أيامي في السودان لهنري سيسيل جاكسون: الاستعمار والعصرنة مقابل عنف الطبيعة والبشر ، القصة بعين البريطانيين .. بقلم : الوليد محمد الأمين

 


 

 

يُحمد للبريطانيين الذين خدموا في السودان ، أو لعدد كبير منهم على الأقل ، اهتمامهم بالكتابة والتدوين لفتراتهم في السودان ، تلك الفترات التي امتدت من بضع سنوات محدودة للبعض منهم ، إلى سنوات طويلة زادت عن العشرين عاماً لبعضهم ، ولأكثر من ذلك لبعضهم الآخر . هنري سيسيل جاكسون (1883- 1963) صاحب كتاب Sudan Days and Ways والمترجم " أيامي في السودان " قضى في السودان نحو 24 عاماً تجوّل فيها في مختلف بقاع السودان . المؤلف تخرج من جامعة أكسفورد المرموقة ، ولعل ذلك يعيدنا للمقولة الرائجة عن أن الانجليز في استعمارهم للسودان عينوا فيه أفذاذ خريجيهم من أكسفورد وكيمبردج ، وبدا لي أن المقولة نسبت للكاتب السوداني الكبير الطيب صالح ، ولكني على كل حال لم أجد لها مصدراً موثوقاً ينسبها إليه . غير أن الطيب صالح ذكر في إحدى مقالاته أن الانجليز " حكموا بلاد السودان المترامية الأطراف ، بكثير من الحكمة وكثير من العدل ، والحق يقال " 1 .
عمل المؤلف في السودان من بعد تخرجه ، أي منذ العام 1907 ، إلى العام 1931 . وخلال هذه الفترة عمل في وظائف متعددة وبالتالي في أماكن متعددة من البلاد ووسط أناس مختلفين كذلك في العادات والتقاليد ، وفي الأصول العرقية قبل ذلك . فهو قد عمل في الخرطوم ، سنار ، النيل الأزرق ، أعالي النيل والبحر الأحمر . وعليه فقد عمل وسط سكان أمدرمان الذين قال عنهم إنه لا يظن أن هناك مدينة تماثلها في وجود عدد كبير جدا من الأعراق في مكان صغير غير مكة ، ووسط الزاندي والنوير والشلك وعموم قبائل جنوب السودان وقتها ، الذين قال عنهم إنهم في غالب الأمر عدائيون ، ثم أخيرا عمل مع نوبيي الشمال في حلفا الذين وصفهم بالكرم الغامر وعزة النفس العالية ، وهم كذلك لطيفون مجاملون لا يضايقون السياح من أجل البقشيش كما في مصر على حد وصفه .
غير أن نظرته للسودان وللسودانيين عموماً يمكن وصفها بالودودة والمحبة ، ولو أنك مرة مرة تجده يشير إلى ذلك الوازع الأخلاقي الواقع عليهم ، الانجليز ، كدعاة تعمير وتمدين للشعوب المتخلفة ، أو ما اصطلح عليه في أدب الاستعمار بعبء الرجل الأبيض .
صدر الكتاب في العام 1954 ، وإن كان المترجم لا يذكر ذلك في مقدمته ولا الدار الناشرة أشارت إلى سنة نشر النسخة الأصلية باللغة الانجليزية . الكتاب في نسخته العربية الصادرة في العام 2015 ، ترجمه السفير عوض أحمد الضو ، وهو كما نعرف من تلخيص سيرته الذاتية على الغلاف الخلفي للكتاب من مواليد مدينة مدني بالسودان في العام 1935 مع بعض الإضاءات الخفيفة عن سيرته الذاتية . يقع الكتاب في نحو 440 صفحة تبدأ بمقدمة الناشر ( هيئة الخرطوم للصحافة والنشر ) في صفحتين ، ثم مقدمة المترجم ( في صفحة واحدة ) ، ثم تمهيد ( للمؤلف جاكسون ) ، ثم بعد ذلك تترى فصول الكتاب : الباب الأول : الوصول إلى الخرطوم ، الباب الثاني : الأيام الأولى في الخرطوم ، الباب الثالث : سنار ، الباب الرابع : جولات التفتيش ، الباب الخامس : كل شيء ضمن عمل اليوم ، الباب السادس : أم درمان ، الباب السابع : سجناء الدراويش ، الباب الثامن : ود مدني ، الباب التاسع : ملكال ، الباب العاشر : هرم دنقكور ، الباب الحادي عشر : مع الشلك ، الباب الثاني عشر : في المستنقع ، الباب الثالث عشر : مرض النوم ، الباب الرابع عشر : وادي حلفا ، الباب الخامس عشر : الرُوّاد ، الباب السادس عشر : وداعا ً ، ثم أخيراً : خاتمة .
