ما أن إطلعت على نص خطاب السيد رئيس الجمهورية الذي ألقاه الأربعاء الماضية عشية الذكرى التاسعة والخمسين للاستقلال, حتى هرعت إلى نص خطاب الدعوة إلى "الوثبة" الشهير أراجع أفكاره والأجندة السياسية الكبيرة التي طرحها لحوار وطني شامل والآمال التي وعد بها, وعجبت إن كان كاتب خطاب الاستقلال عرف عنها شيئاً أصلاً أو تذكرها أو تعهّد نفسه بمراجعتها وقد كان خطاباً رئاسياً مرجعياً يُفترض أنه عماد الحراك السياسي الراهن ومستودع أجندة مستقبل البلاد السياسي.
ومصدر العجب أن خطاب الاستقلال لم يتضمن شيئاً من تلك التعهدات الإصلاحية التي ألزمت بها قيادة المؤتمرالوطني نفسها, وقد كانت طائفة من قادته أنذاك يأملون في حراك إصلاحي واسع يقيل عثرات الحزب الحاكم وسلطته وما تعداه إلى سائر البلاد والعباد حصيلة ربع قرن, قبل أن تُؤد نهائياً في مؤتمره العام الأخير. بل ذهب الخطاب إلى أبعد من ذلك إلى أعطاء تعريفات جديدة للحوار الوطني, تجعل منه مجرد حوار لأجل الحوار وليس وسيلة جادة بغرض الانتقال إلى مربع جديد يخرج السودان من دائرة أزماته الخانقة والمتلاحقة.
بدا الخطاب متعجلاً للوصول إلى خلاصة هي أن البند الوحيدالمطروح في الساحة السياسية هو إجراء الانتخابات, بغض النظر عن سياق الأوضاع الوطنية المأزومة وحالة الاستقطاب الحاد بأكثر مما كانت عليه عشية إطلاق مبادرة "الحوار الوطني", وبات واضحاً أن شاغل أهل السلطة الوحيد هو تمديد البقاء في سدة الحكم تحت لافتة انتخابات بدعوى أن موعدها الدستوري قد حان وأنها لا تحتمل فراغاً ولا تأجيلاً. والطريف أن كاتب الخطاب أعطى معنى جديداً معتسفاً للحوار حين اعتبر أن الانتخابات في حد ذاتها نوع من أنواع الحوار.
ولعله من المفيد هنا أن نورد نص هذه الفقرة من الخطاب على طولها لأنها تفصح عن الذهنية التي ترسم الأجندة السياسية في دهاليز الحكم, فماذا تقول: "إن من يقولون إن إجراء الانتخابات في موعدها سينهي عملية الحوار، ينسون أو لا يدركون أن الانتخابات في جوهرها هي عملية حوار، مبدؤها مناظرات ومجادلات سياسية، وطرح للرؤى والأفكار والبرامج والحلول لمشكلات البلاد وقضاياها، والانتخابات إطار من أطر الحوار، وهي حوار على مستوى جماهيري يتخذ عبره الشعب قراره عبر صندوق الانتخاب، أليست الانتخابات تنافسا وتباريا وتحاورا حرا، وإطارا توافقيا يحفظ للقوى السياسية حقها كقناة تقريرية للمسار السياسي، والتداول السلمي للسلطة ؟ إن من يرفض مبدأ الانتخاب و التداول السلمي للسلطة، يعيق عملية الحوار الجماهيري هذه، ونحن دولة تستمد مشروعيتها من مبدأ الشورى والحوار والانتخاب والممارسة السياسية عبر الأطر الديمقراطية، بالسلم والتراضي الواجبين، وعلى الأحزاب السياسية التنافس الحر، والتحلي بالصدق والوضوح والجدية، ونبذ التشكيك والسلبية، وتجنب إطلاق الإحكام المسبقة والاتهام، والادعاء المسبق عن نتائج الانتخابات قبل إجرائها".
