إقالة وزير الدفاع؟.. آخر ما نحتاجه!!

 


 

 



khalidtigani@gmail.com

تقول الطرفة المتداولة أن خطيباً ساخراً وقف ذات يوم أمام المصلين وسألهم إن كان هناك أحد غريب فأجابوه بلا، فقال لهم: لا جديد يقال ولا قديم يعاد، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله وأقم الصلاة. قد يقول أحدهم ليس هذا الوقت للاستظراف في زمن المحنة، ولكن هل هناك محنة أكثر من هذه الكوميديا السوداء التي أصبحت واقعاً معاشاً وليس تمثيلاً درامياً يؤدى في المسارح لإمتاع الجمهور الهارب من مرارة واقعه بالسخرية منه.
هل من جديد في هذا المشهد المأساوي؟ الأشخاص أنفسهم والجلبة ذاتها والتصريحات الممجوجة نفسها يعاد إنتاجها على نحو مكرر مملٍّ يفتقر لأدنى درجة من التجديد على الأقل من أجل إبقاء المتفرجين أحياء حتى لا يقتلهم الضجر، ويقال إن ممثلاً مغموراً يقف للمرة الأولى ممثلاً في دور شحاذ كانت مهمته أن يقول في مشهد وحيد >لله< غير أنه لم يقتنع بمحدودية هذا الدور فألحَّ على المخرج أن يزيد له في مساحة دوره الذي تندر عما يمكن أن يضيفه، فقال دعني أضيف “يا محسنين”.
في الواقع هناك جديد يجب ألا ننكره التعرف إلى هذه العبقرية غير المسبوقة التي كأننا نكتشفها للمرة الأولى عن قدرة السادة المسؤولين في الطبقة الحاكمة في إظهار البراءة، والجلد على تحمل إعادة إنتاج الأزمات الكارثية بكل أبعادها المأساوية المرة تلو الأخرى دون أن يرف لهم جف، أو حتى أن يصابوا بالملل من أداء الدور نفسه، وإطلاق الوعود والوعيد، وترديد المواقف المضرية التي لا تقول شيئاً وبذل التعهدات التي تنفضح عند أول اختبار قادم. ألم يملوا من أنفسهم، ألا يزعجهم بأية درجة أن يكونوا مثار تندر؟.
لا شك أن هذه قدرة على >تخانة الجلد< ذات كفاءة عالية الحساسية يستحقون أن يحسدوا عليهم، هل نحتاج إلى إنعاش الذاكرة وإعادة التذكير بـ”النكسات” أو “النكبات” المتكررة ونعدها واحدة واحدة ثم ننظر ماذا قال فيها وعنها الأشخاص أنفسهم الذين يتحدثون اليوم عن واقعة "أم روابة" بتصريحات متضاربة تفضح أكثر مما تستر، وتبعث على الخشية من قادم أسوأ أكثر من أن تكون داعية للاطمئنان، وتثير السخرية أكثر من أن تصلح حججاً لإقناع أحد مهما قل فهمه. ورعا الله أستاذنا د. فتحي الربعة الذي كان لا يمل تكرار دروسه في محاضرات >الزولوجي< بقاعة الـ>جي إل تي< مراعاة لتسطيح البرالمة مشجعاً إياهم بمقولته الشهيرة >كترة التكرار بتعلم الشطار< والحمد لله فقد تعلمنا من التكرار.   
ليقل لنا أحدهم في طول الدنيا وعرضها، وفي أركان الكون الأربعة، إن شيئاً مما يجري على أرض السودان في ظل هذا "العهد السعيد" جرى مثله في أي زمان أو مكان في أي من بقاع الأرض، لا أحد على وجه التحديد يعرف إن كانت البلاد في حالة حرب فتستعد لها وتقدم لها الغالي والنفيس من أجل هدف مفهوم محدد المعاني والمعالم، أم أن البلاد في حالة سلام فتنعم برخائها، لا أحد يدري إن كانت الحكومة جادة حقاً في حربها أم أنها تمارس لعبة أفلام الكرتون الشهيرة "توم آند جيري" مع خصومها من الجماعات المسلحة التي تلعنها اليوم لتشاركها السلطة غداً.