لا يحتوي الكتاب على فهرس للمواضيع أو للأبواب على أي حال .
من مقدمة الناشر نعرف أن الكتاب نُشر ضمن مشروع الهيئة لطباعة مائة كتاب في المعرفة السودانية ، ورغم أنه لا يُذكر كم من الكتب طُبعت ضمن ذلك المشروع وقت طباعة هذا الكتاب أو ترتيب هذا الكتاب ضمن الكتب المائة ، إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن ذلك يمثل مجهودا مقدرا في بلد كالسودان ، يعجز فيه المؤلفون عن طبع كتبهم لأسباب عديدة ليس أقلها ارتفاع تكلفة الطباعة التي يتحملها المؤلف أو المترجم وحده دون دعم من أي جهة كانت ، ثم سبب آخر لا يقل أهمية وهو أن المؤلف في السودان لا حقوق له أو لا جهة تحمي حقوقه ، إذ تنتشر وبسهولة الكتب المقرصنة المنسوخة ، وأسهل من ذلك تنتشر الكتب بصيغتها الالكترونية دون إذن المؤلف ودون مقابل مالي يتحصله أو يصل إليه ، بل وتُتداول هذه الكتب دون رقيب بل ودون إحساس ولو ضئيل حتى بالذنب من قبل القرّاء !
يتحدث المؤلف عن أن السودان بعد مقتل غردون واستيلاء الحركة المهدية على الحكم في البلاد عاش في بؤس شديد تحت سطوة من سماهم بالدراويش كما هو رائج في أدبيات الاستعمار في وصف المهدية . المهدية نفسها يرى جاكسون أنها جاءت كرد فعل على الظلم والفساد الكبيرين بل والقسوة المفرطة من قبل الأتراك . فالضرائب الفاحشة ، قتل الرجال واغتصاب النساء في القرى التي يمرون بها ، قتل الرجال بالوضع على الخازوق وبتر الأعضاء وغير ذلك من الفظائع كلها كانت من الممارسات المعتادة لحكم التركية في السودان . وكثير من هذه الفظائع يقول المؤلف ، حرّض عليها اسماعيل باشا بنفسه ، وكان اسماعيل يجعل آذان سجنائه تُقطع وتُنظم في شكل عقود لإرسالها إلى والده في القاهرة ، ما دعى في وقت لاحق المك نمر رئيس الجعليين إلى قتل اسماعيل باشا وجنوده حرقاً كما هو معروف . الأمر الذي انتقم له الأتراك انتقاما رهيبا كما ذكر المؤلف ، حيث هجموا على أهل شندي بقوة كبيرة وقتلوا كل رجل وامرأة وطفل قبضوا عليه ولم ينج إلا القليلون الذين فروا إلى الغابات على الحدود الأثيوبية .
في حكايته عن الوصول إلى الخرطوم في الباب الأول من الكتاب يذكر المؤلف أن الطقس كان شديد الحرارة في نحو الثامنة صباحا في نهاية سبتمبر من العام 1907 عندما ركبوا قطار اكسبرس الصحراء من وادي حلفا إلى الخرطوم . كانوا ثمانية من الشبان الانجليز ، ورغم ان المؤلف لم يذكر أسماءهم فقد ذكر أنهم كانوا جميعا خريجين جددا من الجامعات : خمسة منهم من أكسفورد ، إثنان من كيمبردج وواحد من ترنتي كولدج بلندن ! جامعات عريقة لا تزال تتربع على عرش أفضل جامعات العالم حتى وقتنا هذا . ربما كان من المثير للتأمل أنه في ذلك الوقت وبينما كان الناس يتخرجون من جامعات اكسفورد وكيمبردج ، كان السودان غارقا في الخرافات وأحلام دولة الخلافة ! إنما ، هل تغير الكثير من ذلك بعد مرور كل تلك السنوات ؟ لقد سمى المشير جعفر النميري نفسه بأمير المؤمنين في الثمانينات من القرن الماضي وأعلن اسلاميو السودان في نهاية القرن ذاته أن أمريكيا وروسيا قد دنا عذابهما !
يصف المؤلف قطار الاكسبريس الذي كان يسير على الخط الذي كان قد بناه المهندسون الملكيون في حملة كتشنر ، حيث يذكر أنه كانت لكل منهم غرفة بسرير ومغسلة أيدي يتم طيها ودفعها داخل الحائط ، وطاولة يتم طيها وكرسي جلوس من الخيزران . وفي كل غرفة مروحة وكان زجاج النوافذ مظللا جزئيا .