والسؤال إذن ألم يكن معلوماً عند إطلاق مبادرة "الحوار الوطني" قبل عام أن موعد هذه الانتخابات أصلاً كان وشيكاً؟ وما دام الحزب الحاكم مؤمن بهذه التعريف للحوار فما الحاجة إلى إطلاق تلك المبادرة ابتداءاً؟ ألم يكن ممكناً فقط تشجيع الجميع للانخراط في الانتخابات وحسب؟ أهي فقط من باب شغل الفراغ السياسي وشراء الوقت وإلهاء الساحة السياسية لحين الاستفراد بالاستحقاق الانتخابي لتعزيز حظوظ من هم في السلطة كما ذهب إلى ذلك أكثر المراقبين وهم يرون دوران عجلة "الحوار الوطني" يتعطّل بلا مبررات معقولة لعام كامل, ليس ذلك فحسب بل توضع العصى في دواليبه عن سابق قصد, ليس للحوار بكامل أطرافه فحسب, بل حتى للحوار المبتسر بمقتضى "الأمر الواقع" بمن حضر الذي تعثر هو الآخر.
والأمر الآخر في غمرة هذه الحماسة الطاغية للانتخابات, وتمجيد الممارسة الديمقراطية والتنافس الحر, هل تناست السلطة الحاكمة وهي تدمغ بجرأة غريبة "من يرفضون مبدأ الانتخابات والتداول السلمي للسلطة" وهو أمر لم يقل به أحد أصلاً, بتهمة تعطيل "الحوار الجماهيري", هل تناست أنها لم تأت إلى السلطة وتسيطر عليها لربع قرن إلا عنوة بانقلاب عسكري, لم يحفل بهذه القيم التي يعيب بها على الذين لم يقترفوا من ذلك شيئاً, فما الذي جعل تعطيل المسار الديمقراطي عن حق يومها حلالاً, ولتصبح مجرد المطالب بتأجيل الانتخابات لإجرائها في ظل ظروف موضوعية مواتية لتحول ديمقراطي حقيقي وحصاداً لحوار وطني منتج تدخل في باب التشنيع على أصحاب هذا الرأي. ألم يتساءل هؤلاء كيف جاز لهم أن يخرقوا دستوراً لنظام ديمقراطي حقيقي بدعوى إنقاذ البلاد, ثم يتحججون الآن بالخشية من الفراغ الدستوري, والبلاد اليوم في حاجة لإنقاذها فعلاً بأكثر مما كانت عليه في العام 1989.
والسؤال الأهم من ذلك هل يُوّقع قادة المؤتمر الوطني على وثائق لا يحترمونها ولا يأبهون لها في اعتراف صريح بممارسة "تكتيكات المناورة" دون تقدير لقيم العهود والمواثيق, ألم تنص خريطة الطريقة التي اتفقت عليها الأطراف المشاركة في الحوار الوطني التي توصلوا إليها بعد لأي شديد بعد تسعة أشهر من إطلاق المبادرة على "التوافق على التشريعات والإجراءات الضرورية لقيام انتخابات عادلة ونزيهة تحت إشراف مفوضية مستقلة سياسياً ومالياً وإدارياً". فهل تم التوافق على أي من هذه التشريعات والإجراءات أم انفرد المؤتمر الوطني دون اعتبار لشركائه في حوار المائدة المستديرة لا يلوي على شئ يعدل في قوانين الانتخابات وحده, ويمررها في مجلس الوزراء والمجلس الوطني وحده, ويعيّن المفوضية وحده, ويصر على إجراء الانتخابات وحده, على طريقة الدجاجة الصغير الحمراء ليحصد ويظفر بنتائجه وحده, فعن أي ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة يتحدثون؟.
على أي حال ليس في كل ما يجري من مشهد غرائبي غير مسبوق في عالم السياسة من عجب مع كل التناقضات التي يحفل بها خطاب السلطة الحاكمة التي تنسي كثرة وعودها بعضه البعض, ففي خاتمة خطاب "الوثبة" ألزمت السلطة الحاكمة نفسها بميثاق غليظ يقول نصاً "ونحن عازمون على أن نقبل كل رأي مسؤول يتضمن سبيلاً إلى النهضة وصلة الرحم وتوثيق العروة الوطنية نأخذ على عاتقنا أن نقبل على الحوار بمسؤولية وجدية، ولذلك ندعو غيرنا إلى التحلي بهاتين الصفتين حتى يخصب الحوار تجربتنا السودانية ويسددها, وليكن تنافسنا بالحوار تحفيزاً لاتعجيزاً، حجاجاً لا مراءاً، وأريحيةً تقدم جبر ضرر الوطن على جلب النفع الشخصي أو الخاص", فهل تعهّدت نفسها بشئ مما وعدت, وهل فيما يجري من مشهد تتعطّل فيه مسيرة الحوار بلا أسباب وجيهة, وتتسارع الخطى لإجراء انتخابات لخدمة أجندة الحزب الحاكم, فهل في ذلك حقاً "تقديم لجبر ضرر الوطن"؟.
