أوجه القصور في سجون سودان ما بعد الاستعمار: من الإصلاح إلى الاقتصاص، 1956 – 1989م
The frailties of prisons in post – colonial Sudan: from rehabilitation to retributions, 1956 – 1989 ويلو جي بيرديج W. J. Berridge ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لبعض أجزاء من مقال طويل نشره الدكتور ويلو جي بيرديج في عام 2016م بالعدد الثاني والخمسين من "مجلة دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies (وهي دورية عالمية تصدر عن تصدر عن دار نشر "تايلور وفرانسيس" منذ عام 1964م). وكاتب المقال هو الدكتور ويلو جي بيرديج، الذي يعمل محاضرا بقسم التاريخ في جامعة نيوكاسل البريطانية، درس وعمل من قبل في قسم التاريخ بجامعتي درم ونورثهامتون، حيث نشر عددا من المقالات المحكمة عن أجهزة الأمن والشرطة والسجون في السودان، ومقالا عن الثورة المصرية على نظام حسني مبارك، وكتابين صدرا حديثا هما “حسن الترابي: السياسة الإسلامية والديمقراطية في السودان" و"الثورات المدنية في السودان الحديث في عامي 1964م و1985م". وكانت أطروحة الكاتب المقدمة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة درم هي بعنوان: "تحت ظل النظام: تناقضات حفظ النظام في السودان بين عامي 1924 و1989م". Under the Shadow of the Regime: The Contradictions of Policing in Sudan, c.1924-1989. أشكر المؤلف لتكرمه بمدي بنسخة من هذا المقال، مع تحفظي على بعض ما ورد فيه من قطعيات وتعميمات. المترجم ****** ******* ****** أصدرت لجنة قضائية شكلها رئيس السودان الأسبق جعفر محمد نميري قانونا جديدا للعقوبات في سبتمبر من عام 1983م، وذلك ضمن سلسلة أوسع من التغيرات التي كان هدفها "أسلمة" النظام القضائي بالبلاد، وسماها المعلقون "قوانين سبتمبر". وفي العام التالي أعلن نميري حالة الطوارئ بالبلاد، وأنشأ "محاكم العدالة الناجزة" لتطبيق تلك القوانين. وذهب عبد الله على إبراهيم، أحد كبار المؤرخين السودانيين، إلى أن قيام نميري بـ "أسلمة" القوانين الجنائية في عام 1983م كان يعني أنه اختار "الاقتصاص فوق إعادة التأهيل / الإصلاح، والأخيرة هي ممارسة أسستها الحداثة الاستعمارية"، وأن الاقتصاص والحسبة ؟ (vigilantism) في جذر فلسفة العقوبات في الإسلام قد فُضلتا على فلسفة إصلاح وتأهيل لم تكن الدولة قادرة على تحمل تكلفتها، التي تشمل الحفاظ على الأمن، والسجون والمحاكم". وبهذا الفهم يرى إبراهيم أن نظام السجون الذي يهدف للإصلاح والتهذيب (الذي كان موجودا بالسودان في الخمسينيات والستينيات) هو إرث اصطناعي للحكم البريطاني، كان سيزول لا محالة بمجرد أن يتحرر السودان ثقافيا من الاستعمار، وتعيد فيه القيم العقابية الإسلامية نفسها من جديد. غير أن هذا المقال يؤكد على أنه لم يكن هنالك أي انقسام ثنائي (binary division) بين الاصلاح الاستعماري والاقتصاص في سودان ما بعد الاستعمار. وقد جاء في كثير من المصادر أن مسؤولي العهد الاستعماري كانوا في غاية التردد والالتباس والانقسام حيال مزايا إدخال القوانين العقابية الأوربية في السودان. لذا فسنعرض هنا إلى أن نظام السجون الهادف للإصلاح والتهذيب الذي كان معمولا به في السودان في غضون سنوات الخمسينيات والستينيات لم يكن مجرد إرث للحكم الاستعماري، بل قام المهنيون السودانيون التحديثيون (modernizing) العاملون بالسجون في تلك السنوات بتطوير نظم السجون إلى مدى أبعد بكثير مما كانت عليه البنية الأساسية الموجودة سابقاً، وتبنوا بسرعة وترحاب غير معهود في عهد الاستعمار، مُثُلا تعليمية وحضارية عديدة. ولعل هذا كان يعكس ما يُسمي بـ "التنموية الدفاعية defensive developmentalism"، أي ميل الوطنيين الحداثيين إلى إظهار قدرتهم على حكم بلادهم عن طريق الأخذ من / تقليد المُثل التنموية الأوربية. غير أن غالب هؤلاء المهنيين المتعلمين كانوا يحاولون دوما فهم المُثل العليا للإصلاح في السجون في نطاق إطارهم الثقافي الخاص بهم. ويدور هذا المقال حول أن النظام المايوي الحاكم كان قد بدأ في التباعد عن تلك المُثل الإصلاحية منذ نهاية السبعينيات، وإلى حين سقوطه في أبريل 1985م. وكما كتب عبد الله جلاب، فقد كان ذلك النظام قد صار، مع تحول أولوياته إلى مجرد "البقاء / المَنْجَاة السياسية"، يَعُد المواطنين مجرد أفراد أو جماعات تمتلكهم الدولة، ليست لهم قيمة، وليس لهم أي حقوق إنسانية مدنية مشروعة. وفي ذات الوقت بدأت معظم قطاعات التنمية المحلية في التدهور المطرد نتيجة لسوء إدارة الاقتصاد، والفساد، وهروب رؤوس الأموال، وأزمة الطاقة في السبعينيات، وضغوط صندوق النقد الدولي لكبح دور الدولة في الاقتصاد. وفي ذلك السياق انشغلت الدولة بإظهار قوتها وقدرتها المادية على إنزال العقاب بمواطنيها (جسديا في كثير من الحالات، حتى في هذا العصر) أكثر من مجرد حكمهم وإدارة شؤونهم. وينبغي أن يُفهم هذا في ذلك السياق السياسي أكثر من أنه عملية إحياء حقيقي لفلسفة الإسلام العقابية. وكان هنالك أيضا ما يدل على سياق عنصري / عرقي لذلك التوجه في مجال القوانين العقابية. فقد أحست صفوة الشماليين النيليين "العربية" بالتهديد والخطر القادم من الهجرات السريعة للسود "المنبتين قبليا، المشكوك في معتقداتهم، والمتهمين بميلهم نحو الإجرام". وتثير هذه النقطة مسألة إعادة صياغة مفاهيم هوية "العرب" و"الأفارقة" في البلاد. وكما سنرى، فقد حدث التحول نحو المزيد من الردع عن طريق العقاب البدني والاقتصاص في سياق الأيدولوجيات العنصرية والدينية التي تصِم سكان مناطق السودان الطرفية، وتحرمهم حتى من القدرة على الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي. ومع التحول الذي أشرنا إليه، صار استخدام العنف أكثر قبولا، ليس فقط ضد المجرمين التقليديين، بل ضد المعارضين السياسيين أيضا. نمو وتطور أيدولوجيات العقاب عن طريق " الإصلاح / إعادة التأهيل" من الخمسينيات إلى السبعينيات اتبع مسؤولو السجون بالسودان منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى السبعينيات منه سياسة "الإصلاح والتهذيب" الشخصي بكثير من القوة والحماسة. وكان هذا يعكس الجهود الأوسع من قِبَل ذلك الجيل المهني الوطني المتعلم المُمكن حديثا ليظهروا أدب وأخلاق وتحضر (civility) السودان، وقدرة نخبته الوطنية المتعلمة على حكم بلادهم. وكان إصلاح السجون هو المحور الذي تدور حوله ممارسات ذلك " الأدب والأخلاق والتحضر"، ووضع سياسات هدفت لتمكين وتثقيف الأفراد كجزء من تلك العملية. وبذلت سلطات السجون في سودان ما بعد الاستقلال جهودا كبيرة للإعلان عن تصميمها على إنفاذ سياساتها الإصلاحية، فأقيمت في مختلف مدن السودان، بدءً من عام الاستقلال في 1956م، "معارض السجون". وازدهرت