أول رشفة من ماء النيل (2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
من مذكرات باتريك كولنسون أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم في الخمسينات والستينات
تقديم: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة لشذرات متفرقة ومختصرة من فصلين عن السودان وردت في مذكرات البروفسيور الإنجليزي باتريك كولنسون (1929 – 2011م) والتي أعطاها عنوانا طويلا هو: "تاريخ رجل التاريخ أو نظرة إلى القرن العشرين من مسافة آمنة". عمل البروفسيور لبضع سنوات في جامعة الخرطوم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كان يكمل أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، ثم عمل من بعد ذلك في جامعات لندن وسيدني وكيمبردج وشيفيلد. يعد بروفسيور كولنسون حجة في التاريخ المسيحي في العصر الإليزابيثي.
صدرت المذكرات في عام 2007م وهي مبذولة في الشبكة العنكبوتية، وضمنها المؤلف كثيرا من الصور النادرة والفريدة عن السودان، مثل حفل تخريج طلاب جامعة الخرطوم في عام 1959م في حضور أعضاء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وصورة تضم عددا من طلاب الجامعة وكتب عليها تفسيرا ساخرا هو "تقسيم بالغ الدقة لمجموعة من طلاب جامعة الخرطوم: ثلاثة طلاب من شمال السودان وطالب جنوبي واحد وطالبة شمالية واحدة وطالب أغريقي وحيد". تسود غالب ما سطره المؤلف عن أيامه بالسودان روح الدعابة والسخرية السوداء وبعض العنصرية والتعصب الديني، بيد أنه يزعم في أكثر من موضع اهتمامه وحبه للسودان وأهله، وينتقد بمرارة عشيرته الإنجليز على ابتعادهم عن حياة سكان البلاد الأصليين وعزلتهم المجيدة في "نادي السودان" الذي تقتصر عضويته عليهم. المترجم
************ *****************
قبل حلول أول عيد للميلاد أشهده في السودان قمت بعدة رحلات لا تنسى في مناطق مختلفة ووعرة من البلاد لا يمكن الوصول إليها إلا بسيارة من نوع خاص. انضممت مع ثلاثة زملاء آخرين لبعثة طبية كانت متوجهة لجبال الانقسنا في أقصى مناطق مديرية النيل الأزرق على الحدود مع أثيوبيا. كان غرض البعثة هو البحث في ذلك المرض القاتل: الكلازار. كان البعثة تضم طلابا من كلية الطب، وفي تلك الرحلة تبين لي أن طلاب الطب هؤلاء أكثر ثقافة واطلاعا وتمرسا في ضروب الحياة المختلفة من طلابنا في كلية الآداب. ومع مرور الوقت في رحلة الذهاب لتلك المنطقة البعيدة والغبار يغطي أجسادنا وكل شيئ آخر حولنا كنت أناقش مع طلاب كلية الطب روايات أندريا جيد! بيد أن كل ما كان خارج تلك السيارة كان يؤكد أننا في السودان الحقيقي: قرى مبانيها عبارة عن قطاطي متناثرة من القش، وسكانها من النساء يجلبن الماء وهن غير متحجبات، ورعاة إبل أكرمونا بلبن طازج حار من ضروع النياق مباشرة. مررنا في مسيرتنا تلك بقوم رحل يقوم اقتصادهم على جمع الصمغ من شجر الأكاسيا. لا يمكنك بالقطع أن تجد مثل هذه الأشياء في بيرمنجهام! رأينا آلافا من "اللقلق"، ذلك الطائر الأوربي الذي يهاجر لهذه المناطق هربا من صقيع الشتاء القارس. كم من مرة غرزت إطارات سيارتنا في الرمال! كنت مغرما بصيد الفراشات مستخدما شبكة، وكان معنا في تلك البعثة – لسبب ما- طبيب أسنان سوداني أعجب بقدراتي في صيد الفراشات فطفق يناديني بـ "الصياد الأبيض العظيم"!
