إسْـرائيل: صَـيدُ الغَـنَمِ القاصِـية

 


 

 

 

(1)

المتابعون بعمق لتطورات الصراع العربي الإسرائيلي، منذ إنشاء إسرائيل دولة كاملة المعالم بعد حرب عام 1948م، يدركون ما لإسرائيل من حساسية بالغة لكافة المخاطر المحيطة بها. هي طرف جرت زراعته في جسم تنكره سائر أطرافه الأخرى، بل وتنفر منه وتهدده بالإقصاء، إن لم يكن بالبتر كرة واحدة وإلقائه في البحر المتوسط. حاسة البقاء لدى المحاصر ، تحيله كياناً شرساً، شراسة قطٍ محصورٍ في ركنٍ لا منفذ منه. ذلك ما قد يفسر مسيرة الصراع في مختلف مراحله : عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 ، ثم عام 1973.
خلال تلك المسيرة، ثمّة صوتٌ خرج دون الإجماع الذي تبنته جامعة الدول العربية، هو صوت الزعيم التونسي الراحل بورقيبة، الذي فضّل أن يكون "براجماتياً" في التعامل بواقعية تجاه إسرائيل، لكن بقية الزعماء أعطوه ظهورهم ، وانكفأت تونس على ذاتها . بعد "كامب دافيد" والتودّد المصري نحو إسرائيل، وإزاء طي القاهرة ملف مواجهاتها العسكرية مع إسرائيل، تذكّر العرب تونس وبراجماتية "بورقيبة" ، فغادروا القاهرة مغاضبين "السادات"، ومعهم جامعتهم العربية ووكالاتها وهيئاتها، وجاءوا إلى تونس. هي النخوة المضرية ، هي الكبرياء المضخّم ، ثم بدأ الإنحدار نحو محطات السلام المتوهّم مع إسرائيل. .


(2)
دون الخوض في الذي نعرفه جميعنا، فإنّ المجتمع الدولي ومؤسساته ومواثيقه وقناعاته، يتحرّك لحفظ السلم والعدل الدوليين، وفق مباديء وثوابت، ولكن أيضاً وفق مصالح تُـرى بالعيـن المجرّدة، أو تتخفى في ضباب الدبلوماسية المخادعة.
على هذه الخلفية ، يحقّ لنا أن نقرأ بعض ما يحاك من خطط وخرائط وتوافقات ، تتصل بكامل منطقة "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، يتم طرحها بهمسِ الترغيب، أو جهاراً بصياحِ الترهيب. .
كنت قد أشرت في مقال سابق لي، إلى ما جاء في تحليل سياسي كتبه الدكتور "شارل مالك"، وقت أن كان مندوباً للبنان في هـيئة الأمم المتحدة، في أوائل عام 1948م ، قبيل وقوع هزيمة الجيوش العربية وانتصار الجيش الإسرائيلي، والذي سمّاه العرب "عام النكبة". وتعجبني براعتهم في تطويع اللغة واستخراج التوصيف الذي يعفيهم من المسئولية تماماً. لعلك تذكر عزيزي القاريء، أن هزيمة العرب في يونيو من عام 1967م ، سمّاها العربُ "عام النكسة". . !


(3)
كتب "شارل مالك" في تقريره للقيادة اللبنانية، وكأنه ينظر في بللورة سحرية :
( لقد أتمّ اليهود استعدادهم لإقامة دولتهم بالقوّة، وسيباشرون العمليات العسكرية خلال هذا الشهر، فإن لم يقضِ العرب على هذه الدولة في غضون سبعة أيام، ستدوم سبعة أشهر، فإن لم يقضوا عليها خلال سبعة أشهر، ستدوم سبعة أعوام، فإن عجزوا عن إزالتها في سبعة أعوام فقد تدوم سبعين عاماً وربما أكثر. .)
ها نحن الآن وإسرائيل في عامها السبعين ، وحفدة المؤسسين هم من يديرون شئونها السياسية الآن، ننظر وكأن الأمر لم يعد يعنينا في شيء. . !


