
من المؤكد أن قادة "المؤتمر الوطني" ليسوا أغراراً ومدركون بلا شك أن الحاجة للتغيير والإصلاح أصبحت قدراً لا دافع له ومسألة وقت لا أكثر, ليس بدافع من محاكاة تيار الثورة الجارف في المنطقة وهو بلا شك عامل شديد التأثير, ولكن لأن هناك حاجة حقيقية لذلك تقتضيها التحديات الخطيرة التي تواجه البلاد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وهي ليست مخاطر جديدة ولكنها ظلت تتفاعل طوال عهد الحكم الحالي لأنه آثر أن يتعاطى معها لا بمنطق حسن السياسة ولكن بمنطق الاستبداد الذي قدم له عبد الرحمن الكواكبي تعريفاً مذهلاً "إدارة الشأن المشترك للأمة بمنطق الهوى", ولم يكن تقسيم البلاد وفصل الجنوب إلا القشة التي قسمت ظهر البعير.
يدرك قادة الحزب نظرياً بأن الحاجة للتغيير حقيقية وماسة ولا راد لها مهما ادعوا غير ذلك, ولكن مع ذلك يقفون عاجزين مكتوفي الأيدي لا يستطيعوا سبيلاً حتى إلى تحقيق ولو درجة محدودة ومقبولة لقواعده, وقد رأينا كيف أن المؤتمر الوطني اصبح عصياً على الإصلاح أو حتى لا يمكن إصلاحه مما جرى في مؤتمره العام الأخير الذي كان يظن أنه سيفعل شيئاً ولو محدوداً على طريق الإصلاح, خاصة وأنه اول انعقاد له بعد التقسيم ومخاطر التمزق التي تهدد ما بقي من البلاد وإعادة إنتاج الحرب وتبدد معادلة "الانفصال مقابل السلام" وأوضاع اقتصادية لا تحسد عليها, لقد تجرأت بعض نخبته على الكتابة علانية في الصحف السيارة داعية للمراجعة والتغيير وراحت دعواها سدى, إن لم تكن قمعت, وبقي الحال على ما عليه وربما أسوأ وقد انقطع الرجاء والأمل.
وثمة حاجة لإعطاء تفسير لحالة العجز ليس فقط عن الإصلاح, بل عدم القدرة على التطور, والأهم من ذلك الفشل حتى في الإدارة التنفيذية لدولاب الدولة الذي يشهد تراجعاً خطيراً غير مسبوق مما يلمسه المواطن بغير عناء في ما يليه, فالأداء السياسي والتنفيذي للحكم الحالي متواضع بدرحة لا تتسق إطلاقاً مع ما يفترض من تراكم خبرة وتجربة لحزب أمضى أكثر من عقدين قابضاً على زمام السلطة منفرداً, وقد توفرت له فرصة كافية للدربة والتمرس في إدارة شؤون الحكم على نحو يكسبه رضاء مواطنيه, ويبعد عنه سخطهم, ولكن المفارقة أنه بعد عشرين عاماً لا يزال الحكم مفتقداً لرجال دولة من ذلك الطراز الذين يدركون عظم مسؤوليتهم ومحورية الدور الملقي على عاتقهم ليس فقط لإطفاء الحرائق, ومعالجة الأزمات بل قيادة بلدانهم إلى أرفع المراتب بين الأمم.
تتلفت حولك فلا ترى بعد أكثر من عقدين أن اسلوب الحكم الوحيد المعتمد هو الاستمرار في إدارة شؤون الحكم بالشعارات والتعبئة والحشود والمهرجانات والمؤتمرات والهتافات, ولا تتقن سوى اسلوب شراء الوقت والهروب المستمر إلى الأمام من أزمة إلى أخرى, قد يكون ذلك مفهوماً في أول سنواته في الحكم وهو يبحث عن تثبيت موطء قدمه ويحاول تعلم فن إدارة الدولة والحكم, لنقل خمس أو حتى عشر سنوات كانت كافية لذلك, ولكن لا يمكن أن يظل الحال كذلك لعشرين عاماً ونيف, ولا يمكن لدولة أن تتقدم بدون مؤسسات حكم حقيقية قوية وفاعلة.
لعل التشخيص الدقيق لحالة المؤتمر الوطني تشير إلى أنه يعاني من "متلازمة أمراض خلقية" أي انه أسير لطبيعة النظام الذي ولد ولادة غير طبيعية بانقلاب ظاهره عسكري وباطنه مدني, فقد تلاشى تنظيم الحركة الإسلامية الذي كان مقدر له أن يضبط التناغم بين المكونين العسكري والمدني للنظام حين حله زعيمه واستبدله بطائفة من خلصائه, تحولت إلى طبقة متحكمة ما لبثت أن أطاحت به في نزاع مشهود, وغابت الفكرة وضاع المشروع وتاه الإسلاميون, واحتكرت الطبقة الجديدة "لعبة السلطة" صنعت مؤسسات صورية, إلا أنها ظلت أسيرة توازن الثنائية الباطنية التي انجبت النظام وتوزعت مراكز قواه بين العسكريين والمدنيين, وتعددت بين المدنيين أنفسهم, وفي غياب رؤية كبيرة جامعة ومشروع طموح لم تبق إلا لعبة البقاء في السلطة, لقد خلقت حالة تعدد الأقطاب داخل المؤتمر الوطني وتباين مطامحها صراع خفياً على السلطة يعلو حيناً ويخفت حيناً حسب حالة توازن قوى ريثما تتوفر ظروف كتلك التي أطاحت بالترابي لتعديل الموازين لصالح هذا الطرف أو ذاك, لقد جعلت هذه الطبيعة المركبة للنظام أي محاولة للإصلاح غير ممكنة, لأن كل طرف ينظر إليها إن كانت ستعزز نفوذه او تكون خصماً عليه, ولأن حالة توازن الاقطاب لا تزال سائدة فقد كانت النتيجة هذا الجمود, ولذلك كان طبيعياً أن تبدد آمال الذين كانوا ينتظرون تغييراً أو إصلاحاً تعبر عنه التشكيلة الوزارية الأخيرة.
ولأن السياسة لا تعرف الجمود ولا الفراغ يبقى الاحتمال ضئيلاً في استمرار حالة التوازن الراهنة هذه لأمد طويل سواء جراء عجز الحزب الحاكم عن مخاطبة التحديات الخطيرة التي تواجه الحكم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتبعاتها وتداعياتها المحتملة لان تكتيكات التعاون بين الفرقاء على الحد الأدنى للحفاظ على السلطة لن يكون كافياً, أو بسبب ضغوط وتدخلات دولية لإعادة ترتيب "البيت السوداني من الداخل" في ظل ضعف القوى الوطنية, خاصة وأن تأثير تبعات حالة السيولة القيادة في الحكم سيمتد إلى المنطقة برمتها, ولعل التطورات المثيرة التي رافقت زيارة الرئيس البشير إلى الدوحة اخيراً تفصح عن مؤشرات غاية في الأهمية في قراءة اتجاهات التحولات المنتظرة في البلاد في المستقبل المنظور.
عن صحيفة إيلاف السودانية
الأربعاء 14 ديسمبر 2011