إحــقــاق الحــق

 


 

 

 

زفرات حرى

الطيب مصطفى

 

 

حزنت أنني انتهيت من استعراض كتاب الشيخ الدكتور القرضاوي عن شيخه الإمام محمد الغزالي الذي يعتبر أحد أهم رموز ومفجِّري الصحوة الإسلامية التي مكّنت الإسلام من التمدد على حساب النظريات الأرضية الهابطة التي قعدت بالأمة وجعلتها تتلقى الصفعات تلو الصفعات.

 

ابتداء من اليوم أرجو أن أستعرض بعض كتابات المفكر الإسلامي الأستاذ فهمي هويدي وهو من مدرسة الوسط التي تبناها الشيخان محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وقد اخترتُ موضوع اليوم من كتاب (إحقاق الحق) بعنوان (الاغتيال المعنوي للظاهرة الإسلامية) والمقال يتناول بعض النماذج من الحملة التي يشنها أعداء الإسلام لإحداث الهزيمة النفسية في دعاة الإسلام باعتبار أن الانهزام يعتبر أهم أسباب التراجع والانبطاح ومن ثم إخلاء الساحة لبني علمان وغيرهم من أعداء الإسلام داخل ديار الإسلام كما أنه يعتبر من أسباب انهزام الأمة أمام الحضارة الغربية المادية كنمط حياة ينبغي أن تحصن الأمة من الخضوع أو الانكسار والانحناء أمام جبروته وقوته الطاغية حتى تصمد أمام رياحه العاتية إلى أن تسترد عافيتها وتعود لقيادة العالم من جديد:

 

الاغتيال المعنوي للظاهرة الإسلامية

 

عندما يوصف المجاهدون بأنهم «إرهابيون»، وتغدو كلمة «الأفغان» تهمة أو وصمة، وعندما يصبح الملتحون والمحجبات مادة للسخرية والغمز في الصحف والمجلات، فينبغي أن نعيد النظر في مجمل الخطاب المرسل، وأن نقرأه من جديد، بأعين غير بريئة هذه المرة!

 

من هذه الزاوية فإنني أزعم ــ استناداً إلى شواهد أخرى عديدة سأعرض لها توًا ــ أن بعض الأبواق الإعلامية العربية تشارك الآن في حملة واسعة النطاق لاغتيال ظاهرة الإحياء الإسلامي معنوياً وأدبياً، وتقديمها إلى الناس في أتعس صورة ممكنة، لتنفيرهم منها وفضِّهم من حولها، بظن أن ذلك يعزِّز موقف عدد من الحكومات في مواجهتها الراهنة مع بعض التجمُّعات الإسلامية التي أصبحت تُنعت «بالأصولية».

 

وفكرة الاغتيال المعنوي التي أعنيها استقرّت وظيفتُها مع تقدُّم فنون الإعلام وتنامي سطوته وجبروته، بحيث لم يعد ضرورياً للتخلص من أي خصم سياسي أن تريق دمه، فتثير تعاطف الناس معه وربما حوّلته إلى بطل وشهيد. ولكن أصبح من الممكن عن طريق الإعلام تشويه صورته ومسخها تدريجياً، بحيث يتم حصاره وتصفيته والإجهاز عليه تمامًا، دونما حاجة إلى إراقة نقطة دم واحدة.

 

لقد نجحت إسرائيل من قبل في استخدام شعار «معاداة السامية»، وتحويله إلى سيف مسلط يمكن به قطع أي لسان أو الإجهاز على أي سياسي يعارضها، وهي الآن تستخدم كل ما تملك من وسائل الضغط والتخويف، لإثارة الرعب من شبح «الأصولية الإسلامية»، لتعزز دورها ومكانتها، وتصرف النظر عن مخططاتها وجرائمها في الأرض المحتلة، وهو ما فصّلنا فيه من قبل.

