إسرائيل والسودان: ملحمة علاقة غامضة (1 -2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

Israel and Sudan: the Saga of an enigmatic relationship

Jacob Abadi جاكوب أبادي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لغالب مقال لبروفيسور جاكوب أبادي عن بعض جوانب العلاقة بين السودان وإسرائيل، نشر عام 1999م في العدد الخامس والثلاثين من مجلة "دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies".
وتحصل كاتب المقال على درجة البكالوريوس من الجامعة العبرية في القدس، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة نيويورك بالولايات المتحدة. ونشر من بعد ذلك العديد من المقالات المحكمة والكتب في مختلف شؤون الشرق الأوسط والغرب.
وسبق لبروفسيور جبرائيل واربيرج الكتابة عن ذات الموضوع في مقال صدر عام 1992م في العدد الثامن والعشرين من مجلة "دراسات الشرق الأوسط" بعنوان "السودان وإسرائيل: فصل من العلاقات المشتركة".
وما ورد في هذا المقال الأكاديمي هو بالطبع وجهة نظر كاتب إسرائيلي، قد لا تتفق معها، قليلا أو كثيرا، أطراف متباينة في السودان. غير أن الرد على مثل هذه المقالات ينبغي أن يكون موضوعيا، رصينا، ومدعما بالمعلومات التي يمكن الاِستِيثاق من صحتها، وليس بغير ذلك.
المترجم
***** ******
تعتبر العلاقات الإسرائيلية – السودانية علاقات فريدة من نوعها نظرا لسريتها وتضاربها وتقلباتها. ومن أهم أسباب ذلك هو عدم الاستقرار والضعف الاقتصادي في السودان. وخلافا لغالب الدول الإسلامية في محيط دول الشرق الأوسط، لم يكن موقف السودان الأولي تجاه إسرائيل معاديا على الإطلاق. بل لقد بدأت الصلات الثنائية في الواقع مباشرة بعد نيل السودان لاستقلاله من الاستعمار الإنجليزي – المصري عام 1956م. غير أن عددا من العوامل تضافرت من أجل إفشال أي سياسة ثابتة ومتسقة للحكومة السودانية. وبصورة جزئية، ساهم عدم استقرار الحكم في السودان الذي سببه قيام انقلابات عسكرية متواترة، والنزاعات القبلية، والصراعات (المتواصلة) بين المجموعات الإسلامية والمجموعات العلمانية في عدم ثبات واتساق علاقات البلاد الخارجية.
وبعد أقل من ثلاث سنوات على نيل الاستقلال، أطاح انقلاب عسكري بحكومة عبد الله خليل، أفضى إلى تغيير فوري في توجهات السياسة الخارجية للبلاد. وعندما كان عبد الله خليل رئيسا لوزراء حكومة السودان كان على الدوام يحتفظ بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة، ويطلب منها العمل على حماية بلاده من أي عدوان محتمل من الجمهورية العربية المتحدة. وطالما حافظ السودان على توجه موالي للغرب، فلن يكون هنالك توتر يذكر في العلاقات السودانية – الإسرائيلية. ولم يرد من السودان منذ استقلاله حتى 17 نوفمبر من عام 1958م أي عداء سافر على إسرائيل سوى تعليقات متباعدة من المسؤولين السودانيين عما حاق باللاجئين الفلسطينيين من مآسي بسبب دولة إسرائيل. غير أن ذلك تبدل بعد الانقلاب العسكري الذي قادة الفريق إبراهيم عبود، والذي غير من توجه سياسة السودان الخارجية. وهدفت تلك السياسة (الجديدة) لترميم ما اِنهَدَمَ من جدار العلاقات مع الرئيس جمال عبد الناصر، وتخفيض مستوى العلاقات مع الغرب، والنأي عن أي تقارب مع إسرائيل. وأتت بعد سقوط حكومة عبود العسكرية حكومات مدنية اتسمت بالضعف وعدم الاستقرار، إلى أن قام انقلاب عسكري آخر في 25 مايو 1969م برئاسة جعفر النميري.