بيد أن ما يزيد الأمور ضغثاً على إبالة أن وسائط صناعة الرأي العام في وسائل الإعلام المختلفة بدلاً من أن تجعل مما حدث مناسبة لطرح الاسئلة الكبرى، ترى أغلبها يمارس دور المروِّج للقضايا الجانبية والانصرافية لتقدم أكبر خدمة للسلطات الساعية إلى إخفاء الصورة الكاملة بإغراق الجميع في لجة التفاصيل الصغيرة. والنجاة من مواجهة استحقاقات طرح الاسئلة الحقيقية الصعبة ودفع فاتورة التصدي للعمل العام دون ارتفاع إلى ما تقتضيه المسؤولية عن ذلك.
ليس الخبر هو ما حدث في "أم روابة" بل الخبر أنه إعادة لأحداث مماثلة ظلت تتكرر بين الفينة والأخرى، دون أن يتعظ أو يعتبر أيٌّ من المسؤولين في الطبقة الحاكمة من عبرها، وليست القضية أن هجوماً مسلحاً أو اعتداء قد حدث ولكن السؤال لماذا يحدث أصلاً، وليست المسألة أننا أمام تقصير ذا طابع فني سببه عجز القوى النظامية عن التعاطي مع المهاجمين والتصدي لهم، ولكن المسألة أكبر من ذلك بكثير تتعلق بوضع البيئة والمناخ السياسي السائد في البلاد الذي يجعل السلاح هو وسيلة تحقيق المكاسب في موائد التفاوض وليست عدالة المطالب.
يصرف الناس كثيراً من الوقت في الجدل بحثاً عن كبش فداء يناسب واقع الحال فيصوِّبُون السهام إلى شخص بعينه، وزير الدفاع، يحمِّلونه كل أوزار ما يجري، ويطالبون بإقالته وكأن ذلك كفيل وحده بحل أزمتنا الوطنية العميقة الجذور، ويدعو البعض الآخر إلى دعم المؤسسة العسكرية وحثها على حسم المتمردين من كل شاكلة ولون. وكأن الحسم بالقوة متاح أمامها هكذا، وأنها لم تقم بذلك لمجرد أنها لا تريد أن تفعله من باب التسلية وتزجية أوقات الفراغ.
وهب أنه جيء بالفيلد مارشال مونتغمري من مرقده، أو بعث خصمه الفيلد مارشال روميل وعهد لأي منهما بقيادة جيش عرمرم توفر له الرجال والعتاد والسلاح من كل صوب فهل يعني ذلك حسم ثورة المتمردين أو إخمادها؟. تلك أماني الذين يظنون أن استخدام القوة كفيل بلجم أصحاب المطالب، وقد أثبت التاريخ أن القوة قد تخمد تمرداً لحين ولكنها لا تستطيع أن تطفئ أوار من يحملون هم قضية يؤمنون بها، وليس مهماً إن كان الآخرين مقتنعين بها أم لا، والحاضر يشهد كذلك.
لا يتعلق الأمرعلى الإطلاق بمدى الاستعداد العسكري من عدمه، وليست المشكلة أن هناك تقصيراً عسكرياً قد حدث، ذلك هو التشخيص الخاطئ المتعجل الذي يسارع البعض إلى تلقـُّفه ما أن تحل كارثة من نوع ما حدث من هجوم على >أم روابة<، فهو تشخيص سهل مريح يناسب الكثيرين، للمفارقة حتى بعض منسوبي الطبقة الحاكمة الناقمين فيطالبون بإقالة وزير الدفاع من باب البطولة وتسجيل هدف بسهولة اصطياد بطة عرجاء. صحيح أن قادة المؤسسة العسكرية يتحملون المسؤولية من باب أنهم تطوعوا وانتدبوا أنفسهم للعب أدوار خارج المهام المناط بأية قوات مسلحة وطنية محترفة في العالم المقتصرة على حماية الدستور، والدفاع عن المصالح الوطنية، وليس أن تتحوَّل إلى حزب يزاحم على مقاعد السلطة بقوته ونفوذه.
