أين مصر من أحداث السودان الانقلابية؟
جمال محمد ابراهيم
15 November, 2021
15 November, 2021
(1)
الناظر العجل لحقيقة العلاقات بين السودان ومصر يرى بلدين ليسا فقط شقيقين، بل هما على علاقة توأمة افتراضية، جمعتهما فيها الجغرافيا كما التاريخ. لكنّ النظرة الفاحصة ترى أنّ ثمّة التباسات، على الرغم من حميمية تلك العلاقة، قد اعترت تلك العلاقة في تاريخها القريب. يرى سودانيون كثيرون، خصوصاً من جيل سنوات خمسينيات القرن الماضي وستينياته، أنّ بلادهم قد دفنت مدينة سودانية كاملة المعالم، هي مدينة وادي حلفا القديمة، تحت مياه بحيرة السد العالي، إكراماً لعيون مصر جمال عبد الناصر التي شيدت السد العالي في منطقة الحدود المشتركة بين البلدين. لكنّ مصر، في الوقت ذاته، في عام 1957 نراها تعلن سيادتها على مثلث حلايب السوداني. لجأ السودان إلى الأمم المتحدة، وبقيت شكواه ضد مصر على طاولة مجلس الأمن، معلقة منذ ذلك التاريخ من دون حسم. حين أعلن عبد الناصر قيام الوحدة مع سورية، تشكك مؤرّخون، مثل البريطاني ك.هندرسون الذي تساءل عن أيّ وحدة أنسب لمصر: مع سورية أم مع السودان؟ لمصر هنا، ثمّة أولويات ملتبسة.
ثم تقع على مصر هزيمة حرب يونيو 1967، فتهبّ الخرطوم لنصرة الزعيم العربي عبد الناصر، فتعجب العالم عن عاصمةٍ تهلل لقائدٍ مهزوم، قدم ليحضر قمة سياسية عربية في عاصمة السودان، غير أنّ الخرطوم لم ترفع معنويات مصر وحدها، بل معنويات الشعوب العربية جمعاء، عبر مؤتمر لاءات الخرطوم الثلاث الشهيرة.
لكن تسمع في 1996 عن محاولة فاشلة استهدفت لأوّل مرّة رئيساً مصرياً خارج بلاده. لم يكن وراءها إسرائيليون، أو حتى فلسطينيون ناقمون على اتفاقات كامب ديفيد التي أبرمتها مصر مع إسرائيل. بل كانوا أزلاماً من رجال نظام عمر البشير، خطّطوا للعملية نظرياً في الخرطوم، وفشلوا في تنفيذها ميدانياً في أديس أبابا. الرئيس المصري الذي روّج نظام البشير عام 1989 هو نفسه من عمل هذا النظام لاغتياله عام 1996، وذلك وجه لالتباسات العلائق في العقود الأخيرة بين أنظمة الحكم في كلّ من السودان ومصر.
(2)
ما حقيقة الموقف المصري الغامض من انقلاب الجنرالات في السودان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ولماذا بدا الصوت المصري خفيضاً؟ وهل هي المرّة الأولى، أم أنّ ذلك مسلك بنيوي مُمنهج، تعتمده الدولة في مصر تجاه الدولة في السودان؟ لننظر في التاريخ القريب برهة، لنرى وجوهاً أخرى تعكس التباسات في نظر كثيرين بشأن علاقة البلدين.
كانت للشعب السوداني انتفاضته في 21 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1964، وأسقطت النظام العسكري الذي حكم البلاد من 1958 إلى 1964، وأسهمت الرتب الوسيطة في الجيش في إنجاح ذلك الحراك. تلك انتفاضة جرت وقائعها في سنوات ما قبل ثورات المعلوماتية والاتصالات والعصف الإلكتروني الذي اجتاح العالم الآن، وإلا حظيت بصفة أول موسم ربيع سياسي في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، قبل اشتهار ما عرف لاحقاً بثورات الرّبيع العربي، في عام 2011 وبعده. كان لدولة مصر موقفها الملتبس بشأن انتفاضة الشعب السوداني في تلك الحقبة، إذ كتب محمد حسنين هيكل في أسبوعيته "بصراحة" في صحيفة الأهرام، في 6/ 11/ 1964 مقالاً بعنوان "ماذا بعد في السودان؟" حمل تشكيكاً في انتفاضة السودانيين الذين يفترضون أن ما يكتبه هيكل لا يصدر إلا عن الصوت الرسمي للقيادة المصرية. شـنّت الصحف السودانية هجوماً كاسحاً على هيكل، وكتب صحافي سوداني مقالاً في الردّ عليه، بعنوان "وماذا قبل في السودان؟". هبّت في اليوم التالي تظاهرات عارمة أحاطت بالسفارة المصرية في الخرطوم، مُندّدة بالمواقف المصرية تجاه ثورة السودان التي أسقطت نظام الفريق إبراهيم عبّود في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1964.
