احتفالاً بالذكرى الثامنة والثلاثين حول تقديم الحزب د. النعيم كمحتفل (17)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
"كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ"
صدق الله العظيم

تفكيك الأخلاق

مدخل:

لقد رأينا تفكيك د. النعيم لجميع أساسيات الأديان الكتابية.. وتفكيك الدين هذا هو نفسه تفكيك الأخلاق.. فالأخلاق الموضوعية تقوم على الدين.. للمفكر (ولتر ستيس) رؤية واضحة عن الأخلاق الموضوعية، فعنده أنّ صورة العالم هي التي تحدد الأخلاق، وصورة العالم في الدين تقوم على الغائية هذا في حين أنّ صورة العالم في الحضارة الغربية تقوم على الميكانيكية.. يقول عن النظرة الدينية: "دراما العالم تحكمها أهداف في ذهن الله، فكل شيء مما يحدث يتناسب بطريقة ما مع الخطة الإلهية".. ويقول: "التفسير الغائي يقابل في العادة بالتفسير الآلي أو الميكانيكي، فتقديم تفسير غائي لحدث، فإنه يعني تحديد غرض له اما تقديم تفسير آلي للحدث، فإنه يعني تقديم سبب له.. ويمكن أن يقال أيضاً أنّ التفسير الآلي يعني تفسير الظواهر عن طريق قوانين الطبيعة، لأنّ التفسير بقوانين الطبيعة هو نفسه التفسير عن طريق الأسباب".. وعنده التفسير الغائي الذي يقوم عليه الدين، تقوم عليه الأخلاق الموضوعية، ففي هذا التفسير توجد غائية كونية، وتوجد أخلاق كونية تنبني على هذه الغائية ويقول: أنّ ما يقوم على غائية كونية، يقوم على أخلاق موضوعية، بمعنى أنها لا ترتبط بأغراض الناس الذاتية.. والأخلاق الموضوعية تأتي للإنسان من خارجه.. فبالنسبة للحضارة الغربية، التي يقوم تصورها للكون على غياب الغائية، فهي لا تملك أن تكون الأخلاق فيها موضوعية – قائمة على أسباب خارج الإنسان – فلا بد أن تكون الأخلاق هنا ذاتية.. يقول ستيس: "والحقيقة هي أن الطابع الأخلاقي النهائي للكون، سواء أكان تجسيداً في صورة إله الأديان المتعالي، أو تصورناه على أنه محايث لمسار العالم ذاته، كان جزءاً في كل ثقافة دينية متقدمة.. ولقد ظلّ حتى العصور الحديثة في القرن، إيماناً كلياً بالإنسانية المتحضرة.. والمفهوم المضاد الذي يقول أننا نعيش في عالم أعمى لا يكترث بتاتاً للخير أو للشر، هو سمة العالم الغربي فحسب، إبّان القرون الثلاثة الأخيرة، وهو نتاج الثورة العلمية في القرن السابع عشر.. أما القول بأن القيم ذاتية ونسبية، وأنّ العالم ليس نظاماً أخلاقياً، فهذه السمة هي الإيمان التقليدي الشائع عند المثقفين في وقتنا الحاضر.. وهذه الوجهة من النظر عن العالم قد هبطت إلى جماهير الناس".