والسؤال ما الذي، ومن الذي، حول المؤسسة العسكرية السودانية لتغرق في لجج الصراع السياسي والتنافس على السلطة والحكم، وتنصرف من مهمتها الاصلية، وما الذي جعل القوات المسلحة السودانية تخوض واحدة من أطول حروب العصابات لست عقود هي عمر استقلال البلاد، في ماراثون حروب أهلية لا تنتهي، وقل أن تعرَّض لمثلها جيش في العالم. حتى لا يكاد أحد يذكر للجيش السوداني حرباً ضد عدو خارجي اعتدى على حدود البلاد أو تعرَّض لأمنها القومي، وقد وجد نفسه منخرطاً في الحروب الأهلية والصراعات السياسية الداخلية حفاظاً على السلطة السياسية للحكام وليس دفاعاً عن الأمن القومي للبلاد. لذلك ليست المشكلة في جوهرها هي كفاءة أداء وزير الدفاع، وإن كان هو جزء من المشكلة، ولا قدرات قادة الجيش أو بسالة الجنود، بل تكمن المشكلة الحقيقية في مأزق النظام السياسي الحاكم الذي شاخ وتكلست أطرافه وتزايدت صراعاته واستبان عجزه، وهو الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري مستنداً في قاعدة نفوذه على المؤسسة العسكرية بغطاء مدني مثلته الحركة الإسلامية قبل أن تتفرَّق أيدي سبأ وترثها طبقة حاكمة في حزب باهت يستمد وجوده من أجهزة الدولة لا يستطيع فطاماً.
فقد استنفذت السلطة الحاكمة بعد ربع قرن كل جهدها حتى هرمت، ولم تفلح لا في قيادة مشروع وطني يساعد السودان على الخروج من التيه، ولا هي نجحت في توفير الحد الأدنى من الأمن والاستقرار، بل زادته رهقاً على رهق في معارك لا تنتهي فقط من أجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة وإن كان ثمن ذلك أن تقسيم البلاد، ثم تسليم ما تبقى منه للمزيد من التشرذم والتمزق.
لن تفلح الإدانات اللفظية في وقف الاعتداء على الأبرياء، كما لن يفلح تجريم النظام الحاكم للحركات المسلحة استخدامها للعنف، وما من أحد شجع على العنف السياسي بمثلما فعل إذ طالما تحدَّى قادته معارضيهم منازلته بالقوة، وطالما تمادى بعضهم في العنف اللفظي متحدياً الخصوم، فما الذي يتوقعونه، ولا أحد يستطيع أن يحتكر العنف لنفسه، وما من أحد سارع للاعتراف بحملة السلاح وفاوضهم وتقاسم معهم السلطة والثروة مثل ما فعل النظام الحاكم مع هؤلاء الذين يلعنهم اليوم ليتفاوض معهم غداً ويتبادل معهم الانخاب والابتسامات، وهكذا يعج القصر الرئاسي ودواوين السلطة بالانقلابيين والمتمردين من كل شاكلة ولون لا يفرق بينهم إلا أقدمية الوصول إلى موارد السلطة.
وإن كانت ثمة رسالة بالغة الدلالة كشفت عنها الأحداث الاخيرة فهي أن المواطنين لم يتظاهروا هذه المرة ضد المعتدين بل احتجوا على نحو غير مسبوق في وجه المسؤولين الحاكمين، مما شهدته "أم روابة" وعاشته "أم دوم" كذلك المكلومة على فقدان صبي لحياته في عنف غير مبرر ولا مقبول. في ظاهرة غير مسبوقة تحمل بصماته الإنذار الأخير أن الكيل قد طفح.
لقد حان وقت الفرصة الأخيرة لوقف دوَّامة العنف السياسي في السودان، وهذا لن يحدث بدون اعتراف الطبقة الحاكمة أن جرابها بات خالياً من أيَّةِ حلول حقيقية لمشكلات البلاد المتفاقمة على الصُّعُدِ كافَّة، وأن العجز بلغ به مبلغه وبات معطوباً إلى درجة لا يمكن إصلاحها، كما لن تحل أزمة السودان عملية الهروب إلى الإمام بلا شفاء من إدمان المفاوضات الجزئية وعقد الصفقات الثنائية، لا مع الحركة الشعبية الشمالية، ولا حركات دارفور فقط لانها تحمل السلاح، الحل الوحيد الذي بات ممكناً التوافق على وضع انتقالي وحوار وطني شامل يشارك فيه كل الفاعلين في الساحة السودانية بلا اقصاء ولا عزل من أجل بحث مستقبل لا يستطيع طرف واحد مهما بلغ شأنه أن يفرضه على الجميع.               
عن صحيفة إيلاف السودانية

 

آراء