 

ومن مفارقات الأقدار وسخرياتها، أن بعض التصريحات السياسية ومعها بعض الأبواق الإعلامية العربية انضمّت دون أن تدري إلى موجة الإرسال الإسرائيلية، ومضت تردِّد نفس الكلام وتكدِّس ذات المعاني بصدد الحالة الإسلامية.

 

قرأت تصريحاً لمسؤول أمني كبير في إحدى دول المغرب العربي (هو وزير داخلية تونس) قال فيه ما نصه: لقد تحدثت في مناسبات عديدة إلى بعض زملائي في فرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة (؟) ــ ولكنني لم ألمس لديهم للأسف إلمامًا كاملاً بخطورة الجماعات الأصولية.. وبيّنت لزملائي الغربيين أن تلك الجماعات تهدف إلى هدم كل المبادئ التي تقوم عليها الحضارة الحالية!

 

هذا التصريح المدهش، الذي تجاوز حدود الخطاب الإسرائيلي في تصوير الحالة الإسلامية، يعكس مدى الانفعال الذي يتسم به أسلوب البعض في التعامل مع تلك الحالة، حتى صوّرها وكأنها إعصار كوني مدمِّر يهدد بتقويض حضارة العصر بأسرها.

 

من منطلق اعتبارها شرًا مطلقاً وخطرًا داهمًا، كانت التعبئة وتعددت جبهات المواجهة، ولعل النموذج الذي أشرنا إليه يعبِّر عن مدى الاستغراق والمبالغة في الحجم والخطر، الأمر الذي نجد صداه ملموسًا الآن في العديد من الأنشطة التي تتم على مستوى عربي، حتى صار عنوان «الخطر الأصولي» بمثابة بند ثابت مفروض على مختلف الاجتماعات العربية، بالحق أو بالباطل.

 

من قبيل ذلك الاحتمال الأخير أن بعض الصحف العربية أبرزت في وقت سابق أن قمة اتحاد المغرب العربي التي عُقدت في نواكشوط (في منتصف شهر نوفمبر29) بحثت موضوع الحركات الأصولية الإسلامية، ثم تبين من النص الذي نشرته «الشرق الأوسط» على لسان وزير خارجية موريتانيا (عدد 61/11) أن الموضوع لم يُطرح على مستوى وزراء الخارجية أو على مستوى القمة، الأمر الذي يعني أن المسألة لا تقف عند حدود الانفعال، ولكنها تجاوزت تلك الحدود إلى الاختلاق والافتعال!

 

لن نقف طويلاً أمام الخطاب السياسي في هذه المسألة، فموضوعنا منصب أساسًا على الخطاب الإعلامي المضاد للظاهرة الإسلامية.

 

فأنت ترى الآن أن كلمة «الأفغان» أصبحت تسرب في ثنايا الحديث عن كل شغب أو اشتباك يحدث في العالم العربي، من مصر الى الجزائر مروراً بتونس واليمن.. ومن ثم فقد استقر في الوعي العام أن كل من ذهب إلى أفغانستان عاد إرهابيا! ــ وكانت نتيجة ذلك أن دأبت الصحف في بعض الأقطار العربية إلى نشر أخبار عن إدراج أسماء الذين سافروا إلى أفغانستان في الموانئ والمطارات ليتم توقيفهم والتحقيق معهم لحظة وصولهم. في الوقت ذاته فقد اعتبرت عملية تدريبهم للمشاركة في الجهاد قبل سنوات بمثابة تخطيط للتآمر والإرهاب، ورأينا أن نفرًا من هؤلاء قُدموا للمحاكمة في قضية عرفت باسم: «العائدون من أفغانستان»!