عند حديثه عن أيامه الأولى في الخرطوم يذكر المؤلف دون الخوض في التفاصيل كيف أعاد كتشنر بناء الخرطوم كمدينة أوروبية بقصد إنشاء عاصمة محترمة للحكومة مع منطقة سكنية للأوروبيين ومركز تجاري لتزويدهم باحتياجاتهم . لقد نجح كتشنر في ذلك إلى حد كبير وأثمرت جهوده في عصرنة الخرطوم وبعثها من جديد بعد خراب الدراويش ، إذ كانت هناك ملاعب للجولف والبولو وكذلك التنس والبردج في نادي السودان ، بل أنه أحيانا كانت تقام الحفلات الراقصة في الفندق الكبير هناك على شاطيء النيل حيث يذهب إليها الجميع بملابس السهرة كاملة وعلى ظهور الحمير ! والضباط البريطانيون يلبسون بصورة رائعة ، ولكن ، ولقلة السيدات وقتها ، فقد كان الرجال يرقصون بعضهم مع بعض .
يتحدث المؤلف كذلك عن مسألة الرق في السودان وعن جهود الحكومة في القضاء على تجارته . وكيف أن التعليمات الرسمية كانت تقضي بأعادة الرقيق الآبقين إلى أسيادهم وتحذير الملاك بأنه سوف يُنزع منهم الرقيق إذا عاملوهم معاملة سيئة . ثم أنه في المستقبل فإن جميع المولودين للأرقاء يعتبرون أحراراً في نظر القانون . على كل حال لا يكف السودان عن الإدهاش ، فقد ذكر جاكسون أن شيخا من مديرية بربر رجاه أن يأمر عبيده أن يتركوه ، إذ كانوا يستهلكون من الشاي والسكر أكثر مما يستهلكه أفراد أسرته الخاصة . ويروي كذلك أنه في كثير من الأسر فقد فضل الأرقّاء البقاء في البيوت التي تربوا فيها وكذلك آباؤهم .
عند حديثه عن جنوب السودان وقتها يذكر المؤلف عن النوير أنهم أناس متمردون عنيفون قليلو التحمل لأي نوع من أنواع السيطرة مع رغبة عاطفية للاستقلال . غير أن هذا الاستقلال الذي يطلبونه لأنفسهم فإنهم يرفضون منحه للآخرين ، إذ دائما ما كانوا يغيرون على القبائل الأخرى مثل الدينكا الأقل عدوانية بحسب المؤلف . وعلى كل حال فقد انفصل جنوب السودان الآن أو استقل بدولته ، ولكن الكتاب يزخر بالتفاصيل عن حياة الجنوبيين من النوير وغيرهم ، النوير الذين ذكر المؤلف في باب هرم دنقكور أنهم كانوا يجيئون بالمئات من جميع الجهات عراة ومسلحين برماح بطول ستة أقدام ودروع ، بأجسامهم الطويلة البيضاء من رماد وروث البقر ، وجباههم مخططة بستة خطوط من الجروح تمتد من الأذن إلى الأذن .
بعكس النوير يرى جاكسون أن الشلك كانوا دائما يدينون بالولاء لرئيس واحد تطاع أوامره بلا جدال . وعن الشلك الذين سكنوا أجمل البقاع على النيل الأبيض يقول جاكسون إن زيارتهم كانت دائما مبهجة . لا يتسع المجال هنا لتفاصيل حياة الشلك والنوير والدينكا وأحوال الجنوب التي ذكرها المؤلف بتفاصيل وافية .