تلك المعارض في سنوات نميري (الباكرة). فغدا بإمكان جمهور النَّظَّارَة مشاهدة السجناء وهم يعزفون على الأبواق، أو يقومون بالمشاركة في فرق الكشافة أو التمثيل. وكان هذا من أدلة وجود مساجين يمكن أن يبدعوا في مجالات مختلفة إن وجدوا من يرعاهم ويتعهد مواهبهم بالتدريب والتطوير. وكانت "فرق جاز السجون" تقيم في السبعينيات حفلات عامة للجمهور في مختلف المناسبات الاجتماعية. وفي عام 1982م كونت "دار الهداية" لها فرقة موسيقية، ومجموعة راقصة كانت تشارك في المهرجانات العالمية، بحسب ما جاء في مؤلف الماحي المعنون "سجون بلا قضبان". بل سُمح للمساجين في سنوات السبعينيات الباكرة بالتصويت في الانتخابات، وأقامت مصلحة السجون مكتبات تعليمية وتثقيفية لنزلاء السجون. وهنالك الكثير من الأدبيات المنشورة في غضون سنوات الحكم المايوي (1969 – 1985م) التي تشير إلى أن ضباط السجون في تلك الفترة كانوا يشعرون بأنهم كانوا بالفعل في حالة تحول عن نظام السجون الاستعماري، الذي كان يعتمد على الردع القاسي، والاتجاه نحو نظام أكثر تعاطفا يقوم على التعليم والإصلاح والتهذيب. وشهدت سنوات الستينيات والسبعينات اهتماما من مصلحة السجون بصحة المساجين الجسدية والنفسانية، فتم إنشاء وحدات طبية متخصصة ومتكاملة ملحقة بالسجون الكبيرة بالبلاد. وحاول بعض خبراء السجون، على سبيل "التأصيل" ربط الإصلاحات في نظام السجون بالبلاد ببعض الممارسات السابقة في عهد الخليفة عبد الله، والبعد عن التقليد الببغاوي للمُثل والقواعد العقابية الأوربية. ونشر محجوب التجاني مقالا في "مجلة السجون" الصادرة في إبريل عام 1982م (ص 24 – 26) بعنوان "الفلسفة العقابية في المهدية" أورد فيه بعض الأمثلة للاتجاه نحو "الإصلاح" في سجون ذلك العهد. وبذا يتضح أن عددا من ضباط السجون كانوا على قناعة بأن في الإسلام فهم وإمكانية وسِعَة للإصلاحات في القوانين العقابية، متميزة ومختلفة جدا عن قوانين الردع الاستبدادي الاعتباطي الذي كان نميري سيدخله. "الأسلمة" والتحول نحو العقاب البدني استغل واضعو قوانين سبتمبر 1983م المشاكل العديدة التي كانت تواجه السجون ودعاة إصلاحها في الخمسينيات والستينيات لتقوية حجتهم لإعادة إدخال ضَّرْب "إسلامي" من أضرُب العدالة. وكان النظام الذي أقامه المستعمرون لعمل المساجين في معسكرات هدفا للنقد الحاد من بعض الإصلاحيين الإسلاميين، الذين شبهوه ببعض الممارسات الاستعمارية القديمة الحاطة للكرامة والشبيهة بالعبودية. وقالوا بأن عمل السجناء في السجن بلا مقابل يزيد من كراهيتهم للمجتمع. وذهب آخرون إلى أن عقوبة السجن لفترات طويلة تعاقب المذنب ومن يعولهم من أفراد عائلته (بسبب فقدانهم للسند الاقتصادي)، بينما تصيب عقوبة الجلد أو التعذيب المذنب وحده دون غيره. وكانت تلك الدفوعات هي ذات الدفوعات التي تحجَّجَ بها المستعمرون في العشرينيات والثلاثينيات الذين عارضوا دعوات الإصلاح في السجون في تلك السنوات (توسع الكاتب في هذه النقطة في مقال سابق له بعنوان:" "الأيديولوجيات الملتبسة والتقييدات في السجون السودانية في عهد الاستعمار". المترجم). ولا شك أن استبدال عقوبة السجن بالجلد هو أَوْفَرَ ماليا للحكومة السودانية، وأسرع وأشد فعالية – لذ تعده أكثر عدلا. وكان نميري يزعم دوما بأن العدالة "الناجزة" أكثر عدلا مما كانت تقدمه تلك المحاكم المكتظة بالقضايا