الأخلاق الموضوعية هي التي لا ترتبط برغبات الناس وأهوائهم، وإنما تأتي للإنسان من خارجه، وهذه وحدها هي الأخلاق.. هذا في حين أنّ الأخلاق الذاتية، هي مرتبطة بأغراض الناس ورغائبهم، وهي قد تكون ذاتية فردية، أو ذاتية جماعية.. وهذه الأخلاق هي ما يعمل الدين على تغييرها، ونقلها من الذاتية – الهوى – إلى الموضوعية فهي بطبيعتها نقيض للأخلاق التي يعنيها الدين.. بمعنى آخر، الذاتية الأخلاقية هي اتباع الهوى، والأخلاق الموضوعية هي التخلي عن الهوى، واتباع توجيهات تأتي من خارج الإنسان لتجعل هواه وفقاً لهذه التوجيهات.. يعرف (ستيس) القيم الأخلاقية الموضوعية بأنها هي النظر إلى القيم الأخلاقية على أنها لا تعتمد على رغبات البشر، ومشاعرهم، وآرائهم، أو أي حالة ذهنية أخرى.. وبالطبع الذاتية الأخلاقية هي نقيض هذا التعريف، ففيها القيم الأخلاقية تعتمد على رغبات البشر ومشاعرهم وآرائهم.. الذاتية الأخلاقية تعني أنه لا توجد أخلاق عامة – أخلاق لكل البشر.. كما أنّ الذاتية الأخلاقية، سواء كانت فردية أو جماعية، تعني أنه لا توجد أخلاق صحيحة وأخرى خاطئة، فالصحيح بالنسبة للبعض، قد يكون خاطئاً بالنسبة للآخرين.
لا بد للأخلاق الموضوعية من دافع، وهذا الدافع قد ظل دائماً هو الثواب والعقاب، ولا يزال كذلك.

من المقرر، أنّ أزمة الإنسانية المعاصرة، هي أزمة أخلاق.. وبسبب توحُّد الكوكب الأرضي جغرافياً أصبح التحدي الأخلاقي يقتضي أن تتوحد الإنسانية كلها على أساس أخلاقي واحد، وهذا ما يجعلنا نجزم أنّ الإسلام في مستوى أصوله هو وحده الذي يستجيب لهذا التحدي.. يمكن مراجعة كتاب (الأخلاق: بين الاسلام والحضارة الغربية).

خلاصة ما نريد أن نصل إليه:

1. تصور الكون، والقوى التي تسيٌّره، وما يقوم عليه من خير وشر، هذا ما أسماه المفكر الأمريكي ولتر ستيس بـ(الكون كنظام أخلاقي).. وهذا التصور ظلت عليه البشرية، بصورة من الصور، طوال تاريخها وحتى ظهور الحضارة الغربية، التي قامت على تصور مختلف.

2. الأخلاق تقوم بصورة مبدئية على تصور الخير والشر، فعل الخير فعل أخلاقي، وفعل الشر هو فعل غير أخلاقي.. والحافز الأساسي للأخلاق هو تصور الثواب والعقاب، سواء أكان هنا، أو في الحياة الأخرى بعد الموت.

3. الأخلاق دائماً مرتبطة بالمجتمع، وبقوة خارجية هي في الغالب عند معظم الشعوب الإله.. المهم مصدر الأخلاق لا بد أن يكون من خارج الإنسان.. والأخلاق عمل في أن يكون ما بداخل الإنسان – الضمير – يقوم على التوجيهات للقيم التي تأتيه من الخارج.. وهذه القيم دائماً مرتبطة بمرضاة الإله، ومرضاة المجتمع.. وما يرضي المجتمع دائماً هو ما يرضي الإله.. والأخلاق تقوم بصورة مبدئية على اعتبار الآخر، واعتبار توصيل الخير إليه ودرء الشر عنه، وعلى ذلك فهي علاقة تقوم على التوفيق بين الأنا والآخر.

4. الأخلاق دائماً مرتبطة بالفكر، وهي تقوم على أن يتولى الفكر قيادة النفس، فيقيد الشهوة، وفقاً لمرضاة الله، ومرضاة المجتمع، فيكبت ما لا يرضى عنه الله، وما لا يرضى عنه المجتمع، من العمل والسلوك.. والأخلاق، بما أنها تعتمد على الفكر، فهي تتسامى بتسامي الفكر ودقته.