من غير العسير علي قاريء الكتاب الانتباه إلى دقة الملاحظة لدى الكاتب واهتمامه بالتفاصيل الصغيرة وملاحظاته الثاقبة والوصف الدقيق لتفاصيل ربما لم يكن من الممكن معرفتها بغير ذلك . على سبيل المثال يصف المؤلف وجبات الطعام التي يتناولونها ، ففي إحدى المرات يتحدث عن شوربة الطماطم والبط النهري المشوي وحلوى كريم الكراميل وكبد البط البري على الخبز المحمص ! وهو عموما يرى أنه كلما كانت الظروف مواتية ، كلما كان الطباخ السوداني قادراً على الإبداع . ومن ذلك وصفه بكثير من التفصيل طريقة صنع القهوة وأبعاد الفندك في الطول والعرض بمقياس البوصة ، ومن ذلك أيضا وصفه للمعروضات في سوق أمدرمان وطريقة عرض الباعة لبضاعتهم ، وكذلك وصفه للآلات الموسيقية التي وصفها بالقليلة والبدائية مثل الربابة وصافرات الخشب . كذلك ربما كان من المهم الإشارة هنا إلى أن الاهتمام بالتفاصيل لم يكن مجرد ترف شخصي أو مسألة تترك للظروف بالنسبة للحكومة ، إذ يذكر المؤلف أن دفاتر اليوميات التي كانت ترسل شهريا من المديريات إلى الخرطوم كانت تحتوى ضمن ما تحتوي على ملخصات قصيرة عن الحقائق وقراءات يومية لمستوى النيل وسجلات لكميات الأمطار وأوقات سقوطها وملاحظات على الجريمة أو نتائج التجارب الزراعية . كذلك ذكر جاكسون أن بعض نشاطاته أو مهامه كان أخذ عينات من التربة من أعماق مختلفة ، جمع النباتات والاعشاب وكذلك محاولة عمل نوع من الخرائط للبلاد . من الواضح أن المتحسرين على خروج الانجليز من السودان من السودانيين – على قلتهم وقتها – كانت لهم من الأسباب المقنعة ما لهم !
يحفل الكتاب كذلك بالكثير من وصف المعاناة والصعوبات التي واجهها الموظفون الانجليز في السودان ، بعض هذه الصعوبات كان ناجما عن صعوبة الحياة في قطر كالسودان وقتها ، وبعضها كان ناجما عن صعوبة التواصل مع السكان المحليين لاختلاف الثقافات ولأسباب أخرى عديدة . من ذلك ما ذكره المؤلف عن لسعات العقارب التي كان قد تعرض لها ، ومعاناة المبشرين الذين تعرضوا لغزو الثعابين والعقارب ، وفي شأن المبشرين يذكر المؤلف قصة العشرين مبشراً الذين سافروا عبر النيل الأبيض فمات منهم ثلاثة عشر بالملاريا خلال عدة سنوات ، ومات اثنان منهما بالدسنتاريا بينما تقاعد اثنان منهما بصحة معتلة .
عن عرب السودان يقول جاكسون أن عادة الإكرام لتحية الغريب لابد أنها جاءت مع العرب من بلادهم قليلة السكان عبر البحر الأحمر ، من الواضح أنه هنا يتحدث عن كرم البدو في الجزيرة العربية ، ولكن ، يقول المؤلف ، تم الاحتفاظ بها في السودان رغم كثرة الزائرين وقرب المسافات . ويرى جاكسون كذلك أن أطفالهم ، أي عرب السودان ، كانوا أذكياء للغاية بحسب تعبيره . وعلى ذكر الذكاء فقد ذكر جاكسون أن قصاصي الأثر في شمال السودان كانوا شديدي الذكاء لحد بعيد ويذكر بعض القصص في ذلك . لقد تميز السودانيون دائما بالذكاء في رأيه ، ويذكر جاكسون أن طالبا سودانيا التحق بجامعة كيمبردج لسنة واحدة وحصل على الدبلوم في علم الآثار الذي يستغرق نيله عادة سنتين من طالب انجليزي . ربما كان من المهم هنا الإشارة إلى فقر مكتبتنا السودانية فيما خص علم اجتماع السودانيين وعاداتهم في الحقب المختلفة ، فالحكايات الشفاهية عن قصاصي الأثر على سبيل المثال وبراعتهم العالية لدرجة لا تصدق أحيانا ، هذه الحكايات صار ينظر إليها في عداد الحكايات الخرافية أو غير الموثوقة على أفضل التقدير . لقد تعجب جاكسون من ذكاء قصاص الأثر وبراعته إذ تعرف على أثر قدم كان قد رآها قبل ثلاث سنوات ، وعندما سأله جاكسون عن ذلك أجاب الرجل إجابة طريفة إنما لا تخلو من دلالات الدربة والمهارة : لقد كانت قدمه ، أي اللص ، قبيحة جدا ، إذا رأيت وجها قبيحا جدا ألا تستطيع تذكره بعد ثلاث سنوات ؟
عن العساكر السودانيين يقول جاكسون إن هؤلاء السودانيون محاربون ممتازون وهم فخورون بقادتهم من الضباط البريطانيين ، كما أن الضباط فخورون بقيادة مثل هؤلاء الشجعان المخلصين في المعارك . في الحقيقة ربما لم يخل كتاب مذكرات لإداريي السودان من الانجليز من الإشادة بشجاعة السودانيين على وجه العموم ، وشجاعتهم النادرة في حالتهم جنودا على وجه الخصوص . غير أن جاكسون يذكر نقطة مهمة هنا ، فهو يقول عنهم : قاتل السودانيون لمجرد حب القتال . ربما كان ذلك صحيحا إلى وقتنا هذا مع ما يحمله ذلك من تعارض مع قيم الانسانية والحضارة .