وإضافة إلى هشاشة نظام السودان السياسي، لم ينعم ذلك القطر قط بقيادة (كاريزمية) ذات وزن، ولذا ظل في دوامة صراع مستمر حول السلطة. وفي بداية عهد مايو كان النميري من أشد المناصرين لجمال عبد الناصر، وحاملا لراية القومية العربية. غير أنه غير بعد سنوات قليلة من بداية حكمه بدل من سياسة بلاده الخارجية، أملا في كسب مزيد من الشرعية لنظام حكمه. وآمن الرجل بأن سياسته المؤيدة لمصر لن تجر عليه الكثير من النفع، فقرر في عام 1980م أن يقيم نظاما إسلاميا على هدي الشريعة آملا في إطالة بقائه على سدة الحكم. وأنزعج الكثير من الإسرائيليين من شدة التزام النميري بالشريعة وقوانينها. وبدا للحظات أن عداوة السودان للدولة اليهودية ستجعل من إمكانية الوصول معه لاتفاقية حول أمر شديدة الأهمية لإسرائيل هو من رابعة المستحيلات. ففي منتصف الثمانينات تزايد قلق إسرائيل على أحوال اليهود الفلاشا في إثيوبيا وفي معسكرات اللجوء بالسودان. وبالإضافة لذلك كانت لإسرائيل مشاريع ضخمة تتطلب موافقة السودان. لذا سعت إسرائيل لإنشاء ترسانة هائلة على الأراضي السودانية. وفكرت إسرائيل في إمكانية استخدام الأراضي السودانية كقاعدة انطلاق يمكن منها مساعدة ابن شاه إيران للعودة لإيران وقلب نظام آية الله الخميني. وكانت موافقة النميري على تلك المشاريع أمرا لا غنى عنه، لذا وجدت إسرائيل نفسها مضطرة لعقد صفقة معه. وأثبت النميري، مثله مثل من سبقوه في الحكم، على أنه مستعد لعقد صفقة مع الشيطان نفسه إن كان الثمن مناسبا ومجزيا.
وأفضى إسقاط الجيش لحكم النميري في أبريل من عام 1985م إلى قيام حكومة مدنية برئاسة الصادق المهدي حتى يوم يونيو من عام 1989م (كانت هنالك بالطبع حكومة انتقالية مدنية برئاسة الجزولي دفع الله بين 22 أبريل 1985 إلى 15 ديسمبر 1986م عقب سقوط النظام المايوي. المترجم) حين قام العميد حسن عمر أحمد البشير بانقلاب عسكري أطاح بحكومة الصادق المدنية. وصار البشير شريكا في الحكم مع الجبهة القومية الإسلامية بقيادة الزعيم الإسلامي حسن الترابي. وتبنت الحكومة الجديدة، تحت تأثير الترابي، سياسة شديدة العداء لإسرائيل.
ويهدف هذا المقال لتبيان أنه على الرغم من التصريحات (النارية) المضادة لإسرائيل التي كثيرا ما كان يدلي بها القادة السودانيين، فقد كانت هنالك عبر السنوات بعض الأحْداث التي تم فيها تعاون وثيق بين الدولتين. وكانت الاعتبارات العملية لدى الجانبين هي الدافع لتلك الاتصالات الثنائية. فموقع السودان جنوب مصر (التي يصر قادتها على بسط نفوذهم على السودان، تلك الدولة الجارة الضعيفة والفقيرة اقتصاديا) لم يدع لقادته مجالا كبيرا سوى طلب العون الخارجي للحفاظ على استقلال بلادهم. لذا كان أولئك القادة يعدون الصلة مع إسرائيل شرا لا بد منه. أما بالنسبة للإسرائيليين، فقد كان سعيهم لكسب صداقة قطر مجاور لمصر (عدوهم التقليدي) يعد أمرا حكيما سياسيا. واستفادت إسرائيل كثيرا من طبيعة النميري الزئبقية الجشعة (avaricious) في الوصول لتعاون كبير بين الدولتين. وكما تثبت هذه الدراسة، فقد كان بالإمكان إِقناع نميري بتنفيذ مصالح إسرائيل إن كان الثمن كافيا.
