ارهاصات (نجاح) أو (فشل) الثورة السودانية .. مقترحات لانتشال الوطن من الضياع

 


 

 

 

(1)

عشنا فى السودان منذ توقيع اتفاقية الحكم الذاتى و قيام الحكم الوطنى تجارب تراوحت بين حكم ديمقراطى حزبى غير مستقر، يعقبه حكم عسكرى قابض ثم ثورة شعبية يتبعه حكم حزبى اخر يتسم باضطراب فى الرؤى والخيارات. حدثت كل هذه التطورات التى شهدتها البلاد متأثرة بمجريات ما يحدث فى العالم من حولنا ولاسيما فى اطار اقليمنا الافريقى أو العربى ومن ثم العالمى.
فى أفريقيا اندلعت ثورات تحرير من قوى تنشد الانعتاق من الحكم الكولونيالى.. متدثرة أحيانا بشعارات مستقاة من الثورة البلشفية...و مستندة على دعم من معسكر اشتراكى، وعايشت هذه الحركات تحديات مابين معضلات بناء حكم يتناسب و معطيات مجتماعاتها والشعارات التى اتتها من وراء البحار، و شهدت القارة مد و جذب..فشل و نجاح تراوحت بين تجارب مختلفة منها تجربة الراحل كوامى نكروما فى غانا الذى نادى بحماس لوحدة افريقية و يتحول الى ديكتاتور نبذته بلاده ، و تجارب أخرى كتجربة جوليوس نايريرى فى تنزانيا الذى حاول ان يلائم بين معطيات بلاده و دعوات العدالة الاجتماعية التى انطلقت من المعسكر الاشتراكى من خلال قطبيه الصينى والسوفييتى، و تجربة سنغور .. الذى لم يشأ ان تنفطم بلاده من الفرانكفونية ودعا الى الزنوجة الخالصة لافريقيا بما ترك المجال واسعا لصراع ذات ابعاد اثنية لمكونات فى القارة، أضافة لتوجهات اخرى عديدة فى انجولا و موزمبيق و جنوب افريقيا...ظهرت فيها مواجهات تراوحت ما بين محاربة الفصل العنصرى والسعى لخلق تيار انسانى ، و تيار اخر استمد قوته من الدعوة بأن افريقيا هى الاصل فى الحضارة الانسانية و لابد من قهر من أتوا اليها من وراء المحيطات والبحار.

(2)
فى العالم العربى ..كانت حركة الجيش المصرى ضد الحكم الحزبى الديمقراطى المتعثر فى مصرعام 1952 ، و كانت لهذه الحركة التأثير البالغ على مجمل التطورات السياسية فى المنطقة..و دور الجيوش فى تفعيلها ،فالشعارات الثورية التى انطلقت من الالة الاعلامية الموجهة كانت حافزا لكثير من جيوش المنطقة لتحذو حذوها ... و هذا ما حدث بصورة أو اخرى فى العراق وسوريا والجزائر واليمن مع تململ واضح فى منطقة الخليج ، و مهما كان التقييم لما حدث فى مصر ان كان من الذين اعتبروه حكما عسكريا غاشما كرس لديكتاتورية كانت نتائجها كارثية ، أو أعتبارها حركة ثورية أيقظت المنطقة من سباتها لارتياد افاق وطنية تخرجها من قوقعة الجمود، فان مالا يختلف عليه الكثيرون بأن حركة الجيش فى مصر كان لها التأثير البالغ على مجمل الاحداث التى جرت فى المنطقة العربية بصفة خاصة و الدول الافريقية بصفة عامة.
و من هنا جاءت حركة الجيش فى السودان او ما سمى بانقلاب 17 نوفمبر بقيادة الراحل ابراهيم عبود..لتؤكد بأن الخيار الديمقراطى المتعثر بين قوى متشاكسة لا يمكن أن يكون خيارا مقبولا، ولان حركة الجيش فى السودان كان من قادته عسكريون مهنيون.لم تكن ضمن اجندتهم تثوير مبرمج لخلايا مكونات المجتمع السودانى ، انما حكم عسكرى قابض فى اطار محافظ ، و لقى الحكم فى بدايته مباركة من القوى الرئيسة فى المشهد السياسى و المتمثلة فى حزبى الاتحادى والامة ، و بتعثر الحكم العسكرى و فشله فى حل قضية الوحدة الوطنية، و انعدام المشاركة الشعبية ..كانت ثورة اكتوبر التى شاركت فى تأجيجها ما سميت بالقوى الحديثة متمثلة فى الحزب الشيوعى والمتعاطفين معه و جماعات اخرى من التيار الاسلامى والرافضين من الاحزاب التقليدية.