لم يطلق السكان "الانقسنا" على أنفسهم هذا الاسم، ولكن يقال إن كلمة "الانقسنا" تحريف لكلمة عربية تفيد معنى"complete bastards " (لم أجد لما ذكره المؤلف أصلا، وللمزيد عن الانقسنا يمكن قراءة كتاب "اثنوغرافيا الانقسنا" للدكتور فاروق مصطفى إسماعيل الصادر عام 1980م. المترجم). لا عجب أنهم يعتقدون أن لا خير يرجى في جيرانهم الفونج المتحدثين بالعربية. يطلق الانقسنا على أنفسهم اسم "جوك جام" أو "رجال الجبال"، وكان اسما المستوطنتين اللتان كانت تدار منهما المنطقة (وهما "ويسكو" و"سودا") مثار تندر الحكام البريطانيين (لعل المؤلف يشير هنا إلى قرب نطق الكلمتين من الويسكي والصودا. المترجم). علمنا أن سكان "ويسكو" (الواقعة في منطقة "باو جنوب غرب الدمازين. المترجم) و"سودا" مختلفون جدا، ولا يتصاهرون أبدا ولكل منهم لهجته وإلهه الخاص. وذات مرة وأنا أبحث عن فراشاتي البيضاء عند قاع نهر جاف لقيت شابا مع حبيبة له، وأثار منظري وأنا أحاول اصطياد الفراشات عندهما عاصفة من الضحك. كان الانقسنا يعاملوننا بتسامح وطيبة كبيرة، وبما أننا لم نكن نحمل أي سلاح فقد كنا في نظرهم مجرد عبيد! تعرفنا في زيارتنا تلك على بعض ممارسات الشباب قبل الزواج عند الانقسنا، وكيف أنه يجب على الشاب الذي يود التقدم للزواج من فتاة أن يخدم والدها لمدة عامين أو أكثر قبل أن يسمح له بالزواج منها (تماما كما فعل يعقوب بحسب رواية الانجيل!). لا يتم الزواج إلا بعد طقوس معقدة (توسع المؤلف في أكثر من صفحة في وصف تقاليد الزواج عند الانقسنا وما يسبقه من طقوس وسلوك، وعن حفلات غنائهم ورقصهم وآلاتهم الموسيقية ، وخصص صفحة أخرى للحديث عن اضطهاد المسلمين للانقسنا ومحاولة اسلمتهم قهرا. المترجم).
كانت إحدى مزايا العمل في جامعة الخرطوم هي العطلة الصيفية الطويلة والتي تمتد لثلاثة شهورمتصلة مدفوعة الراتب، مع تذاكر سفر بالطائرة مجانا لموطن المتعاقد. وبإمكان المرء أن يدفع من جيبه قليلا لتغيير التذكرة ومسار سيرها لأي مكان في منطقة البحر الأبيض المتوسط. كنت دوما أقضي شهرين من عطلتي في بريطانيا لعمل بعض الأبحاث وممارسة هوايتي المفضلة في تسلق الجبال قبل العودة للجامعة في يوليو، حيث أكون قد نسيت اسماء طلابي والذين كانت غالب اسمائهم هي أحمد أومحمد أحمد ومحمود أو أحمد أحمد محمود.
أكملت في عطلتي الصيفية كتابة أطروحة الدكتوراه والتي عنونتها عنوانا لم يعجبني فيما بعد وهو
The puritan classical movement in the reign of Elizabeth l
ولم يعجبني أيضا عنوان الكتاب الذي نشرته في عام 1967م نقلا مما أوردته في تلك الأطروحة. لقد أرهقت أطروحة الدكتوراه تلك أمي أكثر مني، إذ أنها تولت طباعة كامل صفحاتها (وربما كان عدد كلماتها يصل إلى نحو 80000 كلمة)، ولما لم تجد تلك الأم الحانية شيئا أفضل تفعله قامت بعمل فهرس مجود لها! بعد نجاحي في امتحان الدكتوراه الشفهي قمت مع زوجتي وزميل بولندي يعمل معي في جامعة الخرطوم وزوجته الجميلة برحلة في منطقة البحيرات البديعة، وسعدت برفقة أمي لعدة مناطق قبل أن أعود للخرطوم بطائرة الخطوط الجوية السودانية والتي توقفت في مالطا لساعتين. قلت لزميل سوداني كان معي في الطائرة وفي الفندق بمالطا أنني سوف أقوم بجولة في المدينة في هاتين الساعتين. رد في يسر وهو جالس على أريكة الفندق بأنه ما من شيء في مالطا يستحق المشاهدة!!!