وبالإضافة إلى الطِمَاح الشخصي لدي القادة السودانيين، كانت هنالك أيضا قناعة في الخرطوم بأن قدرات إسرائيل التكنلوجية الفائقة ستكون مفيدة للسودان. وكانت هنالك أيضا قناعة بأن العلاقة الطيبة مع إسرائيل هي مفتاح العلاقة مع أمريكا، وأن بمقدور إسرائيل الحديث إنابة عن السودان في واشنطن. ورغم أن إسقاط النميري وصعود البشير لسدة الحكم قد آذان بفترة من التشدد الزائد في السياسة الخارجية، إلا أن الحكومة السودانية عجزت عن انتهاج سياسة خارجية تتسق مع تصريحاتها وبياناتها العامة، إذ أنها كانت تعتمد على المعونات الأميركية، وتحرص أشد الحرص على الالتزام بقدر من الاستواء والاعتدال في علاقتها مع مصر، ودفع ذلك قادتها لاتخاذ موقف معتدل (نسبيا) من إسرائيل. وأخيرا، على الرغم من تصريحات الحكومة السودانية المضادة لإسرائيل، يجب التذكير بأنه لم يكن بمقدورها رفض عملية السلام في الشرق الأوسط، واتفاقية غزة - أريحا، والتي كانت الولايات المتحدة ومصر تؤيدانها.
**** **** ****
لقد شهدت السنوات الأولى (عقب استقلال السودان) تعاونا بين الدولتين، ليس في مجال السياسة فحسب، بل في المجال الاقتصادي كذلك. فقد كانت هنالك علاقات اقتصادية بين القطرين، حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل، رغم أن التبادل التجاري بينهما كان في حدوده الدنيا، ولا يتعدى تصدير السودان للماشية والقطن. وتوقف ذلك التبادل التجاري تحت ضغط مصري هائل. ففي 10 يونيو من عام 1950م أرجعت السلطات المصرية الباخرة الإيطالية (ديمافو Dimavo) التي كانت في طريقها لإسرائيل، لإفراغ شحنتها من "الأمباز cottonseed cake" في ميناء بورتسودان (أورد الكاتب في الهامش أرقاما توضح مدى التبادل التجاري بين البلدين. فقد صدر السودان لإسرائيل في أعوام 1949 و1950و1951 و1952 ما تراوحت قيمته 343000 إلى 726000 جنيها استرلينيا. المترجم). ورغم أن التبادل التجاري بين إسرائيل وحكومة السودان توقف رسميا (بعد عام 1953م)، إلا أن التعاون بين المنظمات غير الحكومية والنقابات السودانية ظل قائما مع اسرائيل بسبب ما كان يكنه كثير من السودانيين من إعجاب بإنجازات رائدة للدولة اليهودية. وكانت النقابات العمالية / المهنية (Sudanese Trade Unions) هي من بادرت بالاتصال بإسرائيل طالبة المساعدة. فقادة تلك النقابات كانوا يعدون إسرائيل "تجربة اشتراكية ناجحة"، وسعوا للاتصال باتحاد العمل الإسرائيلي (Israeli Labor Federation, Histadurt). فقبل انعقاد المؤتمر العام لاتحاد نقابات العمل في الخرطوم في يوم 13 ديسمبر 1954م قدم سكرتير عام اتحاد نقابات العمال دعوة لاتحاد العمل الإسرائيلي لإرسال مندوبين عنه لحضور مؤتمر الخرطوم (أورد الكاتب مرجع هذه المعلومة وذكر أن الرسالة أرسلت إلى م. نامر، وهي موجودة في أرشيف العمل الإسرائيلي، 29 أكتوبر 1954م بمعهد لافون لبحوث العمل بتل أبيب تحت رقم IV208 – 7608 – 7605 . المترجم).