المعلقة لسنين متطاولة، والتي قد يظل بسببها المتهم محبوسا لمدة طويلة قبل أن يُحاكم، وكأنه يؤكد المقولة الشهيرة "العدالة المؤجلة هي إنكار للعدالة / تأخير العدالة ظلم بَيِّن". وكان من نتائج التحول إلى العقاب البدني هو فصل عدد كبير من المهنيين القانونيين (من دعاة إصلاح النظام العقابي) الذين عارضوا تلك القوانين الجديدة. وقال محجوب إبراهيم، أحد المحامين الداعين لسيادة القانون إن "الممارسة الإسلامية الصحيحة هي جعل العقاب آخر وسائل إصلاح الشخصية، وليس أولها". وأجرى القاضي يوسف عبد الله الطيب مسحا عشوائيا لمن حُوكموا أمام "محاكم العدالة الناجزة" في محاولة منه لمعرفة إن كان الإصلاح الاجتماعي (وليس الردع المادي بالعقوبات) هو السبيل الأقوم لمجابهة الجريمة في البلاد. ووجد ذلك القاضي أن غالب الأفراد الذين شاركوا في المسح (43 فردا) كانوا يعانون من مشاكل نفسانية (مثل القلق)، والعطالة عن العمل (مع رغبتهم فيه)، والتشرد وعدم التعليم. وكان كثيرا من هؤلاء ممن هربوا من مناطقهم في الريف بسبب المجاعة. ولاحظ الاخصائي الاجتماعي نور الدين مدني في مقال له صدر عام 1972م في "مجلة السجون" اتجاها (جديدا) في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لتنفيذ عقوبات بدنية حادة ظاهرة للعيان للمدانين بجرائم مثل السرقة، حتى في غير الدول المسلمة. فبعض تلك الدول تعلق اللصوص على المشانق في الميادين العامة، بينما كان بوكاسا ديكتاتور دولة أفريقيا الوسطى يكتفي بقطع آذانهم اليمني. ودعا مدني للأخذ بالإصلاح الاجتماعي لمجابهة ذلك الاتجاه. وعلى عدد من المستويات، يشير قيام نميري بإعادة تلك العقوبات بأنه لم يكن بقصد بالفعل إقامة نظام قضائي إسلامي عادل، ولكنه كان (مثله مثل بوكاسا، وغيره من الزعماء في العهود الاستبدادية قبل عصر التنوير) طاغية مادي يريد أن يظهر سطوته وقبضته على من يحكمهم. وأشار الكثير من الخبراء السودانيين والأجانب إلى عدد من الأمثلة لبعض الأحكام التي صدرت بموجب تلك القوانين، وكانت على خلاف ما هو منصوص عليه في كتب الشريعة المعتبرة (مثل حد السرقة الذي طبق دون استيفاء من شروط إقامة ذلك الحد). وفي مقابلة لجوديث ميللر مع حسن الترابي (ورد ذكرها بصفحة 78 في كتاب ريتشارد كوكيت Darfur and the failure of an African State الصادر في 2010م) ذكر ذلك الأب الروحي للإسلامية السودانية ما يفيد بأن تفكير مُشرعي تلك القوانين كان متأثرا بأفكار عنصرية، ومتماهيا مع النظم الديكتاتورية في الخارج (خاصة أفريقيا) بأكثر من تماهيه مع الفقه الإسلامي الأصولي. وقال أيضا: "في زائير وغيرها من الدول الإفريقية .... يُصلب اللصوص أو يُضربون حتى الموت. لذا فإن القطع والجلد أمر معتاد عند الأفارقة". وأطلق نميري بعد إعلانه للقوانين الإسلامية سراح 13,000 من المساجين غير السياسيين. وكان ذلك مصدر قلق عظيم عند المعنيين بمكافحة الجريمة. ورغم ذلك لم يطالب الإسلاميون في عام 1983م بالتخلي عن السجون بالكلية. وكتب أحدهم (عمر محمد الحاج) في "الصحافة" مقالا ذكر فيه أنه لا مكان للسجون في المجتمع الإسلامي، ولكن غدا وجودها أمرا مفروضا عليه". وضرب لذلك مثلا بعهد معاوية (ورد في رسالة ماجستير للباحث عبد الله آل حويس ذكر لتاريخ السجون في الإسلام، جاء فيها أن اتخاذ السجن في الإسلام إنما كان بعد عهد الخليفة الأول. انظر