(3)
ثم يأتي السؤال ثانية هنا: لماذا يبدو الصوت المصري خفيضاً، بشأن ما يجري هذه الآونة في السودان، من تحوّلات سياسية جارفة، شغلت أنظار أطراف المجتمع الدولي منظماته وهيئاته الدولية والإقليمية، فيما بقي الموقف المصري بعيداً؟ اكتفت القاهرة بتقديم نصحٍ بلا لونٍ ولا رائحة، ناشدتْ بموجبه جميع الأطراف السودانية ألّا تجنح للتصعيد. بدا لأكثر السودانيين، كأنّ "الشقيقة" مصر غير معنية بتفاصيل ما وقع في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ولا ما تبع ذلك من إلغاء للمواثيق التي تحكم الفترة الانتقالية في السودان، وهو ما اعتبر إنهاءً فعلياً للشراكة بين المكوّنين، المدني والعسكري، وأدخل السودان فيما يشبه النفق المظلم.
لم تجد الدولة في مصر غير "تقديم النصح" فيما بلغتْ تجاوزات اللجنة العسكرية في السودان مع المكون المدني الذي قاد الثورة على نظام البشير في خلافاته، حدّاً أقدمت فيه على لجم حقّ التظاهر السلمي ، وتجرّأتْ على اعتقال رئيس الوزراء ومعه وزراؤه، واقتادتهم جميعاً وبأسلحة مشرعة إلى معتقلات سرية. ذلك ما فعله أولئك الجنرالات مع البشير قبل عامين، فأجبروه بما يشبه التمثيلية الدرامية على التنازل، بعد أن أطبق الثوار السودانيون على نظامه المنهار، غير أنّ ما يثير العجب بشأن الموقف المصري تجاهله انقلاب جنرالات السودان الحالي على الوثيقة الدستورية المؤقتة التي يفترض أن يقود الالتزام بها إلى إكمال مسيرة الانتقال الديمقراطي في السودان، ثمّ نراها تنهي الشراكة الهـشّـة بين المكوّن المدني الشعبي، صاحب الثورة التي أسقطت نظام البشير، والمكوّن العسكري الذي آثر الانحياز لتلك الثورة، في الساعة الخامسة والعشرين لنجاح ثورة السودانيين في ديسمبر/ كانون الأول 2018.
هكذا أجمع المجتمع الدولي على إدانة تلك الانتكاسة التي لحقتْ بثورة السودانيين التي حازتْ إعجاب العالم الحرّ الديمقراطي، ولم يتردّد عن إدانة انقلاب جنرالات السودان، غير بضع دول تحسب بأصابع اليد، أبدت صمتا تجاه الحالة الانقلابية في السودان، مثل روسيا والصين الشعبية وفنزويلا. ولعلّه مثير للغرابة عند كثيرين الموقف المصري "المحايد" بشأن أحداث السودان، فيما اعتاد العالم أن ينظر إلى مجريات أمور السودان عبر عيون مصرية.
(4)
ماذا حدث لتلك العيون المصرية، يا ترى؟ ممّا تحفظه ذاكرة المراقبين، قبل ثلاثين عاماً غداة انقلاب العميد عمر البشير، أنّ أغلب أطراف المجتمع الإقليمي، بل والدولي، قد اعتمدتْ قراءة القاهرة انقلاب عام 1989 على النظام الديمقراطي آنذاك في السودان. لقد فعلتْ تصريحات الرئيس المصري، حسني مبارك، المُرحّبة آنذاك، أنّ انقلابيي السودان "دول أولادنا" فعل النار في الهشيم. بعد ترويج الرئيس المصري لانقلاب الجنرال البشير وقتها، نال الأخير قبولاً من كامل دول الإقليم. ثم سرعان ما أدرك الرئيس مبارك الخديعة الكبرى التي ورّطه فيها رجال مخابراته. في عام 1996، كاد أزلام البشير أنْ ينالوا منه، في محاولتهم اغتياله. الدرس الذي استوعبته دول الإقليم، ومعهم أطراف المجتمع الدولي، أنّ نظام البشير قد خدعهم مثلما خدع الرئيس المصري. لم تعد العيون المصرية صالحة للنظر إلى مجريات الأمور في السودان.