وكانت هنالك من وجهة نظر إسرائيل قيمة استراتيجية عالية جدا وأهمية عظيمة للحفاظ على علاقات طيبة مع السودان. وفي سنوات الخمسينيات وضع أول رئيس الوزراء لإسرائيل (ديفيد بن غوريون) خطة للقفز من فوق الدول العربية المعادية، فصلها في خطاب له للرئيس الأمريكي ايزنهاور (محفوظ الآن في مكتبة الرئيس ايزنهاور في مدينة ابيلين بولاية كنساس). وكانت خطته تلك تتضمن جمع دول مثل إيران وتركيا وإثيوبيا في تحالف مُحيطِيّ مع إسرائيل. وكانت إسرائيل تعد السودان جزءً بالغ الأهمية في ذلك التحالف. غير أن قيام انقلاب عبود في 17 نوفمبر 1958م قضى على أي أمل في إشراك السودان في ذلك الحلف. لذا سارعت إسرائيل بتمتين علاقتها مع إثيوبيا، وكسبت فيها قاعدة تمكنت منها من مساعدة حركة الأنانيا في جنوب السودان، وزعزعة المنطقة الواقعة جنوب مصر. وكان جنود الأنانيا يحاربون حكومة الخرطوم باسم شعب جنوب السودان (الذين كانوا يشكلون أكثر من ثلث سكان البلاد، البالغ عددهم نحو 15 مليون في تلك السنوات). وغالب الجنوبيين هم من المسيحيين السود، بينما غالب سكان الشمال هم عرب يدينون بالإسلام. وكان تأييد إسرائيل لمتمردي جنوب السودان متسقا مع سياستها المناصرة لكل متمردي ومنشقي الأقليات في العالم العربي (مثل أكراد العراق والدروز في سوريا). ولفت موقع السودان الاستراتيجي المخابرات الإسرائيلية بسبب جواره لجنوب مصر المعادية، ولقربه من القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
وازداد اهتمام إسرائيل بالسودان كثيرا عقب تسنم عبد الناصر لسدة الحكم في السودان. وشعر الإسرائيليون بالقلق من الخيارات التي طرحتها حكومة السودان الإنجليزي –المصري بالاستقلال التام أو "وحدة وادي النيل"، وسعي مصر لضم السودان إليها. وبدا للرافضين لشعار "وحدة وادي النيل" التعاون مع إسرائيل أمرا جذابا وواعدا.
ومن أجل تفادي خيار الوحدة مع مصر، هَرَع مَنْدُوبُون من حزب الأمة إلى لندن طالبين من الحكومة البريطانية تأييد حزبهم ضد عبد الناصر. وكان موقف رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن من مسألة السودان آنذاك يشابه موقف وزير الخارجية السابق أرنست بيفن، الذي صرح قبل سنوات (تحديدا في 16 مايو 1947م) بأن "الحكومة البريطانية لن ترضًّى مصر أبَداً على حساب الشعب السوداني". وكان إيدن يرى أن للسودانيين "رغبة قوية ومتجذرة في الاستقلال التام، وشك قوي في نوايا المصريين". وكان شديد التعاطف مع أشواق السودانيين في الاستقلال، بل وصرح ذات مرة بأن بريطانيا "لن تحتفظ بالمصريين على قيد الحياة بإطعامهم السودانيين".
وشجعت كلمات إيدن تلك مناديب حزب الأمة، وزادت ثقتهم في صدق وعود البريطانيين بعد ازدياد عداء عبد الناصر لبريطانيا وعزمه على تأميم قناة السويس. ولكن، كما أتضح لاحقا، لم يتبع إيدن القول بالعمل، وجاء رد مجلس الوزراء البريطاني مخيبا لآمال حزب الأمة. وكان موقف وزارة الخارجية ومكتب الكومنويلث كذلك، تصالحيا، إذ لم يقبلا باستبعاد عبد الناصر (أو مصر) من مسألة السودان. غير أن المخابرات البريطانية (MI6) كانت أكثر تعاطفا مع حزب الأمة. ولما ذكر مناديب حزب الأمة لرجال المخابرات البريطانية بأنهم على استعداد لـ "الانضمام للشيطان نفسه" من أجل إيقاف التوسع المصري، اقترحوا عليهم التعاون مع إسرائيل لتحقيق مَأْرَبهم. وأخبروهم أيضا بأن نقطة الاتصال هو دبلوماسي في السفارة البريطانية في لندن اسمه مورداسي )موردخاي) غازيت (Mordecai Gazit)، أحد قدامى موظفي القسم السياسي بوزارة الخارجية الإسرائيلية، وكان حينها سكرتيرا أول في السفارة البريطانية في لندن. وصادف أيضا أن كانت إسرائيل في تلك الأيام قد بدأت تفكيرا جديا في فتح حوار مع حزب الأمة لأن برنامجه الحزبي السياسي كان يتضمن إقامة علاقات أفضل مع الدول الغربية، ورفض التقارب مع مصر.
