أول رشفة من ماء النيل (1) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 





أول رشفة من ماء النيل (1)

من مذكرات باتريك كولنسون أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم في الخمسينات

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة لشذرات متفرقة ومختصرة من فصلين عن السودان وردت في مذكرات البروفسيور الإنجليزي باتريك كولنسون (1929 – 2011م) والتي أعطاها عنوانا طويلا هو: "تاريخ رجل التاريخ أو نظرة إلى القرن العشرين من مسافة آمنة". عمل البروفسيور لبضع سنوات في جامعة الخرطوم في منتصف الخمسينيات، حيث كان يكمل أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، ثم عمل من بعد ذلك في جامعات جامعات لندن وسيدني وكيمبردج وشيفيلد. يعد بروفسيور كولنسون حجة في التاريخ المسيحي في العصر الإليزابيثي.
صدرت المذكرات في عام 2007م وهي مبذولة في الشبكة العنكبوتية، وضمنها المؤلف كثيرا من الصور النادرة والفريدة عن السودان، مثل حفل تخريج طلاب جامعة الخرطوم في عام 1959م في حضور أعضاء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وصورة تضم عدد من طلاب الجامعة و كتب عليها تفسيرا ساخرا هو "تقسيم بالغ الدقة لمجموعة من طلاب جامعة الخرطوم: ثلاثة  طلاب من شمال السودان وطالب جنوبي واحد وطالبة شمالية واحدة وطالب أغريقي وحيد". تسود غالب ما سطره المؤلف عن أيامه بالسودان روح الدعابة والسخرية السوداء، بيد أنه يؤكد في أكثر من موضع اهتمامه وحبه للسودان وأهله، وينتقد بمرارة عشيرته الإنجليز على ابتعادهم عن حياة سكان البلاد الأصليين وعزلتهم المجيدة في "نادي السودان" الذي تقتصر عضويته عليهم.  المترجم
************           *****************
بدأت في سبتمبر من عام 1956م في جمع ما سأحتاجه من ضرورات الحياة في الخرطوم... حقيبة صفيح سوداء، وسراويل (أردية) قصيرة وجوارب طويلة تصل للركبة. وفي السابع والعشرين من ذات الشهر كنت وللمرة الأولى في حياتي على متن طائرة الخطوط البريطانية المتجهة لأستراليا وغالب ركابها من المهاجرين البريطانيين مع عدد من الرياضيين المشاركين في اولمبياد مليبورن بستراتهم المميزة. توقفت بنا الطائرة في روما ثم في القاهرة حيث كان بإمكاننا أن نرمق الأهرامات من عل. في القاهرة تحولنا لطائرة داكوتا تابعة للخطوط الجوية السودانية توقفت بنا في مطار حلفا. لن أنسى ما حييت تلك السموم التي لفحتني عند نزولنا في مطار حلفا... لا شيئ يشبه ذلك الهواء الملتهب غير ما يلفح وجهك عندما تفتح باب فرن مشتعل.
وصلنا للخرطوم واستقبلني في المطار آلان ثيوبولود وهو زميل قديم متخصص في تاريخ السودان. عند خروجنا من المطار لاحظت لافتة كبيرة مكتوب عليها: "مرحبا في السودان: جنة الصيادين"... قال لي زميلي إنهم كانوا يتندرون على ما هو مكتوب في اللافتة بالقول أن ذلك يعتمد على ما تود صيده! أخذني زميلي للفندق الكبير على ضفاف النيل. في الفندق كان بائعو التحف والتذكارات يصيحون في من يشكون أنه ألماني:  "بسمارك عظيم... هتلر شديد"!