(5)
في نظرة عامة إلى مُجمل التطورات السياسية في أنحاء المعمورة، مثّلت ثورة المعلوماتية والتواصل عبر المنصّات الإلكترونية تطوراً بالغ الأثر على متابعة تلك التطورات. تنقل العين المباشرة للقنوات الفضائية الأحداث في عين المكان وعين الزمان. لم تعد التغطيات الإعلامية قصراً على الإعلاميين وحدهم، إذ مجرّد حملك هاتفاً جوّالاً، يتيح لك ليس المتابعة فحسب، بل المشاهدة المباشرة والتوثيق الآني والتفاعل التبادلي مع أيّ حدث ماثل أمامك. العيون المصرية التي كان ينظر عبرها الآخرون إلى أحوال السودان تجاوزتها عيون أخرى أكثر حدّةً وأشد إبصاراً.
منحت المعلوماتية والتواصل الرقمي قدراً من المتابعة الإعلامية المباشرة والمؤثرة، بما يُغني عن انتظار التقارير الخبرية للأحداث السياسية، ولم تعد معه النظرة إلى التطورات السياسية في أي بقعة رهينةً لنظر عبر أيّ طرف ثالث. كان لافتاً، وفي ما يتعلق بأحداث السودان وانقلاب الجنرالات على المكوّن المدني، أنّ بياناً جمع الولايات المتحدة مع كلٍّ من السعودية والإمارات دان ما وقع في السودان، ودعا إلى الحوار والرجوع إلى الوثيقة الدستورية المؤقتة، ولم تكن مصر جزءاً منه. باختصار، لم ترَ تلك الدول الثلاث موقفاً يجبرها على التماهي مع موقف طرفٍ كانت له المرجعية التاريخية في النظر إلى الشأن السوداني. الخشية أن تشكل التطورات السياسية الماثلة حول المواقف المصرية، وتوجهات الثورة الشعبية في السودان، وهذه الانعطافة الماثلة في علاقات مصر والسودان، انعطافاً سلبياً، قد لا يساعد في استدامة تلك العلاقات التي يقال إنّها عميقة عمق التاريخ المشترك.
الناظر العجل لحقيقة العلاقات بين السودان ومصر يرى بلدين ليسا فقط شقيقين، بل هما على علاقة توأمة افتراضية، جمعتهما فيها الجغرافيا كما التاريخ. لكنّ النظرة الفاحصة ترى أنّ ثمّة التباسات، على الرغم من حميمية تلك العلاقة، قد اعترت تلك العلاقة في تاريخها القريب. يرى سودانيون كثيرون، خصوصاً من جيل سنوات خمسينيات القرن الماضي وستينياته، أنّ بلادهم قد دفنت مدينة سودانية كاملة المعالم، هي مدينة وادي حلفا القديمة، تحت مياه بحيرة السد العالي، إكراماً لعيون مصر جمال عبد الناصر التي شيدت السد العالي في منطقة الحدود المشتركة بين البلدين. لكنّ مصر، في الوقت ذاته، في عام 1957 نراها تعلن سيادتها على مثلث حلايب السوداني. لجأ السودان إلى الأمم المتحدة، وبقيت شكواه ضد مصر على طاولة مجلس الأمن، معلقة منذ ذلك التاريخ من دون حسم. حين أعلن عبد الناصر قيام الوحدة مع سورية، تشكك مؤرّخون، مثل البريطاني ك.هندرسون الذي تساءل عن أيّ وحدة أنسب لمصر: مع سورية أم مع السودان؟ لمصر هنا، ثمّة أولويات ملتبسة.
ثم تقع على مصر هزيمة حرب يونيو 1967، فتهبّ الخرطوم لنصرة الزعيم العربي عبد الناصر، فتعجب العالم عن عاصمةٍ تهلل لقائدٍ مهزوم، قدم ليحضر قمة سياسية عربية في عاصمة السودان، غير أنّ الخرطوم لم ترفع معنويات مصر وحدها، بل معنويات الشعوب العربية جمعاء، عبر مؤتمر لاءات الخرطوم الثلاث الشهيرة.