(3)
فى زخم ثورة اكتوبر انصبت المساعى فى حل قضية جنوب السودان ، و بذلت جهود من خلال مؤتمر المائدة المستديرة ، لتدور البلاد فى حلقة صراع خفى بين قوى تدعو لانتهاج خط جديد اساسه حكم لا مركزى او فدرالى لاقاليم السودان التى تشكو من التهميش ، و قوى أخرى ترى بأن البلاد ليست فى وضع لقبول مثل هذا الحكم وفى رأيها امكانية حل معضلة البلاد تحت حكم ديمقراطى حزبى تكون الكلمة العليا فيه للاحزاب التقليدية..والتى تدعو بصورة أو أخرى الى دستور اسلامى بينما يرى اخرون ان هذا المسار سيعمق التشظى فى البلاد.
انتهت التجربة الديمقراطية الثانية بانقلاب عسكرى عام 1969 قادته عناصر شبابية كانت متأثرة بدرجة كبيرة بتجربة جمال عبد الناصر ، و تبنت شعارات الحزب الواحد الجامع تحت عنوان جذاب :- تحالف قوى الشعب العاملة
و انطلقت اهازيج بتطبيق اشتراكية سودانية، و سرعان ما انقعشت الشعارات الاشتراكية لحكم براغماتى سانده رئيس الجمهورية .. لتصبح الامة كلها تحت سطوته المطلقة، و تدور بوصلة البلاد الى توجه اسلامى لا يبتعد كثيرا عما حدث فى مصر بعد رحيل عبد الناصرو لكن باتجاه اكثر صرامة دعا لتطبيق قوانين الحدود الاسلامية.مع تأييد من تيارات اسلامية على اساس ان الثورة اتجهت لتأصيل طال انتظارها له..و عاشت البلاد فترات قاسية بترا لاياد بالعشرات و صلب من خلاف فى بلد يعانى من المسبغة و سوء توزيع الموارد..و اعدام لشيخ صوفى مفكر عارض تلك القوانين.

(4)
بعد ان ظن الحاكم بأمر الله ان البلاد قد دانت له، اضطر لمغادرة دست الحكم، لتشهد البلاد انتخابات احرز فيه حزب الامة القومى مليون وستمائة صوتا يليه حزب الاتحادى الديمقراطى مليون و ربعمائة الف صوتا و الجبهة الاسلاميةالقومية سبعمائة الف صوتا لتبدأ رحلة المشاكسات اساسا بين الحزبين الكبيرين ، بينما ظلت الجبهة الاسلامية بما تمتلك من مقدرات مالية و عناصر شبابية نشطة تدافع عما وصفته بالتوجه الاسلامى...لتدخل البلاد فى فترة الضياع مابين الشعارات و محاولات كل لسحب البساط من الاخر .. بينما الحرب تستعر بالجنوب مع بوادر انطلاق حركات تمرد بالغرب والشرق، مما دعا قوات الشعب المسلحة لارسال مذكرة تدعو الفعاليات السياسية للوصول الى اتفاق مجمع عليه لايقاف نزيف الدم. والتقطت التنظيمات الاسلامية داخل الجيش القفاز...لياتى انقلاب عسكرى ثالث..دون ان يظهر هويته.. لينكشف الستار و تمتلأ الساحة...بشعارات من شاكلة ما لدنيا قد عملنا نحن للدين فداء.، فى سبيل الله نمضى نبتغى رفع اللواء، فليعد للدين مجده او ترق منا الدماء او ترق كل الدماء ، لتتحول الحرب فى الجنوب الى حرب دينية...وسط اناشيد جهادية...و حفلت التجربة باختلافات عميقة فى البيت الاسلامى بين الاب الروحى للحركة و بعضا من تلامذته بما يشبه ما شاهدته الساحة الاسلامية بعد اغتيال ذى النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه واغتيال امام المتقين على بن ابى طالب و ما اعقب ذلك من اغتيال لسبط الرسول الحسن بالسم و حز رأس شقيقه الحسين و تحويل السلطة لملك عضوض ....وسلسلة..الانتهاكات..التى قال عنها عراب الحركة الاسلامية فى لقائه الشهير فى برنامج شاهد على العصر .. بما معناه:- الا تدرى اخى ان تاريخك الاسلامى دموى..فى سياق حكايته المثيرة عن محاولة اغتيال الرئيس المصرى حسنى مبارك التى شارك فيها تلامذته..و استمرارهم فى التخلص من المشاركين فى المحاولة او الملمين ببعض خيوطها...شهادة لايمكن نكرانها .. لتظهر بان من تربوا على يديه..هم كانوا امتداد لذاك التاريخ المتسم بالدماء والاغتيالات..، و رغم ان انتقادات عراب الحركة للتصرفات الرعناء لتلامذته كانت صادقة، بيد ان المراقب لا يملك ان يبرأ من كانت الكلمة العليا لديه ابان السنوات الاولى التى اعقبت الانقلاب من انتهاكات لحقوق الانسان والتعذيب وتشريد الالاف من الخدمة المدنية والنظامية والاعدامات العشوائية لضباط مميزين فى اخريات رمضان 1990....و.و الخ.....تجربة مريرة ، عزلت السودان تماما من العالم..و عمقت الاحساس بان القفز فى الظلام تحت شعارات
حماسية طوباوية لاتبنى الامم ،...و عاشت البلاد ضياعا دعت احد المنافحين عن الدولة الاسلامية يقول بما معناه دالت دولة الترابى و نجحت تجربة الغنوشى.....وعن تجربة الشيخ الغنوشى حديث اخر طويل!!