كنت أقضي أمسياتي في فرندا الفندق أكمل كتابة أطروحتي للدكتوراه، والتي كانت زوجتي "إيثر" تحث والدتي كي تحضني على إكمالها، وكأنني كنت في حاجة لذلك. كنت في الواقع مصمما على تقديم الأطروحة عند عودتي في العطلة السنوية في صيف 1957م، وقد نجحت في ذلك المسعى بالفعل رغم كل شيئ، فكم كنت أقضي الساعات الطوال في الكتابة والقراءة في حم الظهيرة والناس نيام. كنت أحيانا أعجب مما أفعل وأنا أكتب عن تاريخ العصر اليزابيثي وأنا محاط بكل ما هو في غاية الغرابة والبعد ما ألفته... القطط الضالة فوق سطح الغرفة، والعناكب تعدو على أرضيتها، والوزغات (السحالي) تتخير طعامها المفضل من ما هو أمامها من عشرات الحشرات، والنموس تجوس في مسطح  الحديقة الأخضر،  بينما مروحة السقف تدور بطنينها المزعج وتجبر المرء على وضع أثقال من الحجارة على الأوراق كي لا تتطاير في كل مكان. الجلبة  في الخارج لا تطاق، والرجال بعمائمهم وجلابيبهم البيضاء الطويلة يجيئون ويذهبون أو يركضون صعودا وهبوطا على ظهور الحمير.
منحتني الجامعة بيتا صغيرا كان في السابق أحد مساكن الجنود ، ويجاور بناية تسمى "السراية الصفراء" كان قد بناها زعيم ديني من أصل هندي على ضفاف النيل الأزرق (لعله يقصد "الشريف الهندي" وهو ليس بهندي. المترجم) تقع بالقرب من محطة توليد الكهرباء في بري، وكانت مقرا للإمبراطور هيلاسيلاسي في أعقاب غزو إيطاليا لإثيوبيا عام 1941م. كان بذلك المبني ملعب للأسكواتش وكنا نمارس تلك اللعبة ليلا تحت الأضواء الكاشفة حتى قبيل منتصف الليل. قضيت أياما أشد الرحال لأمدرمان لشراء أثاثات خشبية من النجارين، وللحصول على خادم يقوم على شؤوني. طلبت من أحد النجارين أن يصنع لي سريرا وكرسيين وثيرين وأريكة وطاولة قهوة وطاولات صغيرة وكراسي متحركة لأضعها في  الفرندا. طلب ذلك النجار إمهاله عشرة أيام لصنع ما أردت وبتكلفة إجمالية قدرها خمسون جنيها.  كذلك عثرت على خادم لي هو شاب نوبي من جهة دنقلا اسمه محي الدين، سيتولى خدمتي في كل شيئ من غسيل وطبخ وذلك للسنوات الخمس القادمة. كلما تذكرت المرتب الذي كنت أمنحه لمحي الدين تصيبني عقدة الذنب، فقد كنت لا امنحه أكثر من جنيهين اسبوعيا. لم أكن أعلم شيئا عن كيفية معيشة ذلك الشاب وعائلته الصغيرة التي كانت تتكون من زوجته وطفله الصغير.
كان السودان قد نال استقلاله للتو من بريطانيا ومصر في يناير 1956م، وكان من بقي من البريطانيين يداومون على قراءة صحيفة "الجاردين" ربما لاقناع أنفسهم بأنهم لا يعيشون ولا يعملمون في بلد مستعمر! حرصت على أن لا أقرب "نادي السودان" والذي تقتصر عضويته على البريطانيين. غير أن طابع حياتنا كان ما زال –  حتى بعد استقلال السودان- استعماريا بحتا. كتبت لزوجتي أقول لها ذات مرة: "الغالبية  العظمى من الانجليز هنا ، ويشمل ذلك الأساتذة في الجامعة، لا يعنيهم من أمر هذه البلاد أو سكانها شيئ، فهم يعيشون في عزلتهم المجيدة في وسط مجتمعهم الضيق." أقول هذا رغم أن أكثر من نصف الأساتذة كانوا من السودانيين. كان البعض يتهم من يحاول منا كسر الحاجز الجليدي بين الطرفين بأنهم "سودانيين بيض"، وأننا نحاول تملق الوطنيين للحفاظ على وظائفنا. يجب القول بأنه كان لنا بعض الامتيازات فمثلا لم نكن نقف في طابور المصرف أو مكتب البريد، ولم نكن نحتاج كذلك  لمعرفة اللغة المحلية، فمعرفة القليل منها يكفي للتبضع في السوق، بينما كان التدريس يتم باللغة الانجليزية. كنا نستمتع بالزيارات المتبادلة مع الزملاء البريطانيين وغيرهم من الأجانب وبالسباحة في مسبح نادي طلاب الجامعة والذي خصص لنا فيه مساء يوم واحد في الأسبوع. أقمنا  فيه ذات مساء حفلا للشواء (باربيكيو) واحتساء البيرة، فأتانا جمع غاضب من المتظاهرين من الطلاب المحافظين المسلمين يحتجون على ما كنا نفعله. عندما أخبرناهم بأننا قد تحصلنا على إذن رسمي لإقامة حفل ردوا بالقول بأنهم لم يكونوا يعلمون بأن الإذن قد منح لإقامة "حفل غير أخلاقي فيه خمر ونساء". فهمت بعد ذلك أن الحفلات على ثلاثة أنواع: رسمية وغير رسمية وأخيرا "غير أخلاقية"!
