إسرائيل وأفريقيا والعدالة الدولية

 


 

د. أسامة عثمان
23 December, 2009

 

Ussama Osman [ussama.osman@yahoo.com]

أفلتت وزيرة الخارجية السابقة، رئيسة حزب كاديما وزعيمة المعارضة في البرلمان الإسرائيلي حاليا تسيبي لفني من التوقيف في الأسبوع الماضي في لندن عندما أبلغت بأن إحدى محاكم وسط المدينة قد أصدرت أمر توقيف في حقها بتهم جرائم حرب لدورها في الحرب العدوانية على غزة في بداية هذا العام. وسبب الأمر حرجا للحكومة البريطانية التي سارع وزير خارجيتها للاعتذار ووعد بتعديل القانون البريطاني حتى لا يتكرر صدور مثل هذه المذكرات مرة أخرى. وليست هذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها القضاء البريطاني المستقل أمر توقيف في حق زعيم أو قائد إسرائيلي فقد بحثت المحاكم البريطانية في سبتمبر الماضي في أمر اعتقال وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك بتهم جرائم حرب لدوره في حرب غزة نفسها ولكن البحث انتهى دون إصدار أمر توقيف لأن الحكومة البريطانية رفعت مستوى الزيارة إلى زيارة دولة وأفادت القضاء بأن الزائر يشغل منصب نائب رئيس الحكومة في بلده وهذا المنصب مشمول بالحصانة بحسب القانون البريطاني. وكان القضاء البريطاني قد أصدر مذكرة توقيف من قبل في حق الجنرال ألموغ قائد اللواء الجنوبي الأسبق في الجيش الإسرائيلي والمسؤول عن عملية اغتيال صلاح شحادة القائد العسكري لحركة حماس إلى جانب 15 مدنيا قتلوا معه من بينهم تسعة نساء وأطفال. وقد سربت بعض الجهات الخبر إلى السفير الإسرائيلي في لندن فهرع إلى مطار هيثرو وصعد إلى طائرة العال وأبلغ الجنرال بأن الشرطة ستعتقله إذا وطئت قدماه أرض المطار وما عليه إلا العودة في الطائرة التي جاء بها وهكذا نجا من الاعتقال.

 

والسبب في لجوء المحامين والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان والعدالة الدولية إلى القضاء البريطاني هو أن بريطانيا تعترف بجرائم الحرب وفقا لتعريف القانون الدولي لها في قوانينها الداخلية بعد أن وقعت على نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، كما أنها وفقا لقوانينها الداخلية تستطيع ملاحقة المتهمين في قضايا التعذيب بعد أن وقعت على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب في مطلع التسعينيات مما جعل النيابة تنظر في نهاية سنوات التسعين في أمر توقيف الدكتور نافع على نافع مدير جهاز الأمن السابق في إطار دعوى رفعها بعض الأفراد السودانيين ضده، ليس بوصفه مديرا لجهاز الأمن، ولكن لادعائهم، وفقا لمقتضيات القانون البريطاني الذي يتطلب أن يكون الشاكي متضرراً ضررا مباشرا من الشخص الذي يريد أن يقبض عليه بأن يكون قد قام بتعذيبهم بنفسه أو أمر بشكل مباشر بتعذيبهم أو شوهد في موقع الاحتجاز الذي مورس فيه التعذيب ولقد شملت عريضة الدعوى وقائع تشير إلى جميع المقتضيات القانونية أعلاه، وكان من بين المدعين النقابي المرحوم الشهيد على الماحي السخي الذي كان يتلقى العلاج في لندن بمساعدة من المنظمة الدولية لضحايا التعذيب والدكتور فاروق محمد إبراهيم وآخرون، ولقد سربت جهة ما الخبر للصحف فاضطر الدكتور نافع لمغادرة بريطانيا على الفور فتوقفت الإجراءات لأن القانون يسمح بالشروع فيها إذا كان المتهم موجودا في الأراضي البريطانية ولا يجوّز الاعتقال لمن هو خارج التراب البريطاني وهذا هو السبب في إسقاط الدعوى ضد ليفني التي تبين للقضاء أنها لم تصل إلى الأراضي البريطانية بعد.