الذاتية والنسبوية عند د. النعيم:

الاخلاق عند د. النعيم تستبعد المرجعية الدينية وتعتمد النسبوية الذاتية.. فهو لا يؤمن بأخلاق ثابتة ومسبقة.. فالأخلاق عنده ذاتية يحددها كل شخص لنفسه.. يقول د. النعيم: "بعبارة أخرى أنا أركز على الممارسة التي يعتمدونها لخدمة مصالحهم الأساسية، بدلاً من الافتراض أن هناك نظرية أخلاقية مجردة، تحدد للبشر في كل مكان، ماهية، وطبيعة القيم الإنسانية".. ويقول: "الرؤية التي أقدمها للقيم الإنسانية ليتم التباحث حولها من هاتين المحاضرتين، تتفادى عن عمد، ومن حيث المبدأ، محاولة تحديد ماهية هذه القيم بصورة عامة".. ويقول: "من وجهة نظري، القيم الإنسانية يجب أن يتم تشكيلها وصياغتها، عبر الإقرار الواسع، والاعتراف بالحقيقة والواقع العام الذي يعكسه ضعفنا، وقصورنا المشترك، وليس عبر تأكيد أو فرض ادّعاء ميتافيزيقي أو فلسفة حول (الطبيعة الإنسانية)، أيّاً كان هذا الادّعاء".. ويقول: "بالنسبة لتطور القيم الإنسانية، أقول أنّ القيم الإنسانية هي ما يحدده كل فرد لنفسه نسبة لتفكيره ورغبته، وإنها مسألة خيار أخلاقي لكل فرد، سواء أن قرر ممارسة هذا الخيار أم لا".1

وبالنسبة لإبعاده للمرجعية الدينية، نورد قوله: "فيما يخص هذا الموضوع، وهذا هو الموقف الذي أتبناه أقدمه في هذا الكتاب، وهو أني أريد أن أقول أن أي سياسة عامة، أو تشريع عام، لا يمكن تبنيه بالرجوع إلى المرجعية الدينية.. ومعنى ذلك أنّك إذا أردت أن تمنع العلاقات الجنسية المثلية بين الأفراد من الجنس الواحد، لا يمكنك أن تفعل ذلك بسبب أنها حرام، وتقول للناس لا يمكنكم أن تفعلوا ذلك لأنها خطيئة من وجهة نظر الدين".2

ولقد سبق أن أوردنا قوله عن دينه، والذي يقول فيه: "عندما أقول ديني، وهو الاسلام، فانني لا أتحدث عن الاسلام بصورة عامة، أو الاسلام بالنسبة للمسلمين الآخرين، وانما أتحدث عن الاسلام الشخصي، ذلك أنه بالنسبة لي الدين يجب أن يكون ذاتياً، لا يمكن أن يكون غير ذاتي.. لا يمكن للدين أبداً أن يكون غير التجربة الفردية والشخصية للانسان". 2

وعن تمديد النسبوية الأخلاقية، يقول د. النعيم: "النظرة المستبصرة للنسبوية الأخلاقية، قد ساهمت مساهمة إيجابية، في نشر التفاهم بين الثقافات، وتعزيز الاحترام المتبادل، وروح التسامح والتعاون بين الناس في العالم. باختصار فإن النسبوية الأخلاقية تعني أنّ (الأحكام تنبني على التجربة، والتجربة يفسرها كل شخص حسب تربيته أو تربيتها الثقافية)..".3

بالطبع لا يوجد حرام ولا حلال، بصورة مبدئية.. فالحلال ما يحلله الفرد لنفسه، والحرام ما يحرمه على نفسه.. كما أنه لا يوجد منهاج واحد لكل الناس، فلكل فرد منهاجه الخاص، أو لا منهاج له.. هذا بالطبع هو الوضع الطبيعي بالنسبة للأخلاق الذاتية، ولكن د. النعيم لم يتركه على هذا التعميم وإنما ذهب لتحديده..