الرابط goo.gl/qXx7zh . المترجم). وورد في مقال بمجلة سوداناو (عدد يناير 1986م) أن من عيوب النظام العقابي الذي أدخله نميري هو فقدانه للقدرة على "الإصلاح والتهذيب"، وما يخلفه من وصمة اجتماعية للمدان تشكل عقبة كَأْدَاء أمام إعادة إدماجه في المجتمع. ويمكن في الختام القول بأن "أسلمة" الممارسات العقابية في عهد نميري قد عُرفت بسياقاتها الثقافية والاقتصادية والسياسية المباشرة بأكثر من أي التزام صارم بقواعد ومعايير ومبادئ الشريعة الإسلامية. السجناء السياسيون قابل التحول عن استخدام السجون لكبح وإصلاح المساجين التقليديين من الجانب الآخر تحول تجاه المزيد من سياسات عقاب بدني رادع وعنيف للسياسيين. وكتب جان فرانسوا بايارت (مدير دراسات في المركز الوطني للبحوث العلمية وأستاذ السياسة الأفريقية في معهد الدراسات السياسية في باريس) عن سرعة تغير السياسة في الدول الإفريقية بصورة تكاد تكون يومية، وعن أن "العقوبة بالسجن لمدة طويلة في بعض تلك الدول قد تكون أقرب أحيانا للإدانة مع وقف العقوبة". وكان بعض المسجونين السياسيين في السودان يستغلون فترة سجنهم كفرصة سانحة لكتابة مواد جديدة، أو إعادة حسابات استراتيجياتهم، أو تدبير تحالفات جديدة، وهم شبه متيقنين من أن الوضع (السياسي) سيتغير تماما في وقت وجيز. وبالنظر إلى عدم فعالية حبس السياسيين كوسيلة ردع لهم، زادت الأنظمة الحاكمة (خاصة في سنوات نميري) من قمعها بإطلاقها يد الأمن لتبني سياسات واستخدام وسائل أشد وحشية تجاه السياسيين. غير أن أمن السجون في كل عهود ما بعد الاستعمار ظل مساميا (porous)، لذا لم يجد السجناء من الساسة صعوبة كبيرة في اختراقه، والحصول على معلومات سياسية في غاية الأهمية أثناء زيارات الأهل والأصدقاء، وحتى من الحديث العابر مع المساجين "المضمونين" وبعض جنود وضباط السجن، أو باستخدام شفرة مورس الدولية (التي تستخدم في كتابة البرقيات، وعند هواة اللاسلكي) أو برمي كرة محشوة بالأوراق من فوق سور السجن (كما ورد في صفحة 318 من كتاب (أسرار جهاز الأسرار) لمحمد عبد العزيز وهاشم عثمان أبو رنات. وورد في ذات الكتاب أن المدعي العام اشتكى في عام 1985م لمدير سجن كوبر من ضعف إجراءات الأمن بالسجن، فأجابه المدير بأن السبب هو قلة الإمكانيات بالسجن، وأن على المدعي العام أن يدرك ذلك باعتباره كان أحد نزلاء ذلك السجن قبل وقت قصير! وكان بإمكان المسجونين السياسيين أن يشتروا – بطريقة غير رسمية - مزيدا من الطعام عن طريق حراس السجن، رغم محاولات نميري الجادة لوقف تلك المخالفة. وعلى الرغم من أن حراس السجن في عهد نميري كانوا ملزمين بالتشدد في منع دخول المطبوعات (خاصة الشيوعية) لداخل سجن كوبر، إلا أنهم كانوا يتساهلون في ذلك الأمر. وكمثال على ذلك ذكر محمد سعيد القدال في كتاب له عن أيامه في سجن كوبر أن حارس السجن صادر منه كتابا عن الماركسية باللغة العربية، بينما سمح له بالاحتفاظ بكتاب "رأس المال" لماركس باللغة الإنجليزية. ورغم ذلك، يجب القول بأن حراس السجن لم يكونوا قط حريصين على إنفاذ التعليمات المشددة المُضيِّقة على المساجين ومعاداتهم (سياسيا)، إذ أنهم، كما ذكر القدال، كانوا يتحسبون ليوم يتغير فيه فجأة المناخ السياسي، ويمكن أن يفرج فيه عن بعض أولئك المساجين، بل ويدخلوا في الحكومة. ولم يكن عصيا على الساسة المسجونين إحباط محاولات