تظهر مفاهيم عبء الرجل الأبيض ودوره تجاه الشعوب المستعمرة المتخلفة والغارقة في دياجير ظلمات الجهل والخرافات مرة مرة في الكتاب . ففي موضع من الكتاب ، في الباب الثاني عشر يقول جاكسون إن الأهالي سيتذكرون بمزيد من الشكر شجاعة أولئك الانجليز القليلين الوحيدين الذين واجهوا الموت بالسحر أو بالحراب وتحدوا سلطات العرافين ليفتحوا أمام الشباب مجالات غير متخيلة من السعادة والرجاء بحسب تعبيره . وفي باب مرض النوم يذكر المؤلف إن أمراضا مثل الفرامبوزيا ، القرح الاستوائية ، داء الفيل ، الجذام ومرض النوم ، كانت أمراضا لا مفر منها وغير قابلة للعلاج إلى أن جاء الرجل الأبيض إلى إفريقيا ! وفي مكان آخر من الكتاب يتحدث عن السودانيين قائلا : وكرم معظم هؤلاء الناس الذين جئنا لمساعدتهم . على كل حال لا يمكن بحال من الأحوال نكران فضل العلماء والباحثين الأوروبيين الأوائل في مجالات أمراض المناطق المدارية والاستوائية ، ولشخص مثلي عمل في مجال أبحاث الكلازار وغيره من أمراض المناطق الحارة ، لشخص مثلي ، يبدو ما فعله أولئك الناس تحت تلك الظروف والأحوال أقرب إلى المعجزات . وإن كان ثمة ملاحظة شخصية يمكنني الإشارة إليها هنا ، فهي أننا ، في السودان على سبيل المثال ، ومن بعد خروج الانجليز لا تتوفر لدينا الاحصائيات الدقيقة عن انتشار الأمراض المتوطنة في البلاد ، المتوطنة منها والطارئة ، ربما كان من المثير لقارىء هذا المقال لو أنه اطلع على تقارير وزارة الصحة السودانية في زمن الانجليز ، ففي تقرير العام ..... ترد تفاصيل عن ........
أثار انتباهي في الكتاب إشارة المؤلف إلى معنى اسم الخرطوم باللغة العربية ، فهو يقول إن اسم الخرطوم بالعربية يعني خرطوم الفيل ، وهذه الرواية بالطبع ، رغم ضعفها ربما ، لا تزال متداولة حتى يومنا هذا مع روايات أخرى في تفسير اسم الخرطوم . أما عن أمدرمان فهو يقول إن اسمها حسب بعض الروايات يعود إلى جبلين صغيرين ( دورمين ) في المنطقة ، ولكنه وكما يذكر يفضل الرواية السائدة منذ خمسين سنة – وقتها – بأن المكان قد سمي على أم رجل يسمى درمان جاء من الغرب قبل سنوات عديدة وكوّن ثروة وكانت أمه صاحبة مشروعات عظيمة وأنها بدأت في خدمات معدية بين أمدرمان وجزيرة توتي ومستوطنات الحلفايا وما عرف فيما بعد بالخرطوم . لا تزال بالطبع مثل هذه الروايات عن أصل اسم أمدرمان متداولة حتى يومنا هذا . ما أثار استغرابي أو انتباهي كذلك في الكتاب أن مسألة تخطيط الخرطوم على شكل العلم البريطاني كانت متداولة بين الناس حتى في ذلك الوقت المبكر ، فقد كنت أظن أن ذلك كان من تأثيرات الحركة الوطنية بعيد الاستقلال وربما قبل ذهابه بقليل . الخرطوم التي ذكر المؤلف أنها في العام 1772 عند وصول المستكشف بروس إليها كانت تتألف فقط من أكواخ صيادي الأسماك ولم تكن هناك مدينة ، بينما كانت الحلفايا قرية تتألف من نحو 300 منزل ، وكان الناس يعيشون على صناعة أقمش الدمور ويأكلون القطط والتماسيح وأفراس النهر التي كانت كثيرة تلك الأيام . بالطبع انقرضت أفراس النهر الآن واختفت من السودان .