بعد يومين من وصولي للخرطوم شهدت المدينة أكبر غزو للجراد عرفته البلاد. رأيت بلايين الجراد يغطي السماء بسحابة سوداء. خاف الناس ومضوا في دق الصحون والقدور وهم عاجزون عن فعل شيء أمام ذلك الغزو!
كانت للحياة في الخرطوم أبعادا ومستويات مختلفة. كان هنالك المستوى السياسي والعام، والذي كان ينعكس على الحياة في الجامعة (عدا في عام 1968م) على نحو لا يعرف في الديمقراطيات الغربية، على الأقل في بريطانيا (لم يوضح المؤلف لماذا استثنى عام 1968م من تعميمه الكاسح. المترجم). كانت هنالك أيضا الحياة الأكاديمية الرتيبة من محاضرات وبرامج دراسية أخرى وامتحانات في قسم التاريخ، واشراف على امتحانات الشهادة السودانية في مادة التاريخ، إضافة للدروس الخاصة التي كنت أعطيها لأميري السيد/ محمد عثمان الميرغني، وتدريس مادتي التاريخ والموسيقى في المدرسة الكنسية الاتحاد العليا، ومناقشة عدد من قضايا العمل العام مع عدد محدود من الفتيات لاقناعهن بالتدريب في كلية للتمريض كانت منظمة الصحة العالمية تسعى لإنشائها بالخرطوم تحت إشراف راهبات كنديات، فالتمريض كان في تلك السنوات مهنة محتقرة تكاد تعد بابا من أبواب الدعارة.
كان لي نشاط مجتمعي آخر في الجامعة فقد أقمت جمعية اسميتها "جمعية الثقافة المسيحية" كانت اهتمامها اجتماعية أكثر منها مسيحية أو ثقافية، وكان أعضائها من فئات وأجناس متباينة ففيهم أقباط وجنوبيين وأغاريق (ولكن ليس بينهم بالطبع كاثوليك، فأولئك كان لهم عرضهم الخاص!). قدمت في مدرسة وادي سيدنا الثانوية ذات مرة محاضرة عامة تحت ضوء بدر مكتمل أمها ألف طالب من المسلمين وكان موضوعها "وجود الله". أثارت تلك المحاضرة جدلا كبيرا ونقاشا مستفيضا بين الحضور. قال لي ناظر المدرسة: "لو كنت قد درست القرآن لوجدت فيه الإجابات عن كل الأسئلة التي طرحتها". من الصعب تصور أن ذلك يحدث مثل هذا في القرن الحادي والعشرين. وأكثر من هذا فلا يتصور مقدار "الثقة بالعقول" على مستوى العلاقات الشخصية الذي شهدته في ذلك اليوم، فقد كان المتحدثون هم من "الخبراء" من الأوربيين العاملين بالسودان (وكنت واحدا منهم)، وكان المستمعون هم من الطلاب السودانيين المسلمين. تلقيت من أحد الطلاب المستمعين سؤالا عجيبا جاء فيه: "ما هو الدافع للزواج من أجل الحب إن كان الوقت الذي تقضيه في الحب يقل عن الزمن الذي تقضيه في الحلاقة؟". آن للسودان أن يفيق على حقيقة أنه لم يعد مستعمرة.