(4)
لعلّ السانحة مواتية لإسرائيل، لتتوجّه للبلدان العربية، تحدثها بلغةٍ غير اللغة التي اعتادتْ، وبلسانٍ غير اللسان الذي تعرف ، وبتواصلٍ يتمّ دون سماسرة عيىونهم على الربح ، وبلا وســطاء يركضون لجني مصالحهم الضيقة. في عيد ميلادها السبعين ، وبحساب أعمار الشعوب، فقد بلغتْ إسرائيل سن الرّشــد ، أما أعداؤها فقد تجاوزتْ أعمار أكثر بلدانهم، أرذل العمر وحطّتْ أثقالها بمحطات الأفول. ما بقيت لأكثر بلدانهم من حيلة، إلّا أن تفتح أذرُعها للقادم الجديد يخطب ودّها، فتلاقيه بالتهليل.
أما وقد وضعت "الحرب العالمية الباردة" أوزارها، في الأعوام الأخيرة من القرن العشرين، فإنّ الطامعين الكبار ، لم تغفل أعينهم عمّا في منطقة " الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" من موارد ثمينة، تحتاجها اقتصادياتهم , من الغفلة أن لا نربط الوقائع بعضها ببعض. أن تغرق المنطقة في نزاعاتٍ واضطرابات، فلا نرى ملـياً كيف تناور أيدي السحرة الكبار، تمسك بخيوط اللعبة وتديرها لصالحها، والفريسة في خنوع. خلال حرب الخليج الأولى، موّلتْ الولايات المتحدة إيران- بما عرف فيما بعد بفضيحة "إيران كونترا" – وزوّدتها بالسلاح لمقاتلة العراق، ذات إمريكا التي سمّاها "الخميني": " شيطان بُزُرك" (الشيطان الأكبر). . !


(5)
لكن في حرب الخليج الثانية، وعبر فخٍ رُتب له جيداً ، يكون تحريض العراق لغزو الكويت مُبرّراً لتأديب العراق ذاته في تلك الحرب . بعد استراحة قصيرة، ينفتح صندوق "باندورا"، فيما سمي بمواسم الربيع العربي . هبّت شعوب وسقطت حكومات وفرّ رؤساء جبابرة واغتيل آخرون، واشتعلت حروبٌ أهلية، ولكن بقيت الوقائع تجري تحت العنوان الكبير: خلط الأوراق . . وأن ترتفع عبره، رايات محاربة الإرهاب الدولي، ويتكاثر الطامعون ويبدأ التحلل التدريجي من الإلتزامات التي ظلت تحفظ للمجتمع الدولي تماسكه. لم يتغيّر المسرح بعد، ولكن تبدلتْ خشبته ، وتهرّأتْ ستائره، وسقط بعضُ ممثليه، وتنازل أو اختفى أخرون . ها نحن نرى بأمّ أعيننا، وبملءِ أسماعنا، رئيساً مثل "دونالد ترامب"، لا يرى أبعد ممّا تحت قدميه في بلاط "البيت الأبيض"، فلا يأبه بالثقافة تحت رايات "اليونسكو"، ولا تشغله مخاطر البيئة أوالمناخ أو طبقة الأوزون، ويوجّه جيشه لمطاردة المستجيرين برمضاء بلاده من جمر بلدانهم ، ويعاقب البلدان المارقة في نظره، دون التفات للأمم المتحدة ذات الشأن. .


(6)
رئيسٌ مثل "ترامب" – وهو يطرد من يمثلون شرعية الحقّ الفلسطيني من سفارتهم في الولايات المتحدة، ثم ينقل سفارة بلاده إلى مدينة "القـدس"، قبل أن تجرؤ إسرائيل نفسها من إعلانها عاصمة لها، يدّعي أنه يعدّ "خطة القرن" التي ستضع حلاً نهائيا للصراع العربي الإسرائيلي. . ! يعجب المرؤ إن لم تمنع الرجل انشغالاته بوسائط التواصل الإجتماعي، وخصوماته مع الإعلام الأمريكي، من الاطلاع على أدبيات صراعٍ ، بلغ عمره الســبعين هذا العام. . !
إن الملعب في منطقة "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"- وبعد التحوّلات التي جئنا على ذكر بعضها- باتتْ بعض أطرافه، عجينة طيّعة لإعادة رسم خرائط جديدة، وصارت أكثر قابلية للتشكّل وفق رغائب الطامعين الأقوياء. لربّما يبحثون الآن عن إسمٍ له رنين مثل رنين اتفاق "سايكس- بيكو" الشهير، الذي تمّ بموجبه توزيع أسلاب ما بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918م على الطامعين، بعد أن تبادلوا أنخاب النصر. .
ها نحن نشهد "نتنياهو" وقد استوعب الدّروس، يشرع في دبلوماسية الخرائط الجديدة، ولغرض تجاوز استعصاءاته الداخلية أيضاً ـ فيبدأ مثلما تفعل الذئاب، باصطياد "الغنم القاصية": ذهب إلى "مسقط" ، وإلى "انجمينا"، ويعدّ عدّته لزيارة "الخرطوم" . .!

 

آراء