على كل ، يذكر جاكسون ، أن كتشنر تبنى مشروع شبكة شيكاغو لشوارع الخرطوم بطرق مائلة لتقصير المسافة بين جزء وآخر من المدينة ، وكان من أثر ذلك يقول المؤلف ، أن الخرطوم خططت في صورة سلسلة من الأشكال للعلم البريطاني مما أوجد مؤخرا – وقتها – الأسطورة الجميلة ، ولكنها خاطئة – والكلام لجاكسون ، بأن أشكال العلم البريطاني التي شكلتها شوارع الخرطوم خططها كنشنر عن قصد كرمز للوطنية البريطانية . رغم ذلك فللمؤرخ السوداني الكبير الدكتور محمد ابراهيم أبو سليم رأي آخر ، إذ يرى أبو سليم أنه " إذا تمثل المرء صورة هذه المربعات ( يعني التي تكونها الشوارع في الخرطوم ) ، والشوارع التي تقطعها وتلتقي مع بعضها البعض لتبين له ما على العلم البريطاني من خطوط وأدرك الشبه بينها وبين العلم البريطاني . وهذا ما أراده اللورد كتشنر ، إذ لم يكفه رفع علم أمته على القصر المتهدم فشرع يرسم هذا العلم على أرض المدينة ، وفي ذلك بعض خيلاء جيله من البريطانيين الذين كانوا يرون أنفسهم فوق كل الناس وحضارتهم فوق كل الحضارات وعلمهم هذا رمزا لكل هذه العظمة والامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس " . ليس الغرض من هذا الاستعراض للكتاب بالطبع الوقوف على الحقائق التاريخية فيه أو مغالطتها ، رغم أهمية ذلك في مسألة التوثيق للتاريخ في السودان ، إذ يتطلب ذلك أكثر من مجرد مقالة تكتب لغرض عرض كتاب ، ولكن اللافت في هذه المسألة بالتحديد أن رأيا أخر لبريطاني آخر يخالف ما ذكره جاكسون بالكلية ، ففي مقال للكاتب الانجليزي سي اي جسه ووكلي نشر على جزأين في العددين 18 و 19 من مجلة السودان في رسائل ومدونات ، يذكر ووكلي ما نصه أن اللورد كتشنر أبدى اهتماما ملحوظا بخطة العمل التي تنص على تخطيط المدينة على شكل علم المملكة المتحدة وبصورة مكررة ، وهذا التخطيط ، يقول ووكلي ، كان مناسبا وبصورة مميزة لخدمة الأغراض الدفاعية .
كذلك لفت انتباهي أن كلمة مثل " عرت " التي تقال لحث الحمير على الإسراع في السير ، قد كانت متداولة منذ ذلك الزمان . يجد القاريء كذلك أن طريقة صنع القهوة بالهاون لا تزال هي هي حتي يومنا هذا . ويجد القاريء كذلك كلمة الكرباج بل ومم يصنع الكرباج . كذلك كلمات مثل المرمطون ، الهبابة والتي يرد وصفها بأنها مصنوعة من السعف لتحريك الهواء ، وكلمات ومصطلحات أخرى يجدها القاريء عبر الكتاب . وهذه كلها دلالات على عمق ارتباط جاكسون ودخوله في تفاصيل حياة السودانيين ، ولكنه عندما قص حكايته مع السيد بريمة السوداني الأسود الطويل المحتفي باسمه وهو الدرويش الفوراوي المحب للانجليز أكثر من الدراويش بسبب قصة يرويها في الكتاب ، عندما قص جاكسون قصة بريمة فقد فسر اسم بريمة بفتاحة فلينة الزجاجة corkscrow ، وهو تفسير بدا لي غير صحيح ، فاسم بريمة في الغالب هو ....... ، غير أن ذلك يشير إلى عمق معرفة جاكسون بالحياة السودانية ، فالصحيح كذلك أن السودانيين يسمون أغطية الزجاجات البريمة .
بدا لي من الغريب أنه كان هناك سواح في ذلك الزمن يحضرون إلى السودان . ذكر جاكسون أن سلاطين باشا دعاه في أحد الأيام لتناول العشاء معه في الخرطوم للقاء بعض أصدقائه النمساويين الذين يرغبون في زيارة أم درمان ، المهم ، ذكر جاكسون أنه كان مسرورا لأن الحفل ضم ثلاث سائحات فاتنات . يمكن بالطبع تصور ذلك في تلك الأزمنة الخارجة من حكم المهدية في السودان .