 

هكذا، فقد تحولت واحدة من أنصع وأشرف صفحات زماننا، إلى لائحة اتهام تدمغ الشباب وتبرر ملاحقتهم ومحاكمتهم.. وفيما تمنينا أن تصبح تلك بداية لإحياء مفهوم الجهاد واستعادة لمكانته الجليلة، تمهيداً لرفع رايته في سماء الأمة وهي تسعى لاستخلاص حقوقها والدفاع عن كرامتها، فيما كان ذلك هو الأمل المرتجى، إذا بالصورة تنقلب رأسًا على عقب. ويصبح المجاهدون إرهابيين، ويتحول جهادهم الى جريمة، وتلطخ الصفحة الناصعة كلها بالشرور والأوحال!

 

وعندما برز اسم «حماس» في الساحة الفلسطينية أو تحولت الى قوة نضالية تؤرق المحتلين والمتآمرين على القضية، قرأنا في إحدى الصحف العربية لمن قال إن «الموساد» هي التي شجّعت حماس على الظهور لتضرب بها منظمة التحرير.. ثم قرأنا لاحقًا إشارات تدعي بأن مدير مكتب منظمة التحرير في باريس غادر البلاد لأنه تلقى تهديداً بالقتل من حماس، وقيل إن مجموعات من حركة المقاومة الإسلامية اتجهت إلى أوروبا في مهام للاغتيال مماثلة لتلك التي قامت بها جماعة «أبو نضال»!

 

هكذا في أجواء الحضور المبهر لحركة المقاومة الإسلامية، وبعد طرد أكثر من 004 واحد من قياداتها مع آخرين من حركة الجهاد الإسلامي.. في هذا المناخ تحديدًا تسربت تلك الانطباعات عبر الصحف، موحية بأن أولئك المناضلين الشرفاء هم من صنع الموساد ويعتزمون تصفية القيادات الفلسطينية!

 

تمامًا كما قيل إن الرئيس السادات هو الذي شجع الحركة الإسلامية في مصر ليضرب بها الشيوعيين والناصريين ــ وهو قول لا يزال يتردد إلى الآن ــ في حين أن المعلومة مكذوبة ومقلوبة، لأنه الوحيد بين رؤساء مصر الذي أدخل في الوزارة اثنين من كبار الشيوعيين!

 

ووسط مأساة البوسنة والهول العظيم الذي يلقاه المسلمون هناك، إذا بالبعض يختزل الحماس السائد في العالم العربي لإغاثة المنكوبين في مجرد الزواج من البوسنويات! ــ ورأينا إحدى صحف اليسار تدعي أن الرجال هرعوا إلى أحد المساجد في دولة خليجية عندما علموا بأن بعض الأرامل البوسنويات وصلن إلى هناك. وقد منّى كل واحد منهم نفسه بزوجة منهن أو أكثر من باب «الإغاثة الإسلامية»!

 

وقرأنا في حوار بين أحد العلمانيين وآخر من الإسلاميين أن الأول عيَّر الأخير بتلك الواقعة المفتراة، وكتب يقول: هل العلمانيون هم الذين يريدون الزواج من شقراوات البوسنة والهرسك، ويتجاهلون سمراوات الصومال وكشمير وبنغلاديش!

 

ليست بعيدة عن هذا المجرى تلك القصة التي حدثت في إحدى دول المغرب العربي، عندما لفقت بعض القصص الجنسية للرموز الإسلامية، وزور أحد أشرطة الفيديو الذي أظهر أحد القيادات الإسلامية في بعض الأوضاع الشاذة، وتحول الخلاف أو الصراع بين الحركة الإسلامية والحكومة إلى مجموعة من القصص المشينة والانطباعات التي مسخت القضية السياسية والفكرية، واختزلتها في كلام هابط حول الانحراف الجنسي والانحطاط الأخلاقي، استهدف تحقيق الاغتيال الأدبي بصورة غير مباشرة.