سئل د. النعيم، في محاضرة منتدى السودان الديمقراطي: "ما هو المنهاج الذي يمكن بموجبه تغيير أخلاق الناس بالمستوى المثالي في السودان؟".. أجاب د. النعيم: "أنا ما بفتكر – دا طبعاً سؤال اتكرر، وحصلت ليو الاشارة.. أنا ما بفتكر بأنه نحن بنحتاج نتبع منهاج واحد لتغيير الأخلاق!! لكن بنحتاج لنتفق أنّ التغيير الأخلاقي ضروري.. بعد داك كل واحد فينا ياخد منهج من التغيير.. يعني المسألة ما افتكر نحن خطنا أن تكون عندنا وحدة في المنهج: أنه لا بدّ انه المنهج دا، وما في غيره.. وأنه لا بد لكل زول يلتزمه.. أنا ما بفتكر بأنه أنا، كتلميذ للأستاذ محمود محمد طه، بأنه دا موقفي ولا دعوتي"!! بالطبع هذا نقيض دعوة الفكرة للمنهاج الموحد لكل الناس، الذي هو (طريق محمد) صلّى الله عليه وسلّم.

السلوك الفردي عند د. النعيم لا يقوم على منهاج، وانما هو يقوم على الفكر والرغبة الذاتية.. وبالنسبة للجماعة هو يبعد المرجعية الدينية، وقد أوردنا في ذلك المرجع أعلاه، كما يقول: "نقطتي هي أنّ أي مسألة تتعلق بسياسة الدولة سواء كانت تشريعاً أو سياسة، يجب أن تتم عبر المنطق المدني، وليس من أي منظور ديني أو مرجعية دينية.. مثلاً، موضوع الحدود، وأنا أعارض أيضاً فرض الحدود من قبل الدولة.. وسواء كان الموضوع يتعلق بالحدود أو العلاقات الجنسية، أو أي موضوع آخر، يجب علينا أن نناقش الموضوع، ونضع أسباب تكون قابلة للنقاش أو القبول دون أي مرجعية للدين او العقيدة الدينية".2

الوحي والمنظور التاريخي:

على الرغم من أنّ د. النعيم فلسف للأخلاق الذاتية، بصورة واضحة، وأبعد أي مرجعية خارجية، سواء كانت الله أو المجتمع أو تشريع الدولة.. إلا أنه لم يقف عند هذا الحد.. فقد اتجه، اتجاهاً يجعل فيه الخروج التام على الأخلاق الموضوعية، هو نفسه دين.. وذلك من خلال ما أسماه (الوحي) ومن خلال (المنظور التاريخي).

فبالنسبة للوحي هو يبعد الدين المحدد، كما جاء به الوحي في الأديان السماوية.. هو يبعد بصورة كلية، الإسلام الخاص، إسلام البشر، الذي يقوم على الرضا.. ويعتمد الإسلام العام الذي يقوم على الإرادة وحده.. يعني يترك الشريعة ويبني على الحقيقة!! أسمعه يقول: "فكرة أخرى أود أن اقدمها هنا، هي أنّ الله خلق العالم أيضاً!! وعلى هذا أيّاً كان العالم الآن فهو خلق الله، وهو بالتالي جزء لا يتجزء من الوحي لهذا: الوحي ليس فقط في الكتب السماوية.. الوحي في حياتنا!! وهذا هو السبب الذي أقول به أنّ الوحي يجب فهمه باستمرار من المنظور التاريخي، عبر الزمن، وليس كشيء (مجرد) خارج حياتنا.. إنّ الوحي في الحقيقة محايث، وجزء لا يتجزأ من الحياة كما نعرفها، ونمارسها.. وعليه، عالمنا المتغير هنا هذا هو من الله، بنفس القدر الذي به الوحي من الله!! وهنا أيضاً، فيما أعتقد، تتواصل المفارقة، أو العبارة الموهمة بالتناقض!!".4