 

وأشهر قضايا التوقيف التي وقعت في بريطانيا في منتصف التسعينيات هي توقيف الرئيس الشيلي السابق أوغسطو بينوشيه بتهمة ممارسة التعذيب ولقد وقع جدل قانوني كبير انتهى بتسليمه لأسبانيا لأنه كان قد رفعت ضده قضايا في ذلك البلد ووفقا للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب فإن على الدولة العضو تسليم  المتهم لدولة أخرى تكون قد قدمت فيها شكاوى ضده إذا لم ترغب في محاكمته على أراضيها لسبب أو لآخر وانتهى بينوشيه أمام المحكمة في بلده شيلي وفارق الحياة قبل أن تكتمل المحاكمة كما هو معروف.

 

والشاهد في هذه الوقائع أن الجهد الذي ابتدرته منظمات المجتمع المدني وبعض الهيئات الرسمية قد صار مدا متزايدا من أجل تفعيل القانون الدولي وجعل قضايا حقوق الإنسان جزءً من التشريعات المحلية في الكثير من البلدان مما جعل معظم بلدان أوروبا محرمة على الجلادين والجلاوزة من البلدان الأفريقية والعربية وبعض البلدان الآسيوية وبلدان أمريكا اللاتينية التي لا تزال تمارس القمع والتعذيب ضد مواطنيها بعد أن كانت أوروبا قبلتهم يهرعون إليها لمراجعة حساباتهم في مصارفها أو بدعوة من أجهزة مخابراتها أو للعلاج والعيش فيها عندما يتقاعدون. وليس ارتفاع الوعي بهذه القضايا قصرا على دول أوروبا وحدها فتشارلس تيلور الرئيس الليبيري السابق قد ألقت نيجيريا القبض عليه وهو يحاول عبور الحدود هاربا بعدما تبين له أن لحظة تسليمه للمحكمة الخاصة بسيراليون قد صار وشيكا ولقد قبض على الكثير من المتهمين في عمليات الإبادة في رواندا في بلدان أفريقية وأوروبية وأرسلوا للمحكمة في أروشا ولقد اضطرت بلدان مثل السنغال التي رفضت تسليم الرئيس السابق حسين هبري لتشاد لمحاكمته على أراضيها وأمام قضاتها لأن تشريعاتها تسمح لها بذلك هذا إلى جانب تسليم ميلوسوفيتش الرئيس الصربي السابق للمحكمة الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة وتسليم حكومة بلغراد مؤخرا لكراديتش القائد الصربي الذي ظل مختبئا لمدة عشر سنوات ليمثل أمام المحكمة نفسها في انتظار مصيره.

 

وإن كانت دول الاتحاد الأفريقي قد اتخذت قرارا سياسيا وليس قضائيا بعدم التعاون مع المحكمة الدولية في تسليم الرئيس البشير أو غيره ممن تطلبهم المحكمة فإن النظم القضائية في معظم هذه البلدان غير ملزمة بالقرار السياسي ومعظمها نظم تسير على نهج النظام القضائي البريطاني كما هو الحال في جنوب أفريقيا ونجيريا ويوغندا وكينيا. كما أن مد الوعي بقضايا حقوق الإنسان والعدالة الدولية لم يستثن أفريقيا ولقد وضع ثلاثة من المواطنين السودانيين من المهتمين بقضايا الحقوق والعدالة مؤخرا اللجنة الأفريقية المعنية بتنفيذ الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب أمام اختبار مصداقية عندما رفعوا لها دعوى ضد جهاز الأمن والمخابرات للتحقيق فيها مع العلم بأنها لجنة غير قضائية. وأدعى المواطنون الثلاثة أن الجهاز قد ألقى القبض عليهم في الفترة التي سبقت إعلان قضاة المحكمة الجنائية الدولية قبولهم لدعاوى المدعي العام في حق الرئيس البشير وما صاحبها من توتر واضطراب، ويشير المدعون في رسائل منشورة  في وسائل الإعلام خارج السودان إلى أنهم قد اخضعوا  لتعذيب جسدي مكثف لانتزاع اعترافات بتعاون مزعوم مع المحكمة الجنائية ثم أطلق سراحهم بعد أن تبين عدم صحة المعلومات التي اعتقلوا على أساسها ولم يتلقوا اعتذارا أو تعويضا عن الضرر الذي لحق بهم بحسب دعواهم. وكان الفريق صلاح قوش مدير الأمن السابق قد وعد بتقطيع أوصال كل من يثبت تعاونه مع المحكمة الجنائية الدولية ثم عاد ليؤكد في مقابلة نشرت معه مؤخرا أنه كان يعني ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، ومثل هذه التصريحات المنشورة ربما اتخذت يوما بينة ضده في مثل القضية المذكورة أعلاه وفي غيرها. والمحك أمام اللجنة الأفريقية هو النظر في قضايا انتهاك حقوق الإنسان في القارة ليس على المستوى العام لأن ذلك قد يضيع في متاهات السياسة ولكن عندما يعلم الأفراد بأن في استطاعتهم التظلم لدى جهة ذات مصداقية يمكن أن تنظر في قضاياهم دون التأثر بالاعتبارات الدبلوماسية والسياسية وعندما تقوم محكمة أفريقية على غرار المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أو المحكمة الخاصة بدول أمريكا اللاتينية والوسطى في كوستاريكا والتي تنظر في قضايا انتهاك حقوق الإنسان سيكون لاحتجاج الدول الأفريقية على الهيمنة الأوروبية معنى ولقد أبرزت قضية طلب توقيف الرئيس البشير باسم العدالة الدولية هذه القضايا في المحافل الأفريقية التي عليها أن تقدم البديل المقنع وتثبت قدرتها على محاسبة من ينتهكون حقوق الأفراد والشعوب في القارة حتى لا تتوقف دعوى أن العدالة الدولية تستهدف القارة الأفريقية دون غيرها وتمثل مقترحات لجنة أمبيكي فرصة أخرى لاختبار القدرة والمصداقية الأفريقية في هذا المجال.