وتمت اللقاءات بين الجانبين في سبتمبر من عام 1956م، حين التقى عميل المخابرات الإسرائيلية جوش بالمون بأعضاء من حزب الأمة في مدنية إسطنبول بتركيا. وبدأ الاجتماع بتقديم بالمون عمر (أحد أعضاء من حزب الأمة) لبن غوريون رئيس الوزارة الإسرائيلية، الذي أبدى كامل التعاطف مع أهداف حزب الأمة. وبناء على نصيحة من المخابرات البريطانية ذهب أعضاء من حزب الأمة للقاء مورداسي غازيت، والذي وافق على الالتقاء بالصادق المهدي Sadiq al - Mahdi (هل المقصود هو والده الصديق؟ المترجم). وفي تلك الاجتماعات اِتَّفقَ الجانبان على التعاون في مختلف الطرق الهادفة لمعارضة وصد الخطط المصرية بالسودان. وبالإضافة لذلك وعدت إسرائيل بإرسال خبراء زراعيين لتدريب السودانيين في زراعة وتصنيع القطن. وتوالت الاجتماعات بوتيرة متسارعة في الشهور التالية، وبلغت ذروتها في أغسطس من عام 1957م باجتماع سري في فندق بلازا أثينا Plaza Athene Hotel بين غولدا مايير وزيرة الخارجية الإسرائيلية وعبد الله خليل رئيس الوزراء السوداني. غير أن تلك الاجتماعات توقفت عقب انقلاب إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958م.
ولم يصب ذلك التوقف الإسرائيليين باليأس من العمل على إضعاف مصر عن طريق حددوها الجنوبية فبدأوا في التفكير في إمكانية النفاذ إلى المنطقة عن طريق بلدان أخرى. وسرعان ما وجدوا ضالتهم في جنوب السودان. ومن هنا بدأ التعاون مع حركة الأنانيا، التي حصل قائدها جوزيف لاقو من الإسرائيليين على أسلحة ومعدات عسكرية وفرص تدريبية. غير أن ذلك التعاون كان محفوفا بالمخاطر، إذ أن وزارة الخارجية الإسرائيلية كانت قد بدأت لتوها في إقامة علاقات طيبة مع الدول الإفريقية حديثة الاستقلال، وكانت إسرائيل تدرك أن عونها للانانيا لن يقع موقعا حسنا عند حكومات تلك الدول الإفريقية. غير أنه بالنظر إلى الخطر الذي كانت تشكله مصر على إسرائيل، وتصاعد مد القومية العربية، فقد كانت محاولات إسرائيل لشق وحدة السودان الوطنية أهم عندها من رأي الحكومات الأفريقية في مساندتها لحركة الأنانيا، وغدت تلك المحاولات واحدة من أبرز أجندة إسرائيل الوطنية.
**** **** ****
حالت حاجَة السودان للاحتفاظ بعلاقات ودية مع الدول العربية دونه ودون إقامة علاقات تعاون مستقر ومفيد مع إسرائيل. وظل جميع المسئولين في الحكومات السودانية المتتابعة يعلنون عن تضامنهم مع القضية العربية (المركزية)، رغم أن بعضهم كان يؤيد سرا التعاون مع إسرائيل ويرونه مفيدا للسودان. وكان السودان قد بعث لمصر قبل بدء حرب الأيام الست بقوات عسكرية، فقد كانت الحكومة السودانية (رغم اختلافاتها مع مصر) حريصة على عدم الانعزال عن عبد الناصر وبقية الدول العربية) بعد هزيمتهم من إسرائيل هزيمة مذلة. وأدانت الخرطوم إسرائيل وقطعت علاقتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، واستضافت مؤتمرا شهيرا لقمة عربية أعلن فيه أن "لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني ...). وتولى محمد أحمد المحجوب رئيس وزراء السودان مهمة عسيرة هي ترتيب صلح بين مصر والسعودية. وأورد المحجوب في مذكراته أنه ذَكَّرَ الملك فيصل بأنه "عربي نبيل" وأن من شيم نبلاء العرب ألا يجهزوا على خصم جريح، بل يضمدوا جِرَاحه.