علينا أن نتذكر أنّ د. النعيم يستبعد الوحي للأنبياء والمرسلين، كما رأينا، فالدين عنده صناعة بشرية مثله مثل الثقافة.. وقد أوردنا أقواله العديدة التي يقول فيها أنّ القرآن ليس موحًى من الله وإنما هو نتاج للإجماع البشري عند المسلمين.. ويقول أنّ الشريعة ليست منزلة من الله.. وقانون الأحوال الشخصية ليس منزلاً من الله.. فلم يبق إلا الوحي في الحقيقة الذي يتحدث عنه.. فكلما يحدث في الوجود هو وحي، من الله، ولذلك في زعمه هو صحيح ديناً، وهو إسلام.. ولتوكيد هذا المعنى أكثر يقول: "واهتداءً بالنموذج التأسيسي لرسالة النبي محمد في غرب الجزيرة العربية في مطلع القرن السابع، يسعى المسلمون دائماً للتكيف مع الظروف الاجتماعية والثقافية التي يجدونها سائدة في المجتمعات التي يقدمون اليها، دون أن يفرضوا آراءهم الدينية أو السياسية وأساليب حياتهم على المجتمعات إلا في أدنى مستوى.. وبالتالي فإنّ صفة مسلم أو إسلامي قد تطورت دائماً في الزمن!!". 5

هذا نص كله يقوم على التناقض، والمبالغة في الكذب.. هو أولاً: لا يؤمن برسالة النبي محمد، ويزعم أنّ القرآن ليس موحى من الله.. ثانياً: كون الإسلام عمل على تغيير الظروف الاجتماعية والثقافية، أمر لا يختلف حوله اثنان..

ثالثاً: أمّا القول بأن الإسلام يتكيف مع الظروف الاجتماعية والثقافية التي يجدها، فهو بهتان عظيم لم يقل به أي أحد من أعداء الإسلام.. المهم أنّ د. النعيم في هذا النص يجعل أي أحداث وظروف وممارسات تحدث هي إسلام، مهما شذت هذه الممارسات عن الإسلام.. وهذا هو أخطر جانب في أقوال النعيم، وأقبحه.. وسنرى ذلك بصورة مخيفة عندما نتحدث عن السلوك الجنسي، خصوصاً في كتاب (ميلودي).

الشاهد أنّ د. النعيم، ليس فقط يفكك الأخلاق، وإنما أكثر من ذلك بكثير هو يجعل كل القيم المفارقة للدين، هي إسلام!! اعتماداً على حديثه عن الوحي، الذي نقلناه أعلاه.. وحديثه، عن (المنظور التاريخي)، الذي يقول عنه: "النقطة التي أود أن أعلق عليها، هي المنظور التاريخي الذي أؤمن به.. فالآن الحديث عن حقوق المثليين والمثليات يبدو أمراً مؤسساً جداً ومقبولاً جداً.. ولكن هذا الأمر ظهر مؤخراً جداً جداً، في هذا البلد، في هذه الثقافة، كما تعلمون.. اذا رجعتم عشرين سنة في الماضي، سوف لن تجدوا نفس القدر من التسامح والتفهم لحقوق المثليين وحقوق المثليات، على النحو الذي تجدونه اليوم.. وهنا أيضاً تأتي عملية التطور والتفاعل، وهو تطور وتفاعل نحتاج أن ننظر اليه من منظور تاريخي".2

في الواقع لا يوجد شيء اسمه المنظور التاريخي، وانما هو اختراع خاص بالنعيم، ليبرر به الخروج عن الدين، وليبرر به الانحرافات السلوكية، خصوصاً المثلية الجنسية، التي ضرب بها المثل.. حسب المنظور التاريخي الأمر الذي يكون منكراً في وقت من الأوقات قد يجيء عليه وقت يصبح (أمراً مؤسساً جداً ومقبولاً جداً)، وهذا يجعله أمراً صحيحاً!! فصحة الأمر لا تقوم على موقف فكري أو ديني، وإنما يقررها الزمن فقط.. وعندما يقررها الزمن، تصبح ديناً، حسب مفهوم الوحي عند النعيم، ومفهوم المنظور التاريخي.. فالمثلية التي كانت مرفوضة، أصبحت الآن هي نفسها إسلام!! وهذا يظهر أكثر ما يظهر في تقديم د. النعيم لكتاب (ميلودي) المشار اليه، وسنرجع اليه.