 

خذ مثلا مسألة الفنانات المعتزلات، اللاتي قررن تغيير مسار حياتهنّ، وشاع وصفهنّ بالتائبات أو المحجّبات. إحداهن ارتدت النقاب فنشرت إحدى المجلات أنها ستمثل في فيلم «راقص»! ــ والثانية قيل إنها خلعت الحجاب بصفة مؤقتة لتكمل فيلمًا بدأته. والثالثة قيل إنها تزوجت أحد الدعاة، واختفت بعيداً عن القاهرة لمدة ثلاثة أشهر.

 

لم تسلم الفنانات من سيل الغمز والتشهير، لكن أسوأ ما في الأمر هو تلك القصص المختلقة التي ذاعت عن أن بعضهنّ قبضن أموالاً من آخرين لقاء الحجاب، وأصبح السؤال هو هل المبلغ الذي عُرض على الفنانة «الفلانية» مليون دولار أم ثلاثة ملايين؟! ـ وهكذا فإن التحول الكريم في حياتهنّ الذي يستحق الإكبار، انقلب إلى صفقة مريبة تستحق الإنكار!

 

ويستحي المرء أن يشير إلى رسوم الكاريكاتير التي ظهرت فيها المحجبات والملتحون.. وكيف حفلت تلك الرسوم بما يخدش الحياء ويفوق الخيال من غمزات وإيحاءات، ليس لها سوى رسالة واحدة هي: الاغتيال المعنوي!

 

هل تذكرون ما حدث منذ عامين، حينما ثارت قضية شركات توظيف الأموال، وشن الإعلام حملته الكبيرة التي جعلت من عنوان الاقتصاد الإسلامي، مرادفًا للنصب والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل!

 

هل تذكرون أيضًا ما حدث إبان الانتخابات النيابية الجزائرية، حينما بدا أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ على وشك الفوز، فوظف الإعلام أدواته الجهنمية لإثارة الرعب من احتمال نجاح الإسلاميين، وأصبح راسخًا في الأذهان حتى الآن أن الحكم الإسلامي ليس سوى كارثة تحل بالأوطان، تلغي الديمقراطية وتهتك حقوق الإنسان وتسحق الأقليات وتسجن النساء؟!

 

لسنا ندعي أن الإسلاميين ملائكة ولا أن الظاهرة الإسلامية مبرأة من كل سوء، ولكننا نزعم أنها أولاً ظاهرة إنسانية فيها هذا وذاك. ونزعم ثانياً أنها لاتخلو من سوءات وسلبيات، ولكن تقويمها لا يتم بالتشهير والتجريح، ولكن بالحوار والنصح والترشيد.. ونزعم ثالثاً أن تلك السوءات تشكل استثناء وشذوذاً على الظاهرة، ذلك على فرض صحتها بطبيعة الحال، لأن بعض الذي رُميت به الحالة الإسلامية هو محض تلفيق وافتراء.

 

إن أولئك الذين يتصيدون خطأ أو خطيئة ويعمِّمونها على مجمل الظاهرة الإسلامية، لا يختلفون كثيراً عن بعض شبابنا الذين يتهمون الديمقراطية ويرفضونها، لمجرد أنها أباحت اللواط في بعض البلدان. ونحن نحاول جاهدين أن نقنعهم بأن للديمقراطية ما يفوق الحصر من الفضائل الأخرى التي ينبغي اعتبارها والإفادة منها، وأن اللواط و«الإيدز» هما من ثمار الغلو البائس في ممارسة الحرية.

 

غير أن أسوأ ما في الأمر أن اللجوء الى أمثال تلك الأساليب لمحاصرة الظاهرة الإسلامية واغتيالها يدل على أن مجتمعنا العربي عجز عن أن يقيم حواراً صحيًا بين تياراته وفصائله. وتلك مأساة «محزنة» تدين الجميع، الجناة والمجنى عليهم معًا!

 

أما من المستفيد من إجهاض الظاهرة الإسلامية أو الإجهاز عليها، فإنني أتركه بين يدي القارئ ليتفكر فيه ويتأمل، ويستخلص من المسألة العبرة المناسبة

 

آراء