كنت في سنواتي في جامعة الخرطوم أحاول قدر طاقتي مواصلة البحث والنشر في التاريخ الليزابيثي، بيد أن عدم الاستقرار الوظيفي كان هو هاجسي الأكبر. كنت أعلم أن عقدي – كغيري من الأجانب- لن يجدد إلى ما لا نهاية، إذ لم يكن الأساتذة الأجانب محبوبين أو حتى مرحبا بهم. وعلى كل حال أعترف بأنني لم أكن شديد الثقة في أنني سأغدو في يوم من الأيام مؤرخا أكاديميا عظيما أو أستاذا جامعيا مشهورا، فقد تعلقت روحي ومنذ أمد طويل بالعمل في "كنسية إنجلترا" أو – كما كنت أحلم في رومانسية بالغة - في "كهنوت الأبرشية" في أطراف لندن أومدينة فقيرة في شمال إنجلترا.
كانت الحياة في الخرطوم، والتي تنعدم فيها الطرق ووسائل النقل (المريح)، ويعطى العاملون فيها يوما واحدا فقط (الجمعة) كعطلة أسبوعية سجنا لطيفا نوعا ما. بيد أن هنالك دوما عطلة قصيرة في ديسمبر كان يزيد من طولها إضرابات الطلاب وقفل الجامعة لأبوابها، وكنت أستغل تلك العطلة في القيام برحلات بعيدة وغريبة. من تلك المناطق كانت أثيوبيا هي البلد الذي وقعت في شباك عشقه. صرت مهيما بتاريخ ذلك البلد وحضارته المسيحية القديمة وبجمال طبيعته الخلاب. وكانت هنالك أيضا مصر بآثارها العتيقة في أسوان والأقصر والكرنك ووادي الملوك. كنت في كل إبريل وأنا بين الخرطوم ولندن أزور الناصرة (حيث يعمل شقيقي كمبشر) ودمشق وبيروت واسطنبول وأثينا، وأسافر بقطار الشرق السريع إلى فينيسيا وإلى الجزائر (حيث تعمل شقيقتي كمبشرة) وتلك البلاد كانت حينها تخوض في أتون حرب متوحشة استمرت لسبعة أعوام. كل تلك المناطق البعيدة وكل تلك الأحداث لا تراها عن قرب وأنت تدرس في بيرمنجهام!
وبالعودة للسودان في تلك الفترة فقد حكم البلاد منذ الاستقلال (في 1/1/ 1956م) بنظام يفترض أنه برلماني ديمقراطي، بيد أنه مر بعواصف جارفة وصراعات حزبية عنيفة، وربما كان فاسدا، لكنه كان فسادا أقل- وبدرجة كبيرة- من الفساد الذي عرفته أفريقيا لاحقا. السودان لم يكن كالكنغو مثلا. كل من يعرف شيئا عن السودان يعلم أنه دولة اصطناعية (أو مصنوعة) بها شمال يسكنه قوم يتحدثون العربية ويدينون – في الغالب - بالإسلام ، وبه عالم مختلف آخر هو الجنوب بسكانه الأفارقة السود من الدينكا والشلك والنوير وقبائل أخرى أصغر من البانتيو (وكان هؤلاء قد تنصروا منذ سنوات على يد المبشرين الكاثوليك والبروتستانت). لم يكن الشلك على وفاق مع الدينكا أبدا، ولا حتى مع بعضهم البعض. كانت هنالك في الخمسينات الكثير من الإشارات المحذرة والنذر الواضحة للحرب بين الشمال والجنوب التي اشتعلت مجددا في الثمانينيات.