تكتمل صورة تفكيك الأخلاق البشعة، بنظرة النعيم للحساب.. فهو يرى أنه لا يوجد حساب، موضوع الحساب هو طريقة من الطرق التي يلجأ الناس اليها لتعزيز ايمانهم في نظامهم العقائدي.. أسمعه يقول: "أحد الطرق التي يلجأ اليها الناس لتعزيز ايمانهم في نظامهم العقائدي، هو المبالغة في نوعية، أو كمية، الامتيازات التي يحصلون عليها، او سوف يحصلون عليها.. وفداحة الخسارة التي سيتكبدونها ان لم يلتزموا المذهب العقائدي المحدد.. وبهذه الطريقة يصبح لدى العديد من الناس احساس بالمصلحة، أو الملكية في نظامهم العقيدي، ويكونون نظرة سلبية عن النظم العقيدية الاخرى".6
هذا أمر طبيعي بالنسبة لد. النعيم، طالما أنه يرى أن الدين صناعة بشرية مثله مثل الثقافة، ويرى أنّ القرآن ليس موحًى به من الله.. لقد سبق أن أوردنا له قوله السخيف جداً عن الحساب، والوقوف أمام الله، ذلك القول الذي جاء فيه: "أنا شخصياً، مقتنع بأنه لمّا أمشي إلى ربنا اقول ليو انه دي قناعتي بالاسلام وعملتها.. حا يقول لي كويس (يؤشر بيده علامة الموافقة) اتفضل (يؤشر بيده علامة السماح بالانصراف).. طبعاً، اتفضل دي وين، انا ما عارف".7

بلغ الاستهتار بـد. النعيم ان يتعامل مع أمر خطير يتعلق بالحساب، والوقوف أمام الله، بهذه الصورة المسرحية السمجة!!
رأينا أنّ د. النعيم يستبعد المرجعية الدينية، لمصلحة المنطق المدني.. وفي الواقع لا يوجد شيء اسمه المنطق المدني، وانما هو اختراع للنعيم ولا يقوم على أي أساس، هو يقول أنه يقصد به التفكير العادي!! ومع هذا يقول د. النعيم: " في ختام هذا القسم، احب ان اعترف بأن مفهوم المنطق المدني عندي لا يزال مؤقتاً وفي طور النمو.. واعتبر انها علامة صحة أن لا أكون محصوراً في نظرة معينة أو مفصلة لهذا المفهوم ".8

المرجعية الدينية تعني الرجوع إلى الله وما أوحى به، وإلى رسوله.. فد. النعيم يستبعد الله ورسوله، لحساب المنطق المدني الذي لا يزال عنده مؤقتاً وفي طور النمو، كما يقول، ويعتبر هذه علامة صحة، هل يوجد استهتار أكثر من هذا؟!

زعم د. النعيم أنّ "الشريعة الاسلامية لم تكن أبداً أساساً لقانون الاحوال الشخصية، ولا يجب أن تكون أساساً له "9.

كما سبق أن ذكرنا، هذا يجعل جميع زيجات المسلمين غير شرعية، ولا تقوم على كتاب الله وسنة رسوله.. وعبارة (ولا يجب ان تكون أساساً له)، تعني أنّ النعيم لا يريد لزواج المسلمين أن يكون على كتاب الله وسنة رسوله، بل يريده أن يكون على المنطق المدني، وهذا هو معنى ابعاده للمرجعية الدينية واعتماده للمنطق المدني.. انظر إلى هذه الجرأة العجيبة في الكذب (الشريعة الإسلامية لم تكن أبداً أساساً لقانون الأحوال الشخصية)!! هل يمكن لإنسان كان مسلماً ويعرف حقيقة شريعة الأحوال الشخصية وكونها تقوم على الشريعة، أن يقول مثل هذا القول!! الأمر كله غير طبيعي، بصورة محيرة..