(5)
المحن التى حلت بالبلاد ، مزقت القطر الى جزءين مع بروز جبهات قتال متعددة فى الغرب و جنوب النيل الازرق و بوادر تمرد فى الشرق، و ملأت منتديات الناس فى كل مكان قصص الفساد والمحسوبية، وأصبح الهروب من الوطن باى ثمن هدفا للشيب والشباب
حلم السودانيون بوطن متعاف غير متناقض قادرا ان يكون هو الذى يهدى الاخرين لارتياد السبل الكفيلة بتحقيق الاستقرار السياسى والاقتصادى والاجتماعى. وحين تفاقمت الازمة الاقتصادية بشح فى الخبز والسيولة فى النقد والوقود..خرج المارد من القمقم لتتسع موجة التظاهرات ليس فقط احتجاجا على الازمة الاقتصادية انما لتحقيق الخروج من قبضة حكم هلامى يتلاعب بقيم الدين ديدنه اثارة الفتن بين المكونات السياسية..لتمزيقها.
خرج المارد رافضا كما حدث مرات من قبل رغم القمع والقتل والتنكيل، و ظل الشباب هم رأس الرمح فى هذا الحراك الذى اذهل العالم كنموذج ثورى رائد. شباب يحلم بغد أفضل غالبيتهم غير مؤطرين سياسيا..رفعوا شعار :- حرية - سلام و عدالة .
لاشك ان هؤلاء الشباب المتطلعين لغد أفضل..كان تنظيم وقفاتهم و دعم نضالاتهم وراءها قوى لايمكن تجاهل دورها، ولكن هذه القوى لايمكن ادعاء انتمائها لجهة سياسية معينة ، ولكن اجتمعت أطياف من جهات سياسية واجتماعية متنوعة..لتساند هذا الحراك و تنظمه، ليضحى ادعاء اية جهة بأنه وحده صاحب القدح المعلى فى تحريك الشارع ابتسارا لمجمل المشهد الثورى، وخروج من ما اتفق حوله من ان تكون الفترة الانتفالية مكرسة لازالة كل مقومات العهد الغيهب ووضع الاسس الثابته لارساء نظام حكم ثابت الاركان