السياسة في السودان تقوم على طائفتين، ويصح القول أيضا أنها تعتمد على رجلين لا ثالث لهما: زعيم الأنصار وزعيم الختمية. مما أذكره من عالم السياسة ورجالها في شمال السودان تلك الليلة التي توفى فيها السيد/ عبد الرحمن المهدي، وهي ليلة انخسف فيها القمر خسوفا كليا، وعمت البلاد موجة حزن خيمت طويلا. شاهدت كيف أنه بمقدور أي من الطائفتين حشد عدد مهول من التابعين والمريدين بإشارة صغيرة من الزعيم. فقد دعيت لحضور حفل زواج أميري (محمد عثمان الميرغني) كان بحق "أم الحفلات" فقد أمه ما لايقل عن 4000 فردا يرتدون الملابس التقليدية للختمية ذات اللونين الأخضر والأبيض. كنت مدعوا كذلك (مع الختمية!) لحفل استقبال جمال عبد الناصر عند زيارته للسودان في عام 1960م. ذبحت الثيران في الطريق عند دخول عبد الناصر لمكان الاحتفال. بيد أن ما قدمه الختمية من عرض مبهر عند استقبال عبد الناصر لم يكن شيئا يذكر بالمقارنة ما قدمه الأنصار عند مقدم ذلك الزعيم لقبة المهدي في أمدرمان. ملأ الأنصار جانبي الطريق من جسر النيل الأبيض حتى قبة المهدي وصنعوا جدار حول الشارع بعصيهم الطويلة. لما هتف الصادق المهدي (أم لعله يقصد الصديق؟ المترجم) وهو بجانب عبد الناصر بـ "الله أكبر " ردد الآلاف من خلفه وبأعلى أصواتهم "ولله الحمد"، ولعل ذلك كان كافيا ليوضح لعبد الناصر من هو صاحب الأغلبية في البلاد!
تميز العامان اللذان أعقبا الإستقلال بعدم الاستقرار السياسي والصراع المحتدم بين الحزبين السياسيين المسنودين (والمصنوعين) من الطائفتين الدينيتين: الختمية والأنصار وهما "الوطني الإتحادي" و"الأمة"، على التوالي. صنع البريطانيون الحزب الأول في بداية الخمسينيات للوقوف ضد المد الوطني المهدوي، بيد أن ذلك الحزب سعى بعد ذلك (لأكثر من سبب) لتلقي العون من مصر وتبنى شعار "وحدة وادي النيل". لعل ذلك هو مصدر حب البريطانيين لعبد الله خليل، حيث وصفه سفيرنا في الخرطوم في غضون أزمة السويس عام 1956م بأنه "رئيس وزراء من الطراز الأول"! أبدى عبد الله خليل إصرارا وعزما كبيرين للتصدي لمصر إبان أزمة حلايب الحدودية وذلك عندما أرسل جيشا لتلك المنطقة في فبراير من عام 1958م. في تلك الأيام تظاهر الطلاب ضد مصر ومزقوا صور ناصر وهم يهتفون "أرض السودان لشعب السودان". تمخض الجمل فولد فأرا في نهاية المطاف، وعاد الوضع بين البلدين إلى حالة السلم بعد أيام قليلة. كان في الساحة السياسية لاعبون آخرون (أقل تأثيرا من الحزبين الطائفيين) أشهرهم هو الحزب الشيوعي ومن خلفه الحركة النقابية العمالية ذات القوة والنفوذ.