كان عدد طلاب جامعة الخرطوم (والتي ولدت مع ميلاد جمهورية السودان المستقل في 1956م) لا يتجاوز 1200 طالب كلهم عدا 40 – 50 من طلاب شمال السودان العرب المسلمين. كان أفضل طلابنا القادرين على استيعاب ما نقوم بتدريسه هم من الجنوبيين المسيحيين الذين كانت معرفتهم باللغة الإنجليزية أفضل من غيرهم نسبة لتلقيهم دراستهم على يد المبشرين المسيحيين (علمت من طالب سابق لهذا البروفسيور أنه كان يدرس مادة "تاريخ العصور الوسطى"، وكانت من أصعب المواد وأكثرها جفافا، ويزيد صعوبة النجاح فيها هو بخل البروفسيور الشديد في إعطاء الدرجات. المترجم). ذات مرة أتاني طالب في إحدى الدفع التي كنت أقوم بتدريسها (وعدد الطلاب في تلك الدفعة كان خمسة فقط) وكان يرغب في استعارة كتاب معين. أخبرته أني قد أعرت قبل أيام ذلك الكتاب لطالب اسمه "هيلري نايقولو بول" (والذي صار وزيرا في إحدى الوزارت في عهد من عهود الديمقراطية قصيرة الأجل)، فرد قائلا: "هيلري بول... هل تقصد ذلك  العبد؟"... من مثل هذه العقلية بدأ الطور الجنيني للتاريخ السودان التراجيدي الطويل. قال لي زميل يحمل درجة الدكتوراه وهو ينظر إلى صورة رجل جنوبي ينشر شبكة صيده في النهر : "انظر ما فعلت الامبريالية ببلادنا! هذا الرجل يسير عريانا بين الناس ويصيد السمك."
ذات عام وفي احتفال اليوم المفتوح لإتحاد الطلاب كان من المقرر أن يتحدث ضمن المتحدثين الآخرين طالب قانون جنوبي اسمه أبيل ألير كيواي. انسحب أبيل في اللحظات الأخيرة إذ أن لغته العربية كانت في غاية الضعف، وكان هذا مصدرا للسخرية من جمهرة الطلاب. عند المساء رأيته في النادي فعرض أن يأتيني بمشروب. عاد وبيده زجاجة كوكاكولا فرآني اتجاذب أطراف الحديث مع مجموعة من الطلاب الشماليين فآثر الانسحاب بهدوء. معلوم بالطبع أن الرجل صار في ما أقبل من أعوام وزيرا ثم نائبا للرئيس بين أعوام 1971 – 1982م، وصار شخصية عامة يشار إليها بالبنان، وشارك في عام 2005م في محادثات السلام بين الشمال والجنوب. كان بالفعل من أفضل ابناء جيله.