وعن سلاطين باشا صاحب كتاب السيف والنار في السودان يقول جاكسون إن سلاطين الذي ظل في أسر المهدي و الخليفة من بعده لفترة أثنتي عشرة سنة ، يقول جاكسون إن سلاطين تحمل مشقات قليلون من الأوروبيين هم من يستطيعون العيش بعدها . على كل يحفل الباب السابع " سجناء الدراويش " بالكثير من التفاصيل عن قصة سلاطين حكاها سلاطين بنفسه للمؤلف ولكن هذا ليس مكان استعراضها دون شك . يتعرض جاكسون في هذا الفصل كذلك لقصة الأب اورفالدر الأسير الآخر لقوات المهدية رفقة الراهبات الثلاث اللواتي قال جاكسون عنهن إنهن تحملن الشمس المحرقة وعسف جنود المهدية الذين حملوهن بأحمال ثقيلة كالحيوانات وكان يتم ضربهن بالسياط عندما يتعثرن أو يتأخرن ، وفي النهاية تسلخن حتى أصبحن لا يشبهن البشر كثيرا ، وواحدة منهم علقت في شجرة وجلدت على باطن قدميها حتى تورمتا واسودتا وسرعان ما سقطت أظافرهما . قصة الأب اورفالدر والراهبات كذلك يذكرها جاكسون بكثير من التفاصيل التي قصها عليه الأب عند لقائه به في أمدرمان ، وواحدة من الراهبات الثلاث ذكر جاكسون أنها توفيت قبل رحلة اورفالدر والراهبتين في سفرة الهروب الصعبة والمليئة بالمخاطر التي قد لا يمكن تصورها .
إنه لمن الغريب فعلا التأمل في طبيعة البشر ، وفي السبب الذي قد يكون دفع برجال مثل سلاطين وأورفالدر للعودة إلى السودان مرة أخرى بعد انهزام وأفول دولة المهدية .
يتحدث جاكسون عن لقائه بالشيخ بابكر بدري باعجاب ، ويصفه بأنه واحد من أكثر الشخصيات البارزة في السودان . وكعادة جاكسون في قص التفاصيل فقد ذكر كثيرا من التفاصيل عن بابكر بدري وشيئا من قصة حياته وعلاقته بالمهدية وما قام به من فتح كبير في مجال تعليم البنات في السودان .
في عبء الرجل الأبيض يقول جاكسون عن الزاندي إن زعماءهم يحكمونهم بأقسى أنواع الوحشية ، حتى أنه قال إنه لا يريد أن يسجلها . غير أنه قال بعدها : بالنسبة لآخرين أشعر بأنه من الأصح الإشارة إليها فقط بسبب أنه مازال هناك منتقدون للإدارة البريطانية لا يرون فيها إلا استغلالا جشعا لأناس متخلفين عاشوا حياة بسيطة سعيدة إلى أن جاء تدخل الرجل الأبيض فعكر صفوها ، فهو هنا يرى أن الرجل الأبيض جاء مخلصا في مثل هذه الحالات من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان .
الرجل الأبيض الذي يرى جاكسون أن بعض ما فعله في جنوب السودان سمح بعدها للبنات والاولاد أن يذهبوا لمدرسة مسيحية دون التعرض لهم بسوء وأن يسافروا بسيارة أو لوري وأن يتمتعوا بأطايب لم يحلم بها آباؤهم وغير ذلك مما يذكره جاكسون ، هذا الرجل الأبيض سيتم ذكره بمزيد من الشكر والامتنان في راي جاكسون : " أولئك الانجليز القليلين الوحيدين الذين واجهوا الموت بالسحر أو بحربة مفاجئة وتحدوا وأنهوا سلطات العرافين ومروجي الأدوية المحلية " ، وحتى منتقدي الامبراطورية البريطانية وقتها – وكثيرون منهم لم يكونوا قط شرق مارقيت أو غرب بلاكبول ، يقول جاكسون – قد يتوقفون للتأمل في شجاعة هذه القلة من الأطباء البريطانيين والسوريين .
وفي شأن المسئوليات الجسام التي كانت ملقاة على عاتقهم ذكر المؤلف بشفافية ووضوح ما ترجمه المترجم بالنص التالي : " إننا قد ارتكبنا أخطاء في إدارتنا لأناس متخلفين ، ينبغي أن أكون أول المعترفين بذلك . ومع ذلك كيف كانت ستكون بخلاف ذلك عندما كانت مسؤولياتنا عظيمة للغاية وإن الناس الذين تحت سيطرتنا كثيرون للغاية وأن أولئك المسؤولين من رفاهيتهم قليلون للغاية ؟ " .