لكن تسمع في 1996 عن محاولة فاشلة استهدفت لأوّل مرّة رئيساً مصرياً خارج بلاده. لم يكن وراءها إسرائيليون، أو حتى فلسطينيون ناقمون على اتفاقات كامب ديفيد التي أبرمتها مصر مع إسرائيل. بل كانوا أزلاماً من رجال نظام عمر البشير، خطّطوا للعملية نظرياً في الخرطوم، وفشلوا في تنفيذها ميدانياً في أديس أبابا. الرئيس المصري الذي روّج نظام البشير عام 1989 هو نفسه من عمل هذا النظام لاغتياله عام 1996، وذلك وجه لالتباسات العلائق في العقود الأخيرة بين أنظمة الحكم في كلّ من السودان ومصر.
(2)
ما حقيقة الموقف المصري الغامض من انقلاب الجنرالات في السودان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ولماذا بدا الصوت المصري خفيضاً؟ وهل هي المرّة الأولى، أم أنّ ذلك مسلك بنيوي مُمنهج، تعتمده الدولة في مصر تجاه الدولة في السودان؟ لننظر في التاريخ القريب برهة، لنرى وجوهاً أخرى تعكس التباسات في نظر كثيرين بشأن علاقة البلدين.
كانت للشعب السوداني انتفاضته في 21 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1964، وأسقطت النظام العسكري الذي حكم البلاد من 1958 إلى 1964، وأسهمت الرتب الوسيطة في الجيش في إنجاح ذلك الحراك. تلك انتفاضة جرت وقائعها في سنوات ما قبل ثورات المعلوماتية والاتصالات والعصف الإلكتروني الذي اجتاح العالم الآن، وإلا حظيت بصفة أول موسم ربيع سياسي في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، قبل اشتهار ما عرف لاحقاً بثورات الرّبيع العربي، في عام 2011 وبعده. كان لدولة مصر موقفها الملتبس بشأن انتفاضة الشعب السوداني في تلك الحقبة، إذ كتب محمد حسنين هيكل في أسبوعيته "بصراحة" في صحيفة الأهرام، في 6/ 11/ 1964 مقالاً بعنوان "ماذا بعد في السودان؟" حمل تشكيكاً في انتفاضة السودانيين الذين يفترضون أن ما يكتبه هيكل لا يصدر إلا عن الصوت الرسمي للقيادة المصرية. شـنّت الصحف السودانية هجوماً كاسحاً على هيكل، وكتب صحافي سوداني مقالاً في الردّ عليه، بعنوان "وماذا قبل في السودان؟". هبّت في اليوم التالي تظاهرات عارمة أحاطت بالسفارة المصرية في الخرطوم، مُندّدة بالمواقف المصرية تجاه ثورة السودان التي أسقطت نظام الفريق إبراهيم عبّود في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1964.
(3)
ثم يأتي السؤال ثانية هنا: لماذا يبدو الصوت المصري خفيضاً، بشأن ما يجري هذه الآونة في السودان، من تحوّلات سياسية جارفة، شغلت أنظار أطراف المجتمع الدولي منظماته وهيئاته الدولية والإقليمية، فيما بقي الموقف المصري بعيداً؟ اكتفت القاهرة بتقديم نصحٍ بلا لونٍ ولا رائحة، ناشدتْ بموجبه جميع الأطراف السودانية ألّا تجنح للتصعيد. بدا لأكثر السودانيين، كأنّ "الشقيقة" مصر غير معنية بتفاصيل ما وقع في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ولا ما تبع ذلك من إلغاء للمواثيق التي تحكم الفترة الانتقالية في السودان، وهو ما اعتبر إنهاءً فعلياً للشراكة بين المكوّنين، المدني والعسكري، وأدخل السودان فيما يشبه النفق المظلم.
لم تجد الدولة في مصر غير "تقديم النصح" فيما بلغتْ تجاوزات اللجنة العسكرية في السودان مع المكون المدني الذي قاد الثورة على نظام البشير في خلافاته، حدّاً أقدمت فيه على لجم حقّ التظاهر السلمي ، وتجرّأتْ على اعتقال رئيس الوزراء ومعه وزراؤه، واقتادتهم جميعاً وبأسلحة مشرعة إلى معتقلات سرية. ذلك ما فعله أولئك الجنرالات مع البشير قبل عامين، فأجبروه بما يشبه التمثيلية الدرامية على التنازل، بعد أن أطبق الثوار السودانيون على نظامه المنهار، غير أنّ ما يثير العجب بشأن الموقف المصري تجاهله انقلاب جنرالات السودان الحالي على الوثيقة الدستورية المؤقتة التي يفترض أن يقود الالتزام بها إلى إكمال مسيرة الانتقال الديمقراطي في السودان، ثمّ نراها تنهي الشراكة الهـشّـة بين المكوّن المدني الشعبي، صاحب الثورة التي أسقطت نظام البشير، والمكوّن العسكري الذي آثر الانحياز لتلك الثورة، في الساعة الخامسة والعشرين لنجاح ثورة السودانيين في ديسمبر/ كانون الأول 2018.