وعقب حرب الأيام الست سجلت الجمعية التأسيسية السودانية صوت شكر للرئيس الفرنسي شارل ديجول لاتخاذه قرارا بحظر إسرائيل عقب حرب الأيام الست (كان ذلك حظرا على بيع الأسلحة الفرنسية إلى كل دول المنطقة. المترجم). ونشرت بعض الصحف السودانية في يناير من عام 1970م تصريحا لأحمد سليمان وزير التجارة الخارجية جاء فيه بأن الأسلحة التي قررت فرنسا بيعها لليبيا كانت في الأصل مخصصة لإسرائيل، وأن ذلك هو خير رد على "سرقة" إسرائيل لخمس من السفن الحربية من الميناء الفرنسي شيربورج (وقعت تلك الحادثة ليلة 29 ديسمبر 1969م. المترجم). وإضافة لذلك قَبِلَ السودان خلال شهور حرب الاستنزاف بنقل مصر لمعسكرات تدريبات جيشها لأرضه حتى تكون بمأمن من هجوم الطيران الإسرائيلي، وسمح أيضا للبحرية المصرية باستخدام ميناء بورتسودان عندما قررت مصر إغلاق باب المندب في وجه السفن الإسرائيلية. وبالإضافة لذلك حاول النميري الظهور بمظهر "الوسيط النزيه" في صراعات بعض الأطراف العربية.
وفي ديسمبر 1969 وقع السودان على "ميثاق طرابلس" الذي نص في بعض بنوده على تنسيق السياسات الخارجية لمصر وليبيا والسودان. وشكل ذلك قاعدة لما سمي "اتحاد الدول العربية". وكان النميري لا يخفي فخره بوجود جنوده على ضفة قناة السويس، وصرح أمام مظاهرة ضخمة في عام 1969م بأن" أبناء شعبنا على ضفاف القناة يجسدون أماني كل سوداني لنيل شرف القتال ضد الإمبريالية الصهيونية جنبا إلى جنب أبناء مصر، زملاء الكفاح في الصراع الأزلي ...". غير أن تلك القوات السودانية في قناة السويس لم تشارك قط في أي عمليات حربية، وقام النميري في نهاية المطاف بسحبها في 1972م (ذكر الكاتب في الهامش أن النميري ذكر في مقابلة صحفيه له مع صحيفة "النهار" البيروتية يوم 25 أكتوبر 1972م بأن سبب سحب تلك القوات هو الأزمة بين أوغندا وجارتها تنزانيا، والتي هددت الأمن السوداني. غير أنه لام مصر أيضا لطلبها من بلاده سحب تلك القوات. المترجم).