في الباب الرابع عشر " وادي حلفا " ، يذكر جاكسون قصة الكونت مجري الجنسية الذي قام برحلة بدراجة بخارية إلى مصر وحدث أن سمع أناسا من وادي حلفا يتحدثون بلهجة مجرية ، واندهش بعدها عندما علم أنهم يعيشون في ماقيار – نارتي بوادي حلفا . والقصة أنه عندما غزا السلطان سليم مصر في 1517 فيبدو أنه أقام نقطة خارجية من المجريين تحت قيادة حسن كوشي على جزيرة بالقرب من وادي حلفا ، ولمدة أربعة قرون ونصف ظلوا مقطوعين من أرض ميلادهم واحتفظوا بلغتهم صافية لدرجة مكنت مجريا من معرفتها وسط محيط غير متوقع . من المعلوم والمعروف الآن أن هؤلاء الناس من المجر يعرفون الآن في حلفا والسودان الشمالي عموما بالمجراب بعد أن اكتملت سودنتهم ! على كل حال يقول جاكسون عن فترته في وادي حلفا أنها كانت أربع سنوات سعيدة للغاية بين أفقر وربما أكرم الناس في السودان .
لقد كان كان السودان وأهله خارج الحضارة أو خارج العالم ، يقول جاكسون في إحدى قصصه في الكتاب إنه بعدما نجح في أقناع رث الشلك بالسفر معه للشمال فقد حدث ذلك وسط دموع مئات النساء اللاتي زاد نواحهن إلى هدير مفجع عندما حبا الملك على أربع لصعوده بسلم الباخرة إلى الطابق الأول ، إذ لم يكن متعودا على السلالم ، ثم رفع نفسه إلى الطابق الرئيسي بدفع ظهره إلى الأعلى .
ومع ذلك فلم يخل السودان وقتها من الأجانب غير الانجليز ، إذ ذكر المؤلف أنه قد تعجب من وجود التجار اليونانيين في تلك الأصقاع ، وقد قال في ذلك إنه لم يستطع أن يبعد عن تفكيره أنه إذا استطاع إغريقي أن يأتي إلى سنار لتحسين أوضاعه ، فإنه لابد أن تكون اليونان بلدا فقيرا للغاية !
يذكر المؤلف أن السودان كان دائما من قبل المصريين بلداً خطراً ورهيباً لا يرغب المرء في الذهاب إليه طواعية ، وأن بعض الأتراك والمصريين الذين يعينون لإدارة السودان كانوا يرسلون إلى هناك بدلاً من قضاء عقوبة السجن لبعض الجرائم التي اقترفوها في مصر ! وكانوا على وجه العموم يقررون جمع أكبر كمية من المال في أقصر وقت فكانت تجارة الرقيق توفر لهم ذلك .
في الباب السادس عشر والأخير من الكتاب يتحدث جاكسون بعاطفية عن المحبة التي غمره بها السودانيون عند رحيله وامتنانهم لخدمات الانجليز . من ذلك ما ذكره من أن شيخا كبيرا من رفاعة أخبره أنه إذا أخذت الحكومة كل ممتلكاته فإنه لا يستطيع إلا أن يقول شكرا ، شكرا لاعطائي ثلاثين سنة من السلام – الثلاثين الأولى في تاريخ بلادي ! لم يدر ذلك بالطبع بخلد محمد أحمد المهدي حين انتفض بثورته وقتها ، إنما ما حدث قد حدث .
بعد ساعتين من تحرك الباخرة التي سيغادر عبرها السودان وقف جاكسون على السطح الأعلى ليلقي النظرة الأخيرة على الأرض التي " كنت فيها سعيداً للغاية " كما قال ، " تلك الأرض التي إذا استخدم فيها الزعماء السودانيون الذين ستؤول إليهم مسئوليات عظيمة في المستقبل القريب جدا – والحديث لجاكسون – إذا استخدموا السلطات المكتسبة حديثا لرفاهية أتباعهم وليس كوسيلة لإثراء أنفسهم على حساب الآخرين ، فإن تضحيات أولئك الذين ذهبوا من قبل لن تذهب سدى "!
ربما لا نحتاج للتفصيل لتوضيح ما انتهى إليه الأمر فيما خص نبوءته الأخيرة !

 

الخطأ في نسبة ميدان جاكسون
اختلاف الترجمة واختصارها
ترجمة العنوان

1- الطيب صالح ، مختارات ، وطني السودان . مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي . فبراير 2010 .

wmelamin@hotmail.com

 

آراء