لا يحتاج الأمر إلى مغالطات أو مماحكات من أي نوع لإثبات أن الطبقة الحاكمة لم تكن مشغولة بغير تثبيت أركان سلطتها بغض النظر عن تبعات ذلك في تعقيد أوضاع مأزومة لا تحتاج إلى إضفاء المزيد من التعقيدات عليها, يخطئ قادة الحكم حين يظنون في خضم هذا الجدل أن معركتهم هي مع خصومهم السياسيين, سواء المعارضة المدنية أو القوى المسلحة, وأنهم يفعلون ما يفعلون نكاية في هؤلاء أو قطعاً للطريق عليهم للوصول إلى السلطة, ويتناسون أن مسؤوليتهم هي تجاه هذا الشعب الذي لبث ربع قرن من الزمان يعاني الحروب والويلات وعدم الاستقرار وفقدان الأمل بسبب التشبث بكراسي السلطة بغض النظر عن كلفة ذلك الباهظة على بلد توطنّت فيها الأزمات, يهرب من أزمة إلى أخرى, وتشتعل فيه الحروب, تولّد فيه كل صفقة تسوية ثنائية تحت لافتة السلام حرباً أخرى.
باختصار هل السودان أكثر اليوم وحدة عما كان عليه قبل ربع قرن أم تشرذم أكثر وتفتت وحدته؟, هل السودانيون اليوم أكثر تماسكاً في نسيج اجتماعي متين أم تفرقّت بهم السبل تعيدهم إلى عصور الانحطاط عنصرية وقبلية متنازعة وتشتت اجتماعي غير مسبوق؟ هل سأل أحدهم نفسه كم عدد السودانيين الذي فقدوا أرواحهم خلال الخمس وعشرين عاماً الماضية بسبب حروب الصراع على السلطة, ويا للعجب ليس فيها معركة واحدة على كثرة الاقتتال مع عدو خارجي, وكم عدد النازحين واللاجئين والمشردين؟ هل يُقارن ذلك على أي نحو بحالهم على مدار ثلاثة وثلاثين عاماً قبلها من الحكم الوطني؟. لماذا أصبح السودان طارداً لبنيه وكفاءاته وشبابه يهاجرون بعشرات الألوف, وما يحبس غيرهم إلا انتظار فرصة تسنح؟ هذه اسئلة ليست للتبكيت على الحكّام, ولكنها دعوة للتفكّر فيها بغير مراء, هل حدث ما حدث صدفة؟, أم أنه ليس سوى حصاد منطقي ونتاج سياسات وممارسات بسبب تغليب اعتبارات الحفاظ على السلطة والتمسّك بها مهما كان الثمن. وما قيمة تشييد بعض البنى الأساسية, والإنسان أساس الحياة والتنمية معرّض للقتل والتشريد في حروب ليست حتمية بل تدفعها صراعات سياسية.
وسؤال آخر, هل كانت السلطة الحاكمة مفتقرة فعلاً للخيارات الصائبة حقاً, وأنها لم تجد سبيلاً غير المضي قدماً فيما عزمت عليه, لماذا بدت حاسمة وقاطعة وهي تمضي بلا تردد في تنفيذ أجندتها لإجراء الانتخابات لا يقف أمامها حائل, ثم هي نفسها تتباطأ وتجرجر أقدامها إلى الوراء في شأن "الحوار الوطني" بل لا تلتزم حتى بما اتفقت عليه في خريطة الطريق مع الأطراف المؤيدة للحوار. والمفارقة أنها تعرقل "الحوار الوطني" مع أنها صاحبة المبادرة به فأي أمر اكثر غرابة من هذا؟.