نظام نميري منعهم من استغلال مناخ السجن في ممارسة الأنشطة الثقافية والسياسية فيما بينهم، ومع المساجين الآخرين كذلك. بل غدا السجن مكانا للمفاوضات بين المسجونين من أحزاب وجماعات مختلفة، وعقد تحالفات واستراتيجيات مستقبلية مشتركة. وكان رئيس الوزراء الأسبق محمد أحمد محجوب قد أشار في كتاب مذكراته إلى أن ذلك حدث بالفعل في الستينيات بجوبا، حين اعتقل نظام 17 نوفمبر (بقيادة إبراهيم عبود) قادة غالب الأحزاب السياسية الكبيرة ونفاهم إلى جوبا، وفي ذلك المعتقل توصل قادة حزبي الأمة والوطني الاتحادي إلى أنه لا توجد فروقات جوهرية بين أهداف حزبيهما، وأنهما يمكن أن يندمجا (أو يتحالفا) في المستقبل. وهذا ما حدث لاحقا بالفعل. وذكر القدال أن المسجونين الشيوعيين أفلحوا في تهريب أقلام وأوراق لداخل سجن كوبر وشرعوا في إصدار مجلة من عشر صفحات تناولت العديد من المواضيع السياسية والاقتصادية وغيرها، وأقاموا العديد من الندوات المفتوحة للنقاش العام، رغم خطورة ذلك، بالنظر إلى وجود عدد من جواسيس الأمن (أسماهم بـ "الغواصات") المندسين في أوساط المساجين. وقد عُوقب القدال ذات مرة بالسجن الانفرادي عقب محاضرة ألقاها في السجن. وكنتيجة لتلك الأنواع من النشاطات، آثر النظامان العسكريان الأول والثاني إرسال المساجين السياسيين إلى مناطق طرفية بعيدة في مختلف أنحاء السودان، خاصة في جنوب البلاد (مثل رمبيك ويامبيو وجوبا)، ومنعت عنهم الصحف وأجهزة الراديو وزيارات الأهل والأصدقاء. واستخدم المسجونون في بعض الأحيان سلاح الإضراب عن الطعام لإرجاعهم للخرطوم. ويبدو أن سوء المعاملة في سجون نميري وقع أكثر ما وقع على الساسة الشيوعيين، فقد كانوا يرسلون لسجون من الدرجة الثالثة مثل شالا بدارفور، ولقي بعضهم حتفه نتيجة للإهمال في علاجهم من أمراض القلب أو الكلى، مع ملاحظة أن كل المعلومات عن ذلك أتت من الشيوعيين أنفسهم. ووثقت بعض المصادر الحزبية في عهد مايو لوسائل التعذيب التي استخدمت لترهيب المعارضين السياسيين وردعهم. وشملت تلك الوسائل الصعق بالكهرباء، والحرق بأعقاب السجائر، والتجويع، والضرب المبرح، وغير ذلك. إلا أن معظم حالات التعذيب وقعت على يد جنود في زنازين الأمن، وليس في السجون الرسمية، كما أورد ذلك الصادق المهدي في "جهاد من أجل الديمقراطية". وانتقدت جهات عديدة نميري لإفراجه عن جميع السجناء بالبلاد في عام 1983، واستبقاءه لأكثر من 500 سجين سياسي خلف القضبان. ولكن ذكر في مجلة سوداناو الصادرة في أكتوبر 1983م أن هؤلاء السجناء السياسيين سيلقون معاملة أفضل في سجونهم من ذي قبل. ولا شك أن الحبس في السجون الرسمية كان أفضل للمعتقل من البقاء في زنازين الأمن، لأن المعاملة في السجون الرسمية كانت نسبيا أكثر إنسانية. وكانت معاملة الأنظمة الحاكمة السودانية وأجهزتها الأمنية للسجناء السياسيين تختلف بحسب أوضاعهم السياسية والاجتماعية. فقد كان النظام وأجهزة أمنه يعاملون السياسيين الذي تحتفظ معهم بعلاقة متضاربة أو ملتبسة (ambivalent)، وليست شديدة العداء، بطريقة ألطف من غيرهم، خاصة إن كانوا من طبقة اجتماعية عالية. ولهذا سمح النظام للصادق (حفيد محمد أحمد المهدي) عند اعتقاله في شندي عقب انقلاب نميري عام 1969م بلعب البولو مع أصدقائه، فيما وصفه محمود محمد قلندر في كتابه "سنوات نميري" بـ "عطلة استجمام". ويبدو أن التراتيبية