وأقام النميري، رغبة منه في إطالة بقاءه في الحكم، وكسب شعبية واسعة في العالم العربي، علاقات وثيقة مع أكثر العناصر العربية تطرفا في العداء لإسرائيل. ففي يونيو من عام 1970م صرح الناطق الرسمي باسم مجلس قيادة الثورة (لعله أبو القاسم هاشم. المترجم) بأن سياسة السودان هي مواجهة إسرائيل، وتأييد خطط معمر القذافي لتعبئة كل الدول العربية ضدها. غير أنه، على الرغم من الخطب والتصريحات (النارية) التي ظل النميري ورفاقه يطلقونها ضد إسرائيل، إلا أنه بدا واضحا أن التزامهم بالقتال ضد إسرائيل لم يكن كما كانت الدول العربية تشتهي. فعندما وافقت سوريا ومصر على ضم ليبيا والسودان لـ "اتحاد الدول العربية" المقترح، قرر السودان الانسحاب من ذلك الاتحاد، وأنهى بذلك قيام الاتحاد المقترح. غير أن السودان واصل دعم المجهود الحربي ضد إسرائيل، فبعث بلواء مشاة للجبهة المصرية في أكتوبر 1973م. غير أن ذلك اللواء وصل متأخرا للجبهة فلم يشارك عمليا في القتال (بحسب ما جاء في كتاب الفريق المصري سعد الدين الشاذلي المعنون "عبور القناة"، الصادر في عام 1980م. المترجم). ولاحظت إسرائيل بالطبع تلك المواقف العدائية ضدها من قبل السودان فضاعفت من عونها المادي والبشري لحركة الأنانيا في جنوب السودان، وطلبت من سفاراتها في الدول الإفريقية المساعدة في تلك المهمة، التي أسندت قيادتها ليوري ابراني، منسق العون الإسرائيلي لحركة الأنانيا (عمل يوري ابراني سفيرا لإسرائيل في أوغندا بحسب كتاب بنجامين بيت هلهامي المعنون The Israeli Connection: Whom Israel Arms and Why. المترجم).
ووجدت إسرائيل مضطرة أن تطلب من اصدقائها وحلفائها في القارة الإفريقية المساعدة في سعيها لإعانة حركة الأنانيا. وحصلت بالفعل على موافقة أوغندا لإدخال الأسلحة والعتاد الحربي عبر أراضيها. ومن المفارقات أن السودان كان قد سارع باتهام إسرائيل بمساعدة الأنانيا قبل أن تبدأ إسرائيل فعليا في إرسال عونها لتلك الحركة. وكما ذكرنا من قبل، تضاعف ذلك العون العسكري الإسرائيلي بعد إرسال السودان لقوات رابطت على قناة السويس. وحملت طائرات DC -3s الأسلحة والمعدات وألقت بها بمظلات (باراشوت) على مواقع المتمردين. وكانت معظم تلك الأسلحة بريطانية وسوفيتية الصنع، مما غنمته إسرائيل من مصر في حربها ضدها في عام 1967م. وبدأت الحكومة (على لسان وزير الإعلام) في عام 1971م في الهجوم على إسرائيل علنا لعونها لحركة الأنانيا. وكان اليسار السوداني (خاصة الحزب الشيوعي) في تلك الأيام هو الأكثر تطرفا من بقية أطراف الطيف السياسي السوداني الأخرى في ذلك الهجوم. غير أن التوتر بين الحكومة السودانية وإسرائيل بدأ في الخفوت قليلا مع نهايات عام 1972م بعد التوقيع على اتفاقية أديس أبابا، وعقب توقف إسرائيل عن مساعدة حركة الأنانيا. وانتقدت كثير من الدول العربية تلك الاتفاقية بحسبانها استسلاما لحركة الأنانيا، الأمر الذي نفته بغضب الحكومة السودانية (على لسان وزير خارجيتها) بجريدة "الصحافة" يوم 25 يونيو 1972م، وعللته بالجهل، وذكرت أن تلك الاتفاقية أفلحت في "إزاحة التأثير الصهيوني من المنطقة، وتحسين صورة العرب في إفريقيا". غير أن تلك الاتفاقية حسنت بلا شك من العلاقات بين السودان وإسرائيل للدرجة التي وافق النميري معها لفتح مكتب للموساد في الخرطوم. وفي ذات الوقت ذكر بنجامين بيت هلهامي في كتابه الذي ذكر آنفا إن وكالة المخابرات المركزية قامت بتشجيع التعاون الاستخباراتي بين السودان وإسرائيل. وظل موقف النميري من إسرائيل معتدلا إلى أن أزيح عن سدة الحكم. وأيد النميري (خلافا لغالبية الدول العربية. المترجم) اتفاقية كامب ديفيد. غير أن تلك السياسة تغيرت تماما بعد سقوط نظام نميري وتولي العسكر بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الدهب السلطة، إذ أطل حينها فصل جديد من فصول العداء لإسرائيل.

alibadreldin@hotmail.com

/////////////////

 

 

آراء