(6)
من أكبر معوقات قيام حكم ديمقراطى تعددى واعد...( الغيرة ) غير المبررة بين القطبين حزب الامة القومى والاتحادى الديمقراطى رغم اتفاقهما فى الخطوط العريضة لا نتشال الوطن من عهد اضطراب الرؤى، فاذا كان الخلاف حول الوحدة مع مصر ام الاستقلال فان الزمن قد تجاوز هذه الفرضية، وان كان خلافهما أيهما صاحب الكلمة العليا فان التطورات الانية أظهرت بأننا ايضا فى زمن يكون فيه اتخاذ القرارات التاريخية المتمشية مع واقع الحال هو الذى يكتب بمداد من ذهب، و يستدعى هذا التوجه ضرورة اتفاق النافذين فى الحزبين لوضع وثيقة شرف بينهما تدعم توجههما القومى. هذا الاتجاه ايضا يستدعى ان يلم الحزبان ما انفرط من توحدهما تحت مسميات مختلفة.
من الجانب الاخر هناك حزب الوطنى الاتحادى الذى خفت صوته رغم ان اعدادا مقدرة من الاتحاديين يتمشون مع طرحه الداعى للابتعاد من هيمنة راعى الحزب على مفاصله منذ ان اتحد حزب الشعب الديمقراطى مع الوطنى الاتحادى ليبرز على الساحة السياسية حزب الاتحادى الديمقراطى...و هذا الحزب اعتبره حزب وسط تتمشى استراتيجيته مع الحزب الجديد - المؤتمر- مما يجعل دعوة اتفاقهما حول اجندة متفق عليها من متطلبات تقليص اعداد الاحزاب التى قفزت الى ما فوق المائه!!
من المعوقات الرئيسة لارساء ديمقراطية مستدامة متلازمة الكراهية المستعرة ما بين معسكر من يسمون بالاسلاميين من جهة واحزاب اليسار من شيوعيين و بعثيين و ناصريين ...الخ من جهة أخرى، فقد ظل الصراع المحتدم بين الجهتين الى ما يشبه العصاب الفكرى - مما يستدعى ان يكون بين الجهتين عناصر تؤمن بأن كلاهيما ينظران لحل قضايا قطر متنوع كالسودان بزوايا تختلف عن الاخر، وعلى العقلاء منهما التوافق بأن يكون الجدال بينهما متوافقا مع ما يلتزم له الانسان الراقى من المجادلة بالتى هى أحسن..مما يفتح المجال الى ما دعا اليه د. الشفيع خضر لمساومة تاريخية بين الجهنين لادخال السودان تحت بوابة السعى لانقاذه من التيه والضياع، و تحجم الاساليب القديمة التى توصد الباب تماما أمام أى حوار عقلانى .. ليعيش الناس فى ضبابية الرفض الذى لاسقف له!! و الامم لاتبنى على أسس كراهية و رفض واقصاء انما بحوار يحفظ للكل خصوصيته..والنماذج لمثل هذه الدعوة توجد فى بلاد كثيرة منها اسرائيل التى يعيش فيها مكونات تشمل اليسار والوسط واليسار وحتى المتدينيين المتشددين ، و كلها تتعايش و لا تتعارك و تتفق حول استراتيجية المحافظة على وطنها... و لا شك ان مثل هذا الطرح يتطلب لكشف حساب لكل طرف لنقد تجاربهما مع الاقرار بان لايفلت اى مجرم من القصاص العادل فى جرائم فساد او جرائم جنائية أخرى.، و ابعاد العناصر التى شاركت و ساهمت فى النظام السابق من المشهد السياسى ريثما يتم اعداد لفترة انتقالية..قادرة على ارساء الارضية..لمرحلة ديمقراطية.. قادرة على البقاء والنمو .

(7)
لشباب الثورة ..الحق.. فى الاختيار بين هذه المكونات بعد التئام صفوفها وهى حسبما ارى:_
1--احزاب ذات توجه اسلامى يمثلانه حزب الامة القومى وحزب الاتحادى الديمقراطى.
2- حزب وسط اليسار _ يمثلانه حزب الوطنى الاتحادى وحزب المؤتمر.
3- احزاب اليسار و تمثلها الحزب الشبوعى والبعثى والناصرى ..الخ
اما اذا كانت هذه التوصيفات لا تتناسب و طموحات الشباب فلهم الحق فى اللجوء لتكوين حزب تحت مسمى حزب الحرية والسلام والعدالة او اى تسمية مناسبة اخرى...و يخيل لى ان لم تتخذ قرارات جذرية لمعالجة التشوهات التى تصاحب تناسل الاحزاب فاننا سنكون قد خنا دماء الشهداء.. والتى تنادى ارواحهم. من ناحية أخرى مخاطبة.الجبهات المسلحة...حرام عليك ان يضيع الوطن من جراء عدم التزام بعض منتسبيك باهداف الثورة .. الذى مهرنا دماءنا من اجل بنائه على اسس جديدة!!


salahmsai@hotmail.com
////////////////

 

آراء