كنا في الجامعة نقسم الطلاب بحسب ولاءاتهم السياسية إلى ثلاثة أحزاب متساوية القوة تقريبا: الأخوان المسلمون، والشيوعيون، وأنصار حزب "الكوكاكولا"، ولم يكن يجمع بين هذه المجموعات المتنافرة غير شيئ واحد هو بغضهم وإدانتهم للإمبريالية. وعلى ذكر "الإمبريالية" كنت قد طلبت ذات يوم من طالباتي في مدرسة الاتحاد العليا أن يعرفوا لي كلمة "إمبريالية" فقامت ابنة وزير الخارجية السوداني محمد أحمد المحجوب وعرفتها بأنها "حالة أن تقوم دولة ما بتحطيم دولة أخرى". في سنوات خمسينيات القرن الماضي كان الطلاب – مع غيرهم من السودانيين- مهمومين بحرب السويس وأيضا بما كان يجري في الجزائر، واعتاد السفراء العرب أن يقاطعوا حفلات السفارة الفرنسية بالخرطوم احتجاجا علي ما كانت تفعله في الجزائر، بيد أن هذا كان من حسن حظنا، إذ أن تلك المقاطعة قد وفرت لنا قدرا أكبر من الشمبانيا الفاخرة في تلك الحفلات! وفي عام 1958م وفي حفل يقيمه الطلاب سنويا في اتحاد الطلاب ويطلقون عليه "Bean feast" قام رئيس الاتحاد بإلقاء خطبة روتينية هاجم فيها إدارة الجامعة البريطانية (أهم أركان الإمبريالية بالبلاد!) وعلى رأسها البروفسيور قرانت (والذي كان قد استبدل في ذلك العام برجل سوداني هو نصر الحاج علي. المترجم) وغيره من الأساتذة الأجانب، وصرح بأن الإمتحانات في كلية القانون في ذلك العام قد وضعت بحيث يرسب فيها أكبر عدد من الطلاب (كان لذلك الأمر أبعاد لها علاقة بالعداء للسامية). كرد فعل تلقائي لما قاله رئيس الاتحاد نهضت سريعا من مقعدي وانصرفت من الحفل مغاضبا، وأتبعت ذلك في اليوم التالي بخطاب ناري لرئيس الاتحاد (وكان أحد طلابي) وحذرته من أنني لو سمعت منه تكرارا لمقولاته الفارغة في ذلك الحفل فسوف يكون له الشرف في توديع ركن آخر من أركان التسلط الإمبريالي! قلت هذا رغم أنني كنت من القلائل الذين كانوا يؤمنون بضرورة مشاركتنا في النشاط الطلابي، وفي حضور ذلك الاحتفال بالذات.
في صبيحة يوم 17 /11/1958م توجهت من بيتي الذي استأجرته مع زميل لي في "حي المطار" للجامعة على دراجتي الهوائية ، وفي الطريق أحسست على الفور أن شيئا ما قد حدث، فالدبابات العتيقة تجوب الطرقات وهنالك حاملة لمدفع برين تعطلت عند تقاطع خط السكة حديد. علمنا بعد ساعات أن انقلابا عسكريا قد وقع. لم يكن ذلك الانقلاب يشبه الانقلابات التي وقعت فيما أقبل من سنوات في السودان وفي غيره من الدول. فقادة الانقلاب كانوا من كبار الضباط المتقدمين في السن على رأسهم إبراهيم عبود بوجهه الحزين الطويل، والذي خلدته صحيفة "ديلي ميل" بنشره في الصفحة الأولى مع مانشيت كبير يقول: " سر الجنرال الأصلع". عاش عبود في في المنزل رقم 1 في شارع البرلمان، وفيه كانت معزه ترعى في عشب حديقته الأمامية. كان قادة الإنقلاب أقرب لحزب الأمة، والذي يقال إنه صنع ذلك الانقلاب (لعل المؤلف قد ذكر في بداية هذا الفصل أن قادة الإنقلاب أقرب للختمية! المترجم). شكر قادة الإنقلاب وزراء الحكومة السابقة (التي انقلبوا عليها) على ما قدموه من خدمات جليلة إبان توليهم الوزارة، ولم يتكرر مثل ذلك الفعل في ليبيريا وغيرها من الدول الأفريقية.
الآن صار لدينا رئيس دولة واحد عوضا عن "مجلس السيادة" المكون من خمسة أفراد يتبادلون الرئاسة، وواحد من هؤلاء كان رجلا جنوبيا كاثوليكيا له خمس زوجات! (لعل المقصود هو السيد / سرسيو إيرو. المترجم). كنت أمر يوميا بدار ذلك الرجل الجنوبي المرموق وأراه جالسا وحيدا في شرفة بيته وحريمه في الخلف ينشطن في القيام بأعمالهن المنزلية التقليدية. كان رأس الدولة هو – بحكم المنصب- رئيس الجامعة، وقد تصادف أن كان ذلك الرجل الجنوبي هو رئيس الجامعة عندما خرجنا أول دفعة. في العام التالي كان رئيس الجامعة بالطبع هو عبود، والذي آثر أن يأتي للجامعة في حفل التخريج مرتديا زيه العسكري تحت ما كان يلتفعه من روب جامعي وواضعا قبعة التخرج المخملية فوق قبعته العسكرية العالية!