كان كل الطلاب في الجامعة من الذكور خلا 30 من الإناث، حيث كن يسكن في داخلية منفصلة تقوم عليها سيدة إنجليزية صارمة في منتصف العمر اسمها نانسي مولر، كنت ضمن مشيعي جثمانها بعد سنوات من عملها في السودان إثر اصابتها بداء التهاب الكبد. الطالبات يرتدين الثوب السوداني الأبيض في غالب الأوقات عدا في ساعات الدراسة العملية في المختبرات حيث كن يخلعن ثيابهن ويرتدين المعاطف البيضاء، وكان ذلك مما يثير اهتمام الطلاب! كنا نقوم بالتدريس من السابعة حتى التاسعة، وبعد ذلك يذهب الطلاب لتناول الإفطار ويعودون عند العاشرة لمواصلة المحاضرات حتى الثانية ظهرا. تعود الحياة للجامعة بعد ذلك  عند الخامسة مساءا حين نبدأ محاضرات أخرى. كنت أحاضر الطلاب دوما بنوع من البطء، ولكن رغم ذلك كانوا يكثرون من الاحتجاج على أنني أتحدث بسرعة فائقة! كان الطلاب يصرون على كتابة كل كلمة أتفوه بها ليقوموا بإعادتها لي في ورقة الإمتحان كما هي دون زيادة أو نقصان! كان تعليما يعتمد على الحفظ دون غيره من الأساليب الأخرى مثل الفهم والمناقشة والإختيار والأخذ والرد. قلت لهم ذات مرة أننا يجب أن نأخذ ماركس (Marx) على محمل الجد، فسجلها الطلاب في كراساتهم خطأ على أنها (Marks) بمعني درجات، وكانت الدرجات فعلا هي ما كان يشغل بالهم!
كان الطلاب يرتدون في الجامعة  قمصانا بيضاء وسراويل (بناطلين) رمادية اللون، وعندما يخرجون منها في الأمسيات أوالعطلات يرتدون ما هو أكثر راحة: جلابيب بيضاء واسعة. كان الدخول للجامعة بعد تصفيات عسيرة من المدرسة الأولية فالوسطى فالثانوي هو غاية مطمح كل طالب، فقد كانت أشبه بعملية تجارية شديدة الطموح، إذ أن الخريج الجامعي كان لا يهتم أو يبالي بالتفكير في المستقبل، فهو يعلم سلفا بأنه سيحصل على وظيفة ما في إدارة بلاده عند التخرج.
كان العام الدراسي يبدأ من يوليو وينتهي في مارس، وفي النصف الثاني من العام الأكاديمي عادة ما يضرب الطلاب قرب نهاية العام الدراسي. في العام الذي أتيت فيه للجامعة (1956- 1957م) كان سبب الإضراب هو الدعوة لطرد من تبقى من الإداريين البريطانيين (الإمبرياليين) وكانوا ثلاثة: مدير الجامعة مايكل جرانت، والمراقب المالي والمسجل. كان نحو 97% من الطلاب يؤيدون ذلك النوع من الإضرابات عدا غالب طلاب كلية الطب، والذين كانوا يعدون "صفوة" الحرم الجامعي.
دعوت طلابي لتناول الشاي في منزلي ذات مساء، بيد أنهم غادورا المنزل على عجل بعد أن شكروني على الدعوة حتى يتمكنوا من حضور اجتماع عاجل في دار إتحاد الطلاب، ورفضوا في تكتم شديد إخباري بسبب ذلك الإجتماع. في الصباح أتيت بدراجتي الهوائية – كما هي عادتي- مبكرا للمحاضرة الأولى ففوجئت بالقاعة خالية من الطلاب. علمت من أحد الموظفين أن الطلاب قد دخلوا في إضراب عن الدراسة. كان أقصى ما يمكن للجامعة أن تفعله بهم هو أن تصرف لهم بالمجان تصاريح السفر بالقطار إلى مناطقهم التي أتوا منها. بيد أنه بعد عام أو عامين حقق الطلاب إنتصارا باهرا ومجيدا عندما اقتحمت قوات الجيش (الصحيح الشرطة بالطبع. المترجم) الحرم الجامعي وقتلت منهم طالبا، وتسارعت الأحداث من بعد ذلك لتؤدي لسقوط حكومة عبود العسكرية. كان تلك أول مرة في التاريخ الأفريقي تقوم فيها حكومة عسكرية بالإذعان لمطالب الجماهير وتعود بالجيش إلى ثكناته.