ما يؤدي اليه تفكيك الاخلاق الذي يقوم به د. النعيم هو رجوع الى مبدأ اللذة الابيقوري.. ورغم أنّ أفكاره ترجع الى الليبرالية – الاسلام الليبرالي – الا أنه تصرف كثيراً.. بنتام، أحد زعماء مبدأ اللذة عنده الخير والشر مرتبطان باللذة والألم.. فاللذة تنتج خيراً، حتى أنّ مفهوم الخير عنده أصبح مرادفاً للذة.. والألم ينتج عنه الشر.. يقول بنتام: " اللذة يجب أن تؤخذ دائماً، ومهما كانت، في أي صورة كانت، على أنها خير ".. لا ضوابط، ولا شريعة!! ويقول: " الفعل الشرير هو الذي يعود بألم مستمر أو الذي يزيد فيه الألم عن اللذة ".. والخير من وجهة نظر بنتام أمر مادي فقط، وكذلك اللذة – راجع كتاب (الأخلاق: بين الاسلام والحضارة الغربية ص36).
على الرغم من أنّ د. النعيم تتلمذ على هؤلاء الليبراليين الغربيين، الا أنه ذهب أبعد منهم بكثير، فجعل جميع المفارقات الجنسية، وصور الانحطاط الاخلاقي، هي دين – هي اسلام.

أعتقد أنّ الصورة وافية، ولكن رغم ذلك سنتناول موقف د. النعيم، من الانحرافات الاخلاقية، خصوصاً في مجال العلاقات الجنسية، وبصورة خاصة سنركز على كتاب (ميلودي).

يتبع....

رفاعة
في 28/2/2023م

المراجع:
1. محاضرتين قدمهما د. النعيم في جامعة كاليفورنيا بيركلي بتاريخ 8-10 مارس 2010م تحت عنوان (تجاوز الهيمنة: القيم الانسانية والمواطنة العالمية)  المحاضرة الثانية عنوانها: تدجين البراغماتية لرؤية تجاوزية
2. من محاضرة عنوانها (من هو الإنسان في حقوق الإنسان) ألقاها النعيم في المؤتمر الذي انعقد في جامعة هارفارد بعنوان (Rethinking the Secular) في شهر أكتوبر 2007: رابط المحاضرة:
Ref: www.hds.harvard.edu/cswr/resources/lectures/annaim.html
3. من دراسة للنعيم بعنوان: (الأقليات الدينية في ظل القانون الإسلامي وحدود النسبوية الثقافية) نشرت في دورية (هيومان رايتس كوارترلي) إصدارة فبراير 1987 - العدد 9، الصادرة عن دار نشر جامعة جونس هوبكنز، وعنوانها بالإنجليزي:
Religious Minorities under Islamic Law and the Limits of Cultural Relativism)
4.مقتطفات من محاضرة للنعيم بعنوان: ‏
Religion in the Changing World: Ancient and Modern
على الرابط التالي: ‏
http://www.youtube.com/watch?v=NKpLc450rZk
5.من مقدمة لكتاب ميلودي
6. من ورقة له بعنوان: نحو تفسير إسلامي لحقوق الإنسان
نشرت على الباب 16 في كتاب بعنوان: حقوق الإنسان والقيم الدينية.. الكتاب من تحرير عبدالله أحمد النعيم، جيرالد د. جورت، هنري جانسن، هندريك ام. فروم إصدار: اديشنز رودوبي، أمستردام الناشر: ويليام بي ادرمانز ببليشينج كومباني – ميتشيجان
7. من المحاضرة التي قدمها النعيم بالدوحة، 17/5/2013، على الرابط التالي:‏‎ ‎
http://www.youtube.com/watch?v=uild8jbimGA
8. الاسلام وعلمانية الدولة ص 145
9. كتاب النعيم بعنوان: قانون الأحوال الشخصية للمسلمين في عالم متغير: كتاب مرجعي عالمي إصدار زيد بوكس، 2002..
Abdullahi A. An-Na'im, ed. Islamic Family Law in a Changing World: A Global Resource Book. London: Zed Books, 2002. xvi + 320 pp. $99.00 (cloth), ISBN 978-1-84277-092-4; $36.00 (paper), ISBN 978-1-84277-093-1-the Limits of Cultural Relativism)
////////////////////////

 

آراء