 

إن محاولة توقيف وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة وقبلها محاولة توقيف أرييل شارون في بلجيكا قد فتحت ثغرة يصب سدها في الحراك السياسي والقانوني في البلدان الديمقراطية. لقد قادت محاولة توقيف شارون إلى تعديل في القوانين البلجيكية لإنقاذ الحكومة من الحرج إذا قرر أحد المواطنين ملاحقة رئيس أو زعيم دولة أجنبية قضائيا، فتعديل القوانين لهذا الغرض في البلدان الديمقراطية له ثمن سياسي حيث يصعب تبريره أخلاقيا وإن قدمت مبررات سياسية تربطه دائما بمصلحة البلاد العليا.

 

إن مجرد محاولة إيقاف مسؤولين إسرائيليين وإن لم تنجح حتى الآن تدل على أن تطورا قد حدث ولم تعد إسرائيل هي تلك الدولة التي لا ينطبق عليها القانون الدولي ومتطلباته وذلك تحت حماية الدول القادرة وإن رأت أغلبية دول العالم غير ذلك فالأمر لم يعد أمر حكومات فقط لأن المواطنين قد أخذوا بشكل متزايد يسعون لتطبيق ما يرونه حقا حتى وإن تقاعست حكومات بلدانهم عن ذلك فتقرير القاضي الجنوب أفريقي غولدستون عن حرب غزة يمثل تطورا نوعيا مهما في بداية نهاية حالة البقاء فوق القانون التي تمتعت بها إسرائيل طويلا إلى جانب تقرير البروفيسور فولك المقرر الخاص بالنظر في انتهاكات حقوق الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي والذي يقدم سنويا تقريرا لمجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة عن انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي وغولدستون وفولك كلاهما من اليهود ولم يمنعهما ذلك من أداء عملهم بنزاهة وتجرّد. فعلى العرب الذين يمتنعون عن أي فعل أو عمل بحجة سيطرة اليهود على كل شيئ أن يعوا الدرس من هذين الرجلين الذين لم يستسلما للضغوط وقدما عملا فعالا جعل إسرائيل في موقف الدفاع عن النفس.