الاجتماعية خارج السجن كانت تُراعى داخله أيضا، تماما كما كان يحدث في العهد الاستعماري. وذكر عبد العزيز وأبو رنات (ضابطا الأمن في عهد نميري) بأن إدارة سجن كوبر أحضرت لضباط الأمن المعتقلين به عقب الإطاحة بنميري في 1985م، عددا من المساجين الآخرين لينظفوا لهم الحمامات ويغسلوا ملابسهم. ولكن لم توفر مثل تلك الخدمة لمدبري انقلاب مايو ومتمردي الجنوب. بل بعث بالجنوبيين المتمردين لسواكن للعمل في مصنع للصابون شيدته إدارة السجن هنالك. ولاقى المتمردون الجنوبيون (خاصة الذين أسروا في الحرب الأهلية الثانية) مصيرا أسوأ، إذ كانت قوات الشمال قد توقفت عن أسرهم، وكانت تعدمهم بعد محاكمات إيجازية ميدانية (بحسب ما أورده دي فال وعبد السلام في كتابهما عن المجتمع المدني ومستقبل السودان، الصادر عام 2001م) الخلاصة حاول هذا المقال أن يضع التَحَوُّل عن سياسة إصلاح / إعادة تأهيل سجون السودان في سياقه السياسي والاقتصادي والأيديولوجي. وعوضا عن التركيز على نظرة الحكومات السودانية تجاه المُثل العليا للإصلاح في السجون بحسبانها إعادة تأكيد للقيم الثقافية السودانية والإسلامية، يذهب المقال إلى أن سياسات السجون التأهيلية تلك كانت تُري من منظور إسلامي بحت. ولم يذعن الجيل الأول من مسؤولي السجون الوطنيين ببساطة إلى التدهور البطيء الذي حاق بنظام السجون السودانية الذي أقامه الاستعمار في أواخر سنواته بالسودان، بل حاولوا تطبيق مُثل وقواعد وسياسات نادى بها من سبقهم من المسؤولين الاستعماريين، ولم يمارسونها فعليا إلا نادرا جدا. غير أن عواملا كثيرة وقفت عائقا أمامهم، شملت ضيق سعة السجون، وضعف البنية التحتية، والوصمة الاجتماعية المصاحبة للسَجْن، والتردي الاقتصادي العام الذي دَهَى البلاد في أخريات السبعينيات. ومنذ تلك السنوات بدأ تعثر المد الإصلاحي، وزاد الوضع سوءً بسبب إدخال رئيس النظام المايوي، تحت شعار الإحياء الإسلامي، مزيدا من العقوبات البدنية البديلة التي جنحت للاقتصاص والردع المفرط. وعلى الرغم من أن قوانين نميري الجديدة قد وُصفت بأنها وسيلة لتحقيق التحرر الثقافي، إلا أنها كانت في الواقع قد أعادت النظام العقابي إلى نظام يشبه ما كان سائدا في سنوات الاستعمار (الباكرة). فمن وضعوا قوانين سبتمبر (الإسلامية) عام 1983م كانوا يرون، مثلهم مثل مسؤولي العهد الاستعماري، أن عقوبة السجن لسنين طويلة ضررها أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِا، وأن المساجين يجب أن يبعدوا عن مجتمعاتهم، وأن تسوية بعض القضايا بدفع الديات والعقوبات البدنية هي حلول أكثر عملية من السجن. وكان هذا يعكس أيضا اتجاها واسعا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يميل نحو نظام عقابي بدني ويبتعد عن النظام الإصلاحي. وأرتبط شعار "الإحياء الإسلامي" في ظل النظام المايوي برغبته العارمة في النجاة والبقاء سياسيا، وبنظرة عنصرية قُحّة للأعمال الإجرامية. وقد فُرضت تلك القوانين رغم معارضة مجموعة كبيرة من المحامين والعاملين بالسجون، الذين كانوا يرون أن المجتمع الإسلامي به سعة وإمكانية لتقديم أشكال من العدالة أقل اقتصاصا (مما ورد في قوانين سبتمبر). وفي ذات الوقت أظهر تحول الدولة لاستخدام وسائل وطرق مادية ردعية (قاسية) ضد سجنائها المعارضين السياسيين نفورها الشديد من أشكال السيطرة الأخرى الأقل عنفا.