تملق النظام الجديد عواطف الجماهير وسعى لتحقيق شعبية في أوساطه فأزال تمثالي غردون وكتشنر من شارعين رئيسين في الخرطوم. لا أعتقد أن كثيرين قد أسفوا على إزالة تمثال كتشنر الذي كان يمتطي جواده ويرنو نحو "كرري" التي قتل فيها آلاف السودانيين. بيد أن لغردون قصة أخرى. فتمثاله كان على ظهر جمل وموضوع قرب القصر الجمهوري الحالي. يا ترى ما هو الضرر الذي سببه غردون للبلاد وسكانها؟ قمت بتصوير التمثالين وهما يزالان من مكانهما، وأيضا في محطة سكة حديدالخرطوم بحري عند وضع التمثالين في صناديق تمهيدا لنقلهما لبريطانيا. لم تنجح حيلة عبود وجنده في كسب شعبية رخيصة لدى الجماهير فقد أظهر له طلاب جامعة الخرطوم شديد العداء منذ أول يوم، حتى أن الجامعة كانت تعدل في تقويم العام الدراسي لتتفادى وجود الطلاب يوم 17 نوفمبر يوم "عيد الثورة المباركة". كنت أنا قد كسبت أيضا بعض الشعبية الرخيصة بين الطلاب وأنا أحاضرهم عن يوم تنصيب الملكة الليزابث الأولى في يوم 17 نوفمبر 1558م!
لم تنعم حكومة عبود العسكرية بالاستقرار الذي زعمت أنها قد أتت من أجله فتعرضت لمحاولات انقلابية عديدة، أعدم في أحدها (تحديدا في عام 1959م) عدد من الضباط. كان ذلك بداية العنف السياسي في البلاد. كذلك تدهور الوضع السياسي والأمني في جنوب السودان، وثار الطلاب والعمال (خاصة في السكة حديد) ودخلوا في موجة من الإضرابات، وسقط النظام أخيرا في أكتوبر 1964م إثر ثورة شعبية.
بالعودة إلى جامعة الخرطوم، أستطيع القول أنها لم تصب نجاحا كبيرا... لا للطلاب ولا للأساتذة. لم تستطع الجامعة أن تتوصل لمعادلة تتيح للسودانيين من جهة وللأساتذة الأجانب (وغالبهم من البريطانيين والمصريين) من جهة أخرى العيش والعمل معا في سلام (استطرد المؤلف هنا في قصص صغيرة لا رابط بينها ولا صلة تصب كلها في مدح زملائه الأوربيين وانتقاد الأساتذة السودانيين وسوء تعاملهم مع الوقت وغير ذلك، فحكى مطولا عن عراكه اللفظي مع أستاذ سوداني قام بإخراج يده من نافذة سيارته الروسية ولمس ظهره وهو يقود دراجته الهوائية مما كان سيسبب له في إصابة خطيرة لولا أن الله سلم! ثم عرج على يوسف فضل دون مناسبة وكيف أنه كان أحد طلابه. المترجم).
كان لي زميل مصري (قبطي) لطيف هو فوزي جاد الله كان يدرس مادة تاريخ العرب، بينما كنت أقوم أنا بتدريس تاريخ العصور الوسطى في أوربا، وكان الرجل المصري كريما في منح الدرجات لا يمنح أقل من 65% لأضعف طالب، بينما كنت لا أعطي أكثر من 60% لأفضل طالب عندي! وكان الطلاب ينجحون غالبا بسبب أخذ متوسط ما كنا نعطيه من درجات في المادتين! وفشلت في مجلس الكلية فشلا ذريعا في أن أجعل النجاح في المادتين معا إلزاميا.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
//////////////