 

ولقد تعامل الإسرائيليون مع الأمر بالكثير من العقلانية على الرغم من استهجانهم لنبأ محاولة توقيف وزيرة خارجيتهم السابقة باستثناء تصريح لوزير الخارجية الحالي ليبرمان المعروف بتطرفه ويمنينته الصارخة وصف محاولة التوقيف بأنها أمر غير مقبول ويحول الضحية إلى جلاد والضحية في نظره هي إسرائيل التي ردت على صواريخ إرهابيي حماس دفاعا عن النفس وكان الأجدر شكر إسرائيل على هذا الصنيع وأضاف أن هذا الاتجاه إذا استمر فلا نستبعد أن يأتي من يطالب يوما بتقديم الرئيس بوش أو توني بلير للمحاكمة بتهمة ارتكابهم جرائم حرب بحسب قوله، وبالطبع هذا هو غاية المنى لمنظمات المجتمع المدني وبعض النشطاء، ولقد جعل بعضهم من تقديم بوش للمحاكمة يوما هدفا نذروا له حياتهم وليس الأمر وقفا على بوش فهنالك جمعيات أمريكية وأفراد ونشطاء في أمريكا جعلوا من توقيف الرئيس البشير وتقديمه للمحاكمة يوما هدفا لحياتهم وإن طال الزمن. وبما أن الرئيس البشير لا ينوي التقاعد قريبا حيث أنه قبل ترشيح حزبه له لخوض الانتخابات ويأمل في الفوز فيها ليستمر رئيسا منتخبا هذه المرة، فإنه يتحتم مراعاة هذه المتغيرات مقرونة بحرية حركة الرئيس التي تضيق في كل يوم وفقا لما رأينا مؤخرا في إلغاء زيارته لتركيا بعد تصميم كبير على تنفيذها وتأجيل القمة الأفريقية الفرنسية بسبب احتمال حضوره فيما أعلن في الأسبوع الماضي وغيابه عن قمة المناخ في كوبنهاغن وغير ذلك من قيود ستستمر على كل حال لأن تهم جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم. وتعامل إسرائيل بجدية مع الأمر تمثل في تكوين لجنة قانونية وقضائية لإسداء النصح للحكومة في كيفية التعامل في هذا المجال ولقد قدمت قائمة من عشرين اسما لسياسيين وقادة قد يواجهون محاولة لتوقيفهم إذا سافروا خارج البلاد ومن بينهم قائد الشين بيت أو الأمن الداخلي الإسرائيلي المتهم بتهشيم عظام بعض الشبان الفلسطينيين في الضفة الغربية، ولقد نصحته اللجنة القضائية بعدم السفر للخارج لأن الكثير من النظم القضائية في الخارج تسمح بتوقيفه ومحاكمته وليس من المستبعد صدور مثل هذه القوائم في حق مسؤولين سودانيين استنادا على تصريحات قد أدلوا بها في إطار تهديد أوكامبو عند تقديمه لتقريره الأخير أمام مجلس الأمن في بداية هذا الشهر حيث ذكر أن أية محاولة للتبرير أو الإنكار للتهم موضع تقريره يعتبر محاولة لحجب الحقيقة مما يسمح له بتقديم تهم في حق من يقولون بذلك وفقا لولايته ولقد أشار أيضا إلى من يتحدثون عن إغلاق المعسكرات وإعادة النازحين قسرا إلى قراهم محذرا أن من يفعل ذلك سيقع تحت طائلة القانون في إطار ولايته.. ولقد طالبت مؤخرا أكثر من خمسين منظمة من منظمات المجتمع المدني في الولايات المتحدة  الأمريكية في رسالة مفتوحة إلى الرئيس أوباما والسيدة  هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية بفرض عقوبات على أفراد نافذين في المؤتمر الوطني من بينهم الدكتور نافع على نافع والسيد أحمد إبراهيم الطاهر الفريق بكري حسن صالح والسيد قطبي المهدي إلى جانب السيد الطيب مصطفي ناشر جريدة الانتباهة ومؤسس الحزب الانفصالي الوحيد في شمال السودان وجاء في طلبهم أن ذلك يعتبر تفعيلا لقرار مجلس الأمن رقم 1591 الذي يقضي بحظر السفر وتجميد أموال بعض الأفراد متهمين بأن لهم صلة بجرائم حرب أو حقوق إنسان وفقا للقرار. وليس من المستبعد أن تقوم منظمة برفع دعوى ضد أحد هؤلاء الأفراد أو السعي لتوقيفه في أحد المطارات فمن نجح في تحديد حركة رئيس البلاد لن يعجز عن تحديد حركة مساعديه. فعلى الذين يطلقون التصريحات العنترية في الصحف التفكير مرتين قبل فعل ذلك فأمر القضاء في البلدان الديمقراطية غيره في بلدان مثل بلداننا.

 

آراء