كيف تدعو السلطة لحوار وهي تمضي لا تلوي على شئ تحسم كل شئ من طرف واحد, تعدل الدستور والقوانين في قضايا هي من صميم الأجندة الوطنية المطلوب التوافق عليها في حوار حقيقي, تغير طريقة انتخاب الولاة إلى التعيين لا لدواع قاهرة سوى لغرض ضبط الصراعات الداخلية في المؤتمر الوطني, وتنشئ قوة نظامية عسكرية جديدة في خضم جدل واسع حول طبيعتها, وتجري الكثير من التعديلات الأخرى التي تركّز كل السُلطات في يد الرئيس, صحيح أن كل هذه التعديلات هي من باب تقنين الأمر الواقع, ولكن السؤال ماذا تركت للحوار من أجندة ما دام كل شئ بات محسوماً.
لم تكن هذه الخطوات سوى دليل آخر على الافتقار للجدية والمسؤولية التي طالب بها المؤتمر الوطني القوى السياسية للتحلي بها في شأن الحوار الوطني المؤود, لم تكن المشكلة في الذين رفضوا واشترطوا للمشاركة في الحوار, بل كانت محنة الذين وافقوا عليه وتحمسوا له فقد جرى التدبير لإبعاد السيد الصادق المهدي عن طريق الحوار لأسباب واهية, بما في ذلك اعتقاله في سابقة غير مبررة وهو الذي كان الأقرب من معارضي النظام إليه على مدى الخمسة عشر عاماً الأخيرة, وجرت الاستهانة بخطوة الشيخ حسن الترابي الذي أقدم على الحوار متناسياً مضاضات سنوات مثلها منذ الانقسام الشهير في تحوّل درامي لم يستوعبه أنصاره حتى ذهبوا يعزون أنفسهم بأنه عاد يمسك خيوط اللعبة ويوهمونها بأنه المهندس الفعلي من وراء هذه التطورات من خلف الستار, ثم تبيّن للجميع أنه ليس له من الأمر شئ, وانه لولا الملامة للحق بالسيد الإمام, فالسلطة صاحبة الأمر ليست مستعدة لمجاملة أحد من أجل تمرير أجندتها حتى ولو من باب حفظ ماء الوجه لمن مدوا أيديهم إليها في ساعة العسرة.
وحتى لو سلمنا جدلاً بما يدفع به قادة الحكم من أنه لا سبيل لتأجيل الانتخابات بدعوى أنها استحقاق دستوري سيخلّف عدم القيام به فراغاً, ألم يكن ممكناً والسلطة تجري تعديلات كما تشاء في الدستور أن تأمر بتعديل يمدد أجل الولاية للرئيس لعام آخر مثلاً من أجل التمكين من الوفاء بمتطلبات الحوار الوطني, ألم يكن ممكناً مثلاً إجراء انتخابات رئاسية مبكرة كما دعونا لذلك قبل عدة أشهر لسّد هذه الذريعة من أجل الإسهام في تحريك عجلة الحوار؟ ولماذا الإصرار على إجراء انتخابات برلمانية أيضاً في ظل حوار متعثر إن لم يكن لذلك معنى سوى أن يدق المسمار الأخير في نعش "الحوار".
من المؤكد أن السلطة لا تعدم الخيارات الموضوعية والبدائل إن كانت راغبة حقاً وجادة في الدخول في عملية حوار منتج يفضي إلى تسوية سلمية شاملة للأزمة السودانية, ولكنها اختارت عن طواعية أن تضرب بذلك عرض الحائط من أجل ضمان الاستئثار بالسلطة بغض النظر عن عواقبه, ولذلك فهي لم تكن في أية لحظة راغبة في حوار حقيقي لم تكن أبداً مستعدة لدفع استحقاقاته.
لا يحتاج الأمر إلى مغالطات, الفرق واضح بين الحوار الوطني عندما يكون هدفه الاستراتيجي انقاذ الوطن وعندما يكون دافعه تكتيكي للحفاظ على السلطة بأي ثمن, أنظروا ماذا تعني الجدية والمسؤولية في قضية الحوار الوطني, فحركة النهضة التونسية لم تتردد في المضي فيه إلى غايات منتجة من أجل الحفاظ على وطنها واستقراره, على الرغم من أن ثمن ذلك كان أن تخسر سلطة وصلتها بإرادة شعببة حقيقية ولم تستول عليها بليل أو تسيطر عليها بالقوة, نعم خسرت حركة النهضة السلطة الراهنة لكنها كسبت وطنها, وربحت المستقبل, قالها الغنوشي "تونس أحب إلينا من النهضة", فيا ترى من أي كوكب هبط على السودان "إسلاميّوه"؟!
نقلا من صحيفة"إيلاف"ٍ