هكذا أجمع المجتمع الدولي على إدانة تلك الانتكاسة التي لحقتْ بثورة السودانيين التي حازتْ إعجاب العالم الحرّ الديمقراطي، ولم يتردّد عن إدانة انقلاب جنرالات السودان، غير بضع دول تحسب بأصابع اليد، أبدت صمتا تجاه الحالة الانقلابية في السودان، مثل روسيا والصين الشعبية وفنزويلا. ولعلّه مثير للغرابة عند كثيرين الموقف المصري "المحايد" بشأن أحداث السودان، فيما اعتاد العالم أن ينظر إلى مجريات أمور السودان عبر عيون مصرية.
(4)
ماذا حدث لتلك العيون المصرية، يا ترى؟ ممّا تحفظه ذاكرة المراقبين، قبل ثلاثين عاماً غداة انقلاب العميد عمر البشير، أنّ أغلب أطراف المجتمع الإقليمي، بل والدولي، قد اعتمدتْ قراءة القاهرة انقلاب عام 1989 على النظام الديمقراطي آنذاك في السودان. لقد فعلتْ تصريحات الرئيس المصري، حسني مبارك، المُرحّبة آنذاك، أنّ انقلابيي السودان "دول أولادنا" فعل النار في الهشيم. بعد ترويج الرئيس المصري لانقلاب الجنرال البشير وقتها، نال الأخير قبولاً من كامل دول الإقليم. ثم سرعان ما أدرك الرئيس مبارك الخديعة الكبرى التي ورّطه فيها رجال مخابراته. في عام 1996، كاد أزلام البشير أنْ ينالوا منه، في محاولتهم اغتياله. الدرس الذي استوعبته دول الإقليم، ومعهم أطراف المجتمع الدولي، أنّ نظام البشير قد خدعهم مثلما خدع الرئيس المصري. لم تعد العيون المصرية صالحة للنظر إلى مجريات الأمور في السودان.
(5)
في نظرة عامة إلى مُجمل التطورات السياسية في أنحاء المعمورة، مثّلت ثورة المعلوماتية والتواصل عبر المنصّات الإلكترونية تطوراً بالغ الأثر على متابعة تلك التطورات. تنقل العين المباشرة للقنوات الفضائية الأحداث في عين المكان وعين الزمان. لم تعد التغطيات الإعلامية قصراً على الإعلاميين وحدهم، إذ مجرّد حملك هاتفاً جوّالاً، يتيح لك ليس المتابعة فحسب، بل المشاهدة المباشرة والتوثيق الآني والتفاعل التبادلي مع أيّ حدث ماثل أمامك. العيون المصرية التي كان ينظر عبرها الآخرون إلى أحوال السودان تجاوزتها عيون أخرى أكثر حدّةً وأشد إبصاراً.
منحت المعلوماتية والتواصل الرقمي قدراً من المتابعة الإعلامية المباشرة والمؤثرة، بما يُغني عن انتظار التقارير الخبرية للأحداث السياسية، ولم تعد معه النظرة إلى التطورات السياسية في أي بقعة رهينةً لنظر عبر أيّ طرف ثالث. كان لافتاً، وفي ما يتعلق بأحداث السودان وانقلاب الجنرالات على المكوّن المدني، أنّ بياناً جمع الولايات المتحدة مع كلٍّ من السعودية والإمارات دان ما وقع في السودان، ودعا إلى الحوار والرجوع إلى الوثيقة الدستورية المؤقتة، ولم تكن مصر جزءاً منه. باختصار، لم ترَ تلك الدول الثلاث موقفاً يجبرها على التماهي مع موقف طرفٍ كانت له المرجعية التاريخية في النظر إلى الشأن السوداني. الخشية أن تشكل التطورات السياسية الماثلة حول المواقف المصرية، وتوجهات الثورة الشعبية في السودان، وهذه الانعطافة الماثلة في علاقات مصر والسودان، انعطافاً سلبياً، قد لا يساعد في استدامة تلك العلاقات التي يقال إنّها عميقة عمق التاريخ المشترك.