لقد عينت في جامعة الخرطوم لتدريس مادة "تاريخ الاقتصاد الانجليزي" والتي كان يقوم بتدريسها السيد/ ويلشرعميد كلية الخرطوم الجامعية قبل أن يعود لبريطانيا للعمل مسجلا في إحدى الجامعات. لم يكن ذلك تخصصي فذهبت إلى مدرسة لندن للاقتصاد لمقابلة بروفسيور جاك فيشر طلبا للنصح والعون. أوصاني الرجل بأن أحصل على كتاب كلافام المعنون "تاريخ إنجلترا الإقتصادي" بمجلداته الثلاثة. حاولت في محاضراتي بث الحياة في تلك المادة الجافة بتدعيمها بوثائق أصلية وصور متفرقة عن الثورة الصناعية والقنوات والسكة حديد والمطاحن وغيرها. ذات مرة كنت أحاضر الطلاب عن بعض النظم الزراعية في العصور الوسطى حين فاجأني طالب اسمه عبد الرحمن بسؤال عما إذا كنت أتحدث عن النظام الذي لا زال متبعا في لاكسيتون في مقاطعة نوتنجهامشير. أخذت على حين غرة وأجبت بالإيجاب. تبين لي أن والد عبد الرحمن واحد من الأثرياء الذين يعملون في مجال الأصداف التي تصنع منها أزرار القمصان، وقد استضافني ذات مرة في بورتسودان. كان الرجل قد بعث بولده عبد الرحمن لقضاء عام كامل في كلية ريجنت استريت، والتي أرسلته مع آخرين في رحلة علمية إلى لاكسيتون. يجب القول بأن مثل تلك المفاجآت كانت نادرة الحدوث في قاعة المحاضرات!
في عامي الأول لم يكن الطلاب يلقون بالا لمحاضراتي ولم أدر ما السبب حتى ذهبت ذات يوم لمخزن الجامعة من أجل الحصول على شئ ما فوجدت أعدادا من مذكرات السيد ويلشر (من خلفته في تدريس مادة "تاريخ الاقتصاد الانجليزي")، وفيها من الخزعبلات ما كنت أجاهد في محاضراتي لإزالته من عقول الطلاب. كانت تلك المذكرات ما زالت توزع على الطلاب الراغبين. لا بد أنهم كانوا يرون أن مذكرات عميد كلية الخرطوم الجامعة أغزر علما وأشد نفعا من محاضرات شاب غرير متعين لتوه في الجامعة.  بعد ذلك عهد إلي بتدريس تاريخ العصور الوسطى في أوروبا وتاريخ بريطانيا الدستوري المعاصر وحتى تاريخ أفريقيا. كان حظي من التوفيق في تلك المواد أفضل قليلا من حظي مع ما كان السيد/ ويلشره يدرسه!
من أغرب التجارب التي مررت بها في السودان هي زيارتي ذات مساء مع زميل لي لساحة المولد بأمدرمان (ومساحتها تعادل عشرة أضعاف مساحة ميدان الطرف الأغر بلندن) حيث ذهلت من الأعداد الهائلة من رجال الطرق الصوفية وهم يضربون النوبات ويرجحنون وكأنهم في غيبوبة ونشوة صوفية عميقة ويرددون بلا انقطاع وعيونهم مغمضة كلمة "الله الله الله". في السودان طريقتان رئيستان هما الختمية (وزعيمها السيد/ علي الميرغني)  والأنصار (وزعيمها السيد/ عبد الرحمن المهدي). يطلق على كل طريقة من الطريقتين كلمة "طائفة sect" ، وهذه الكلمة لا تعبر تعبيرا دقيقا عن معنى الكلمة الحقيقي، فمعناها أعمق من ذلك بكثير. دلفت وصاحبي نحو سرادق الأنصار حيث وجدناه بالغ الفخامة والبهاء وتكسو أرضيته عشرات من فرش السجاد الناعم. كنا الأروبيين الوحيدين في المكان فأحسن راعي السرادق استقبالنا وأخبرنا بأن السيد/ عبد الرحمن المهدي كان قد غادر المكان لتوه، وأجلسني على الكرسي الذي كان يجلس عليه سيده كنوع من التكريم، وأمر لكلينا بالمرطبات. قال لنا في حماس: "نحن نشرف بزيارتكم لنا. سأخبر السيد / عبد الرحمن بأن اثنين من بروفسيرات الجامعة  - الذين يعلمون طلابنا- قد زارا سرادقنا وجلس أحدهما على كرسيه." في الخارج كانت هنالك ملايين الثريات الكهربائية الصغيرة، والبالونات الملونة وسحابة كثيفة من الغبار الناعم، ومئات الأطفال وهم يحملون في جزل "عرائس المولد" السكرية الوردية اللون. كانت بالحق ليلة تشبه ليلة من ليالي "ألف ليلة وليلة".
في ما أقبل من شهور صرت مدرسا خصوصيا للإبن الأكبر لراعي الطائفة الأخري...طائفة الختمية  واسمه محمد عثمان الميرغني.  الآن محمد عثمان الميرغني هو راعي الطريقة الختمية وزعيم جناحها السياسي "الحزب الإتحادي الديمقراطي". يتمتع الرجل بعلاقة "غير مريحة" بعض الشيء مع النظام العسكري القائم الآن، إذ أنه كان قد سجن ونفي لمصر ثم غدا رئيسا للتحالف الوطني الديمقراطي، بيد أن الحكومة الحالية أفلحت في جعله يعبر للضفة الأخرى. كتبت لزوجتي عند تعييني معلما خصوصيا لمحمد عثمان قائلا إن ذلك يعادل تعييني مدرسا خصوصيا لابن البابا... هذا بالطبع إن كان هنالك بابوين وأحدهما قد رزق بولد! خصصت العائلة منزلا فخيما في أحد ضواحي العاصمة لتكون مقرا للحصص التي طلب مني أن أقدمها لمحمد عثمان الميرغني والتي كانت عن "التاريخ الأوربي المعاصر" تحضيرا لإمتحان الشهادة الثانوية العليا. أثثت غرفة التدريس  على طراز "الإمبراطورية الثانية" ولكن بصورة متقشفة،  وكانت – كما ذكرت لزوجتي في أحد الخطابات -  أقرب لغرفة تبديل الملابس في كنيسة صغيرة غنية، ولا ينقصها غير صور القساوسة السابقين معلقة على الجدران. كانت تقلني لدار السيد الميرغني سيارة من طراز كاديلاك ثلاثة مرات في الأسبوع، وكانت كتبه المدرسية (القديمة الطبع) تأتينا في الغرفة بطريقة احتفالية يحملها خادم صموت. كنت أشعر بالأسى على طالبي محمد عثمان وهو في زيه التقليدي الثقيل، فهو لم يذهب لأي مكان في العالم، بينما كان أبناء عائلة المهدي يتعلمون في الجامعات البريطانية ويرتدون الملابس الأوربية.
كلنا يعلم ما جرى في نوفمبر من عام 1956م في السويس. صادف اليوم الذي قصفنا فيه السويس يوم الافتتاح الرسمي لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وكان ذلك يوما مشهودا حضر فيه للجامعة عدد من الوزراء.  كان الطلاب يستمتعون بتعداد الأخطاء اللغوية التي يقع فيها من قاموا بمخاطبة الحفل، ويبدو أن أحدا لم يسلم من تلك الأخطاء! كان على بروفسيور قرانت (وهو يجهل العربية) أن يستمع في صبر لعشرات الخطب الحماسية التي تدين اسرائيل وبريطانيا، وكان عليه أن يرد على كل ذلك! كان الطلاب قبل ذلك المساء يسألونني عما إذا كان "إيدن" (رئيس الوزراء البريطاني حينها) سيفعلها، وكنت أجيب بالنفي. لاحقا في ذلك المساء في "السراية الصفراء" علمت من نشرة الأخبار في البي بي سي أنه فعلها، وكنت أتخيل سماع  أصوات تلك القنابل وكأنها ستصيبني في بري.
بقينا في أمان، خلافا لما حدث لكثير من البريطانيين في أرجاء العالم العربي. ظل الطلاب على ذات تهذيبهم الشديد نحونا (حتى وهم في ملابس التدريب العسكري تطوعا للقتال في السويس)، بيد أن معاملتهم لنا غدت باردة نوعا ما. ولكن حدث في مرة واحدة أن ترجل واحد عن سرج دراجته الهوائية وهتف في وجهي بسقوط إيدن. عمت المظاهرات المعادية لبريطانيا وسط العاصمة وأمام سفارتنا، وكنت أرى وأنا في طريقي لمنزلي الجنود في حالة استعداد وهم يحرسون محطة بري الحرارية. انقسم الأساتذة الأجانب في الجامعة ما بين مؤيد ومعارض للحرب، مثلما انقسم مجلس الوزراء البريطاني في 10 شارع داوننق. كنت أتشارك في المكتب مع أستاذ للغة الإنجليزية أصله من ويلز، وكان مؤيدا متعصبا للحرب، بينما قمت أنا وآخرين بكتابة خطاب إلى صحيفة الجاردين في مانستشر ندين الحرب ونصفها بأننا نراها مخطئة من حيث نقف. بعد أيام وجدنا اسمائنا في قائمة بيضاء في السفارة المصرية بالخرطوم، وتم منحنا تأشيرات دخول لمصر...يا للحظ السعيد! كانت أيام الحرب تلك مقلقة لأمي لأن أختي هيلدا كان تعمل في مدينة الناصرة كمبشرة، وكان أخي بيرنارد وزوجه يعملان كمبشرين في جبال بلاد القبايل بالجزائر.
في عطلة عيد الميلاد (الكريسماس) طفنا من بيت لبيت ونحن نؤدي التراتيل المعتادة، ودعانا السير إيدون شابمان اندروز سفيرنا في الخرطوم لتناول المشروبات في حفل أقامه في دار السفارة. وقفت بجانبه وقلت له إنه لا بد أن يكون قد مر بأيام عصيبة، فرد بالقول : "نعم، ولكن الحمد لله لدينا رئيس وزراء من الطراز الأول". لم يكن السفير يعني إيدن بل كان يقصد عبد الله خليل رئيس وزراء السودان. عرضت دور السينما في الخرطوم أفلاما تدعي أنها تقدم دلائل أكيدة على إسقاط المصريين لمئات الطائرات البريطانية. قال لي زميل سوداني يحمل درجة الدكتوراه متسائلا: "لماذا تصرون على موقفكم وقد خسرتم 700 طائرة حربية وثلاثين ألفا من الجنود؟"! كان ما عرض في دور السينما يومها هو من أفلام الحرب العالمية الثانية، ونجح سفيرنا في الخرطوم في سحب تلك الأفلام بعد أن هدد بعرض أفلام  بريطانية تظهر ما حدث فعلا. نجحت حكومة عبد الله خليل في مقاومة دعوة المعارضة (المدعومة من قبل المصريين) لطرد كل العاملين في السودان من البريطانيين (وكان هذا سيشملنا بالطبع). رغم ذلك بقينا على أهبة الاستعداد للرحيل في أي وقت!
مع بداية العام التالي (1957م) زار الخرطوم نائبنا في مجلس العموم عن دائرة ابشيوتش السيد ديك استوك، وهو رجل اشتراكي التوجه وكاثوليكي الديانة، وكان صديقا للعرب وله معهم مصالح تجارية. قدم النائب محاضرة في "دارالثقافة" أوضح فيها أن مصر قد خسرت حرب السويس وفقدت فيها الكثير، وإنه من الأفضل لها مواجهة تلك الحقيقة. أعجبت بالرجل وهو يصرخ بصوته الجهوري في وجه شاب غرير من أحد طلابنا الثوريين قدم له سؤالا مطولا جدا ويقول: " صَهْ Shut up!. لقد استمعت إليك بما فيه الكفاية. دعني أرد عليك الآن." بعد شهور قليلة توفي السيد/ استوك وأدلت والدتي بالإنابة عني مصوتة للنائب العمالي د. فوت، والذي